|
سفر التكوين
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 5360 - 2016 / 12 / 3 - 15:21
المحور:
الطب , والعلوم
"العقل المحض" من أسوأ ما توهم الإنسان، متصوراً له وجوداً مستقلاً عن المادة. لا يوجد في الواقع سوى "الوعي الإنساني"، الذي نتج عن تطور المخ والجهاز العصبي لدي الإنسان، والذي مكنه من الوعي بالمادة وعلاقاتها. عقل وعلم الإنسان لا يبتكر شيئاً من العدم، فقط يكتشف أسرار المادة ويوظف علاقاتها. الحيوية كما الوعي المسمى عقل من تجليات ونتائج العلاقات المعقدة بين جزيئيات مادية. إذا أردت معرفة سر الحياة في كوكبنا، فعليك البحث حول ذرة الكربون، التي كونت بإمكانيات تفاعلاتها الكيماوية بالغة التعدد مع عناصر أخرى كل ما نعرفه من كائنات حية. العلم لا ينفي عالم الروح، لكنه يجيب على الأسئلة عن الكون والحياة إجابة مادية محضة. أصل الوجود طاقة سوداء تكثفت مادة سوداء بسيطة ومتجانسة، بعد صراع عدمي بين المادة ومضادها، تبقى منه جزيئات من المادة شكلت بالانفجار الكبير الامتداد الزمكاني، ثم أخذت في التعقد عبر التركيب والتفاعل، تلاه تكوين منظومات مادية، أنتجت الكون ثم الحياة. الامتداد الزمكاني للكون هو وليد تأثير المادة. بدون مادة لا مكان ولا زمان. مصير الكون والحياة مرتهن بإمكانيات المادة وتفاعلاتها ومآلها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. نظرية الانتظام الذاتي auto- organization or self- organization اكتشفت قدرة في المادة الخام، تتيح لها في ظروف خاصة تكوين تشكيلات منتظمة دون منظم أو مؤثر خارجي. . هي نظرية علمية مثبتة بالتجارب الفيزيائية والبيولوجية. هذه النظرية فسرت كيف استطاعت المادة الخام في بداية الكون أن تشكل ما نرصده من انتظام، وما نشهده من تنوع هائل للكائنات الحية، دون تدخل خارجي لتصميم هذه التشكيلات. "الطاقة لا تفني ولا تخلق من العدم" قانون طبيعي يحكم الطاقة الموجودة بالكون، لكن في عام 1948 أجرى الفيزيائي الهولندي "هيرمان كازيمير" تجربة معملية، أثبت فيها أن "حدوث تحدب في مجال في الفراغ" يؤدي إلى "خلق طاقة من العدم". هذا هو الرأي العلمي الآن فيما حدث في لحظة بداية الوجود، التي هي حدوث التحدب وليس لحظة الانفجار الكبير. فالطاقة المتولدة عن التحدب أنتجت كميات هائلة متساوية العدد من المادة واللامادة، دخلت في صراع تفني بعضها بعضاً، ترتب عليه لسبب مجهول بقاء كميات من المادة، هي التي صنعت الانفجار الكبير. "التحدب الكوني" الذي أدي لخلق الطاقة التي شكلت الكون، هو "تحدب زمكاني"، مثيل لما يحدثه مغناطيس صغير يجذب إبرة، أو مثل التحدب الذي تصنعه الشمس لتجبر الأرض على الدوران حولها، أو تصنعه الأرض لتأسر القمر. فليس صحيحاً ما ذهب إليه نيوتن من وجود قوة جاذبة تتسبب فيها الكتل فتجذب بعضها بعضاً. . اتضح أن هذه القوة خرافة، وأن ما تحدثه الكتل الضخمة هو تشكيل "الزمكان" حولها، بما يجبر الكتلة الأصغر على اتخاذ مسار لها حول الكتلة الأكبر، أو الانجذاب إليها والسقوط فيها أو عليها. لتقريب هذا للذهن تخيل أنك في ليلة حالكة الظلمة تقف أمام جبل لا تراه عيناك، ورأيت بقعة ضوء تدور صاعدة إلى أعلى في الفراغ. سوف تتصور أن هناك قوة تدفع بقعة الضوء في مسارها الدائري الصاعد هذا. رغم أن الحقيقة أن هناك طريقاً ممهداً في الجبل، هو الذي يلزم