|
اثر الثقافة على التنمية البشرية
سعد سوسه
الحوار المتمدن-العدد: 5346 - 2016 / 11 / 17 - 21:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الثقافة من المفاهيم التي تحمل معاني كثيرة ، وحتى اليوم لا يوجد لمفهومها تحديد واضح ، وذلك يعود الى ما تمثله الثقافة من اتساع وشمول يمس مختلف جوانب الحياة ، الامر الذي يؤدي الى صعوبة الوصول الى الاتفاق على تعريف محدد . فالثقافة ولدت مع المجتمع البشري، وكل الشعوب تحمل ثقافة تختلف في درجة تطورها المستمدة من تطور هذا الشعب أو ذاك . والثقافة كما ذكر في المعجم الفلسفي هي ( كل ما فيه استثارة للذهن ، وتهذيب للذوق وتنمية لملكة النقد ، والحكم لدى الفرد او في المجتمع ، وتشمل على المعارف ، والمعتقدات ، والفن ، والاخلاق ، وجميع القدرات التي يهتم بها الفرد في مجتمعه، ولها طرق ونماذج عملية ، وفكرية ، وروحية ، ولكل جيل ثقافة استمدها من الماضي ، واضاف لها ما اضاف في الحاضر ، وهي عنوان المجتمعات البشرية ) (1 ) . ومن هذا نفهم بأن ( الثقافة ليست الحضارة ولكن تشكل جزءاَ منها ، كما ان الثقافة ، ليست المدنية ، ولكنها الموجه لها ) ( 2 ) حيث تشكل الثقافة ( روح الحضارة ، وعقلها ، وقلبها ، ووجدانها ، بينما تشكل المدنية مادتها وجسمها ) ( 3 ) . وكل ثقافة من الثقافات ( تظهر درجة معينة من التماسك الداخلي يجعلها تبدو كما لو كانت بناء متكاملاَ يحوي عناصر ثقافية يربطها معاَ نسيج هذا البناء ) ( 4 ) . والثقافة عموماَ تقوم على مكونين اساسيين هما المكون المادي ، والمكون اللامادي . فالمكون المادي - يشمل العناصر التي يمكن قياسها او اختبارها ، وذلك لانها مجموع ما انتجه الانسان ، وشكله على الواقع من امور مادية ، كالعمارة ، ووسائل الاتصال ، وادوات العمل ....الخ . اما المكون اللامادي - هو مجموعة العناصر التي لايمكن قياسها ، واختيارها لانها متصلة ، بالاخلاق ، والسلوك ، والعادات ، والتقاليد . وتشمل العناصر الاجتماعية . كالقيم ، والعادات . والعناصر الفكرية ، اللغة ، العواطف ، السحر . اما العناصر العقائدية ، الدين ، القيم المتصلة به ، والمنبثقة عنه . ويمكن قراءة عناصر الثقافة على انها العموميات ، وخصوصيات ، وبدائل ، وتجدر الاشارة الى ان بعض هذه العناصر ( سريعة التغير ، وبعضها متغيرات طويلة الاجل بل ثوابت تشكل الاهداف ، واسس الانتماء لكل مجتمع ، ويندرج تطورها في منظور تاريخي بالنسبة للماضي او الحاضر ) ( 6 ). وبما ان مكونات الثقافة عملية تراكمية تاريخية تخضع لعمليات التطور ، والتغير ، وليس هناك ثقافة ثابته خالدة عبر العصور ، وانما هي في حركة متصلة عبر الزمن ، ومن خلال متغيراتها الداخلة ، وما يحيط بها من متغيرات خارجية . فالثقافة باحتوائها كل هذه العناصر المختلفة تفرض تأثيرها على المجتمع ، وتشكل تراثه ، وواقعه ، ومستقبله ، فضلاَ عن اعداد الانسان المدرك لحقيقة وجوده ، والواثق بقدراته على التغيير نحو الافضل . فهي توفر للفرد صورة السلوك ، والتفكير ، وتعطيه التفسيرات الجاهزة لطبيعة الكون ، واصل الانسان ودوره في هذا الكون كما تزوده بوسائل اشباع حاجاته ، والمعاني ، والمعايير التي يميز من خلالها الاشياء والاحداث وهي كذلك تنمي الضمير لدى الفرد وتجعل له شعوراَ بالانتماء والولاء . والثقافة تعني كل المظاهر الروحية ، والمادية في المجتمع من حيث انها تصدر عن القدرات الابداعية للانسان ، او تقوم على هذه القدرات والتي يمكن تلخيصها بانها اسلوب الحياة في المجتمع بكل ما يدخل من قيم الحضارة في عقل الانسان ، ووجدانه ، وسلوكه ، وينعكس على حياته الاجتماعية ، والفكرية ، والثقافية ، والعلمية ، وما يتصل بها من تطبيقات في الحياة العامة و الخاصة . والثقافة كما يراها محمد عابد الجابري هي ( المعبر الاصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الامم ، عن نظرة هذه الامة ، الى الكون والحياة ، والموت ، والانسان ، ومهامه ، وقدراته ، وحدوده ، وما ينبغي ان يعمل ، وما لاينبغي ان يأمل ) ( 7 ) . ومن هذا العرض نـرى ان الثقافة والتقاليد في البداية كانت تعني فقط التراث ، ومجموعة العادات ، والتقاليد ، لدى جماعة معينة ، كما كانت تشمل الاعمال الفنيـة لهذه الجماعة ، ثم توسع المفهوم حتى اصبحت الثقافة تتعلق بكل جوانب حياة الانسـان ، ولكن لا يصـح ان ننظر الى الثقافة ، كمجرد معلومات ، وتراكم للمعرفة ، بل هي مجموعة من المواقف الحية والمتحركة كما انها : ذلك الكل الذي يحتوي على مجموعة من المتغيرات كاللغة ، والدين ، والاعلام ، والقيم ، والفن ، وغيرها من المتغيرات . والجوانب الموجودة في المجتمع ، والتي عن طريقها يمكن للانسان الوصول لأستيعاب ذاته وما يدور حوله ، وبالتالي تلبية احتياجاته ، ومتطلباته البايولوجية ، والروحية ، والحسية ، والعقلية ، والاجتماعية والتي اذا ما اسـتغلت الاسـتغلال الامثل تؤدي الى وصول المجتمع للتنمية البشرية المنشودة . اما التنمية البشرية : فقد حدد برنامج الامم المتحدة الانمائي ، وتقاريره الخاصة بالتنمية البشرية منذ بداية التسعينات المفهوم على انــــه ( عملية توســـــــيـع للخيارات المتاحة امام الناس ، واهم هذه الخيارت ، تحقيق حياة طويلة خالية من العلل واكتساب المعـــرفة ، والتمتع بمعيشة كريمة ، على ان هناك خيارات اخرى ، من بينها الحرية السياسية ، وضمان حقوق الانسان ، واحترام الانسان لذاته . ( 8 ) . ان للتنمية البشرية جانبين : الاول هو تشكيل القدرات البشرية مثل تحسين مستوى الصحة ، والمعرفة . والثاني هو انتفاع الناس بقدراتهم المكتسبة ، في مجالات العمل ، او التمتع بوقت الفراغ . ويعد تعريف مفهوم التنمية البشرية اكثر شمولية ، ذلك لانه يجمع ما بين الانتاج والتوزيع للسلع ، مع توسيع القدرات الانسانية ، ويحلل كل القضايا والامور في المجتمع من امور النمو الاقتصادي الى الانتاجية الى علاقات الانتاج والاستهلاك ،والادخار ، والاستثمار ، الى التجارة والتقانة ، الى التشغيل ، الى الحرية السياسية ، الى القيم الثقافية فضلاَ عن المضمون الاجتماعي من صحة وتعليم ، وثقافة ، وغيرها من امور ، وذلك كله من منظور البشر كمنتجين ومستفيدين من التنمية وبكونهم اداة التنمية ، وغايتها ، ويمكن تطبيق المفهوم على الدول المتقدمة والنامية على حد سواء . كما يختلف عن مفهوم التنمية البشرية المستدامة الذي يهتم برأس المال الاجتماعي ، والذي هو الاشكال الطوعية من التنظيم الاجتماعي الذي يعتمد بصورة اساسية على المبدأ القائل بأن على المرء ان يتجاوز المصلحة الشخصية ، ويتصرف بموجب مصلحة المجتمع او الجماعة التي ينتمي اليها . اخيرا يمكن تلخيص التنمية البشرية انها ( في توفير ، واتاحة الفرص المجتمعية ، والبيئية لنمو الطاقات الجسمانية ، والعقلية ، والروحية ، والابداعية ، والاجتماعية الى اقصى ما تستطيعه طاقات الفرد والجماعة ، ويعني هذا بعبارة اخرى توفير السلع والخدمات اللازمة لنمو هذه الطاقات المتنوعة ، وصيانتها واستمرار نموها ، وتطورها )( 18 ) .وهذا يعني ان الانسان اولا واخيرا هو العنصر الاهم في العملية التنموية لكونه الوحدة الاساسية في المجتمع وبنائه . كما انها العملية التي تستهدف الانسان وتعمل جاهده على وضع كل ما يفيده ، ويخدمه في متناول يده خاصة ، ان يحيا حياة طويلة ويكتسب المعرفة ، ويتمتع بمستوى معيشة كريمة ، فضلا عن تطوير جميع طاقاته وامكانياته لهذا الغرض لانه اساس الحركه التنموية في اي مجتمع . ويمكن تحديد العلاقة بين الثقافة والتنمية بالاشكال الرئيسية التالية . 