سيارة منيرة تحاول صعود الجبل بمسارها هذا. التحدب الناتج عن الكتل الضخمة يشكل الزمكان، فيجبر أي جسم في نطاق مجاله على الحركة في مسار محدد. الاتساع الكوني أو "الوجود الزمكاني" ليس خلاء واتساعاً حراً كما قد نتصور. إذ يحتوي على تحدبات تحدثها الكتل السابحة به، أشبه بالتضاريس في صحراء عامرة بالجبال والهضاب والوديان والسهول. لا نتحدث هنا عن المكان فقط بأبعاده الثلاثة، بل وأيضاً الزمان كبعد رابع. هذا بالطبع بخلاف أبعاد أخرى مفترضة، مازالت قيد البحث والدرس. كان الإنسان قديماً يتصور المكان ممتداً بلا نهاية في الاتجاهات الأربعة، ويتصور الزمان تياراً دائم السريان بلا بداية ولا نهاية. مع تقدم معرفة الإنسان وخبراته اليومية استطاع إدراك محدودية المكان. لكن خبرة الإنسان اليومية تجعله عاجزاً عن استيعاب حقيقة ما اكتشفه العلماء وأثبتوه رياضياً ثم عملياً بالتجربة من نسبية الزمان وارتباطه بالمكان. المكان أيضاً سواء كان ممتلئاً بالمادة أو خالياً منها ليس أزلياً ودائماً. لقد تشكل الزمان والمكان مرتبطين (الزمكان) في لحظة لا يوجد ما قبلها. قبل تلك اللحظة لم يكن هناك مكان خال، ولا زمان بلا أحداث. يتسبب قانون العِلِّية أو السببية في حيرة واختلاط الرؤى عند كثيرين، إذا ما تصوروا أنه أنه أزلي قبل بداية الكون. سؤال "ماذا قبل" الوجود المادي سؤال مضلل، لأنه لم يكن هناك قبل. وسؤال "السببية" أيضاً سؤال خطأ، لأن قانون "السببية" بدأ مع وجود الزمن، حيث تكون "العلة" سابقة على "المعلول". كما أن قانون "السببية" قانون مادي، يصف ترتيب الأحداث والعلاقات بين المواد، ومن ثم لا يجب التساؤل عنه في حالة انعدام الأحداث والمواد. لن تحصل أبداً من سؤال خطأ على إجابة صحيحة. . الإيغال في البحث عن سبب أول يسبق حالة وجود المادة بعلاقاتها ومن بينها العلاقة السببية خطأ منطقي وفيزيائي. أنت هنا تسأل عن أمر في حالة انعدام وجوده. قانون السببية لم ينتج المادة، لأن المادة هي التي أنتجته. لا ينتج اللاحق السابق. هو مجرد واحد من علاقات المادة، ولا وجود له بمعزل عنها. الصدفة والطفرات العشوائية لها نصيب كبير في الحياة الإنسانية، وفي بناء الكون فيزيائياً وبيولوجيا. كما أن قانون السببية محدود بالعلاقات المرتبطة والمتتالية زمنياً، فاقتران حادثتين متزامنتين لا يخضع بالضرورة لقانون السببية، بأن تكون إحداهما سبباً للأخرى. لذا فالذهاب بقانون السببية إلى بداية نشأة الكون خطأ علمي ومنطقي، إذ تعني البداية انعدام الزمان والمكان "قبلها". حتى كلمة "قبلها" هنا من الخطأ استخدامها أو تصورها، فلا يوجد "ما قبل" البداية الأولى لنشأة الكون، وبالتالي لا يجوز أن نسأل عن "عِلَّة" ولا "سبب أول" للحظة البداية، لعدم وجود ما يسبقها. من الصعب تمثل هذه الحقيقة العلمية وتخيلها، على من تعودوا على سيادة قانون السببية في حياتهم اليومية. الكون الذي نحيا كجزء منه هو كون فيزيائي، اكتسبت بعض عناصره صفات بيولوجية، ويقع كله في نطاق قدرات العقل الإنساني وما ينتجه من علم يتقدم باطراد. ولقد تطور العقل الإنساني وجهازه العصبي وتركيبه البيولوجي، ليكتسب صفات واحتياجات فائقة متجاوزة للفيزيقا، أسميناها "احتياجات روحية"، وهي غير المعتقدات الدوجماطيقية الموروثة. هذه "الاحتياجات الروحية" يذهب بها البعض لما يمكن تسميته "قفزة إيمانية"، يقدم عليها من يشاء متجاوزاً دائرة العقل والفيزيقا، إلى ما نسميه ميتافيزيقا. يظل لهذه الدائرة الميتافيزيقية احترامها واعتبارها، ما لم تتسلل إليها مقولات تخص عالمنا الفيزيقي، تكون متعارضة مع قوانين هذا العالم وعلاقاته. "الكمال" تصور إنساني لا وجود له في الطبيعة والكون. فعالمنا بدأ بالبساطة وأخذ في التعقد عبر مسار عشوائي، يُسقط بعضاً من التجارب الفاشلة ويستبقي بعضاً. "النقص" هو سمة الوجود وقوته المحركة نحو "الأفضل" في غياب للغائية. افتراض "الكمال" مجرد أمنية لن تتحقق أبد الدهر. فالعشوائية في الكون هي القاعدة، والانتظام هو الاستثناء الذي تفرضه المادة بقدراتها، التي يحاول الإنسان توظيفها لتعظيم الانتظام في حياته، وفي المحيط الحيوي الذي يحيا فيه. مازال العلم غير قادر على توفير إجابة واضحة قاطعة لكل تساؤلات الإنسان الوجودية والكونية، وهناك من يلتزم بالعلم محاولاً استكمال الإجابات الغامضة والمجهولة، وآخرون يقدمون على الانتحار العقلي، والقفز إلى إجابات موروثة من أزمنة الجهل المطبق. كما أن النظريات العلمية عموماً وما يتعلق منها بنشأة الكون خصوصاً تتعرض طول الوقت للنقد والتعديل وحتى للتكذيب الكامل، لكن من يقوم بهذه المهمة هم علماء يصيغون التعديلات، ويضعون نظريات جديدة أكثر دقة وقدرة على تفسير عدد أكبر من الظواهر، وعلى إجابة المزيد من التساؤلات. وليس بالطبع دهاقنة الموروث من أزمنة الجهل الغابرة. الكون الآن يتمدد، تتباعد الأجرام عن بعضها، فيتمدد معها الزمكان. هناك من يتوقع نهاية للتمدد، يعقبها مرحلة انكماش، تبتلع فيها المادة والطاقة السوداء الكون، لنعود إلى نقطة البداية. إن صح هذا فربما يتشكل كون جديد، وربما كوننا الحالي مجرد حلقة من حلقات التشكل والفناء.
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على هامش إعادة هيكلة الاقتصاد المصري
-
د. محمد البرادعي بين الحمرة والجمرة
-
مصر وصندوق النقد الدولي
-
بئس الليبرالي أنت يا هذا!!
-
من أجل الربيع المصري القادم
-
إني أختنق
-
التعثر في دنيا التابوهات
-
صهيونية إسرائيل
-
مصر وريادة السلام
-
مع مفهوم -أمن الدولة-
-
خربشات على جدار الوطن
-
نقابة الصحفيين بين السلطة الرابعة والبلطجة
-
إذا ما أطفأت تركيا الشمس
-
بداية السقوط
-
بين العاطفة والعقلانية
-
حالة ميؤوس منها
-
ما أظنها حقائق حول قضية جزيرتي تيران وصنافير
-
تنويعات على لحن السيادة المفقودة
-
حالة الاحتقان المصرية
-
مصر تبيع الترماي
المزيد.....
-
لو قربت على سن الـ40.. تغيرات ضرورية فى نمط حياتك لحمايتك من
...
-
6 أسباب وراء شعورك المستمر بالبرد في الطقس الدافئ
-
هل ارتفاع ضغط الدم في أواخر الحمل يزيد الإصابة بالقاتل الصام
...
-
الولايات المتحدة تلوم الصين مجددا على جائحة -كوفيد-19-
-
تعرف على دور التوتر فى ارتفاع نسب السكر بالدم وطرق السيطرة
...
-
فيديو.. سر الصين -العظيم- الذي كشفته الأقمار الصناعية
-
فيديو.. مركبة فضائية تلتقط مشهدا غير مسبوق للقمر والأرض
-
تمييز الحسابات الساخرة بملصقات جديدة على تويتر
-
تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك على القمر الصناعي بجودة عالية
-
5 أشياء يجب أن تعرفها عن إدمان التكنولوجيا.. يشبه تأثير المخ
...
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|