1- صعوبة فصل التنمية عن الثقافة باى حال من الاحوال . 2- تعد الثقافة احد اهم العناصر ، التي ينبغي استغلالها في اي عملية تنموية . 3- ان اقصاء الثقافة الوطنية ، او المحلية لا يمكن ان يؤدي باي حال من الاحوال الى الوصول للنتائج الايجابية في المجال التنموي . 4- لكل ثقافة من الثقافات الاجتماعية جوانب ايجابية ، وجوانب سلبية ، واذا ما اريد الوصول الى التنمية الحقيقية يجب تطوير الجوانب الايجابية والحد من الجوانب السلبية . 5- لكل ثقافة ، وفي اي مجتمع من المجتمعات مقومات نهوضها التي يمكن توظيفها لبناء تنمية وطنية تستند الى قاعدة صلدة . 6 - ان عملية نقل التجارب التنموية لامم كانت سباقه في مضمار التنمية عموما ، ينبغي ان يكون على وفق نظرة موضوعية تأخذ بنظر الاعتبار احتياجات المجتمع ، وما يمكن ان يتلائم تطبيقه من هذه التجارب والثقافة الاجتماعية لهذا المجتمع او ذاك ، للحيلولة دون خلق حالة الاغتراب الاجتماعي . 7- اذا ما استغلت الثقافة الاجتماعية في خلق تنمية بشرية . فان التنمية البشرية بامكانها الاسهام والى حد كبير في تطور الثقافة المحلية ودفعها الى الامام . المصادر 1 . ابراهيم مدكور، المعجم الفلسفي ، الهيئة العامة لشؤون المطابع الاميرية ، القاهرة ،1979 . ص58 . 2 . باسم علي خريسان، العولمة والتحدي الثقافي، ط1،دار الفكر العربي للطباعة والنشر بيروت،2001،ص37. 3 . ابراهيم زيد الكيلاني واخرون ، دراسات في الفكر العربي الاسلامي ،ط5،دار الفكر عمان ، 1995،ص248. 4 - محمد علي محمد واخرون ، المجتمع والثقافة والشخصية ، مدخل الى علم الاجتماع ، دار المعرفة الجامعية ،الاسكندرية ، 1985 ص 199-200 6- عبد الله احمد الذيفاني ، التربية والمجتمع والثقافة ، مجلة دراسات اجتماعية ، بيــــت الحكمة ، العدد الخامس ،السنة الثانية ، 2000 ، ص 15. 7- محمد عابد الجابري ، العولمــــة والهويــة الثقافيــــة ، عشـر اطروحـات ، المسـتقبل العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، العدد 228 ، 1998 ، ص 14 ، اذار ، 2000 ،ص166-167 8 - تقرير التنمية البشرية عام 1998 ، برنامج الامم المتحدة الانمائي ، مطابع البحرين ، البحرين ، 1998 .
#سعد_سوسه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مانديلا اخر الاولياء الصالحين
-
الثورة والديمقراطية
-
الديمقراطية والشورى . الجزء الثاني
-
الديمقراطية والشورى .
-
مصادر الشرعية الجزء الثالث
-
مصادر الشرعية الجزء الثاني .
-
مصادر الشرعية
-
الثقافة وتعاريفها واطر دراستها .
-
الطبيعة الاجتماعية والسياسية للثقافة
-
أصبحت في الخمسين . نص قصير
-
العاهرة . قصة قصيرة .
-
دعاء لسيف .
-
طبيب نفسي .
-
ذاكرة ملعونه ..
-
الزانية .
-
رسائل اعتذار الى امرأة ....
-
جسدي . ق . ق .
-
ساعة حياة .. ق . ق . ج .
-
أغتصاب
-
ملل قصص قصيرة جدا
المزيد.....
-
تعهدات مكتوبة بخط اليد.. شاهد ما وجده جنود أوكرانيون مع كوري
...
-
إيمي سمير غانم وحسن الرداد بمسلسل -عقبال عندكوا- في رمضان
-
سوريا.. أمير قطر يصل دمشق وباستقباله أحمد الشرع
-
روسيا ترفض تغيير اسم خليج المكسيك
-
عائلات الرهائن الإسرائيليين يدعون حكومتهم إلى تمديد وقف إطلا
...
-
أثر إعلان قطع المساعدات الخارجية الأمريكية، يصل مخيم الهول ف
...
-
ما الذي نعرفه حتى الآن عن تحطم طائرة في العاصمة واشنطن؟
-
العشرات من السياح يشهدون إطلاق 400 سلحفاة بحرية صغيرة في ساو
...
-
مقتل اللاجئ العراقي سلوان موميكا حارق القرآن في السويد
-
من بين الركام بمخيم جباليا.. -القسام- تفرج عن الأسيرة الإسرا
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|