عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5345 - 2016 / 11 / 16 - 09:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بعد هذه المقدمة للبحث في ظاهرة الحزن وعلاقتها بالشخصية العراقية وأتخاذنا لزيارة الأربعين كنموذج للدراسة والبحث، لا بد لنا وحسب السياق العلمي أن نقدم أيضا نبذة مختصرة عنها وعن مصادرها التاريخية وكيفية تطورها مع مرور الزمن، ثم الأنتقال لدراسة الظاهرة تحت مباحث محددة تقودنا لبناء تصور حسي لمن لا يعرف أو يعيش تلك الظاهرة.
زيارة الأربعين تاريخيا
في معتقدات طائفة المسلمين الشيعة أن إحياء اليوم الأربعين عموما لكل الموتى جزء من مراسيم تكريم الموتى، أو هكذا تعارف المسلمون الشيعة وخاصة في بلدان المشرق العربي والجاليات الشيعية في الدول الأخرى على تذكير وتذكر الناس لموتاها في ذكرى يومه الأربعين، ومما جاء في الرواية التاريخية عن زيارة الأربعين على أنها جزء من عقيدة الموت وإحيائها عند المسلمين الشيعة أستنادا إلى رواية تاريخية، ومما رواه الشيخ الطوسي في كتابه "مصباح المتهجّد": "ويستحبّ زيارته(ع) فيه ـ أي في يوم العشرين من صفر ـ وهي زيارة الأربعين، فروي عن أبي محمّد العسكري(ع) أنّه قال: علامات المؤمن: ..."، وذكر من جملتها زيارة الأربعين. [ص 787، 788].
في نص الرواية هناك دعوة أستحباب لزيارة الحسين في يوم الأربعين لأنها من علامات المؤمن الخميس، وطالما جاءت الرواية أو نسبت لمعصوم فهي حسب طريقة تعامل الفه مع قوتها بعيدا عن السند جزء من السنة ما لم يطعن فيها عن طريق الرواة، فزيارة الأربعين تعني مستحب مؤكد وواجب كفائي لمن يقدر عليها، فالجذر التاريخي الفقهي يعود لهذه الرواية وتخريجاتها، وبالإشارة إلى اسمين من رواة هذه الرّواية، وهما محمد بن علي بن معمر، وعلي بن محمد بن مسعدة، وهما غير معروفين من حيث الوثاقة، فوجودهما في سند الرّواية يجعل الرّواية غير معتبرة وغير معتمدة، فلا يمكن الاستدلال بها على خصوصيَّة "زيارة الأربعين".
أما من الناحية الروائية التاريخية هناك روايات مرسلة ومتفرقة تؤكد على أن القضية ليست فقط قضية عقدية بقدر ما هي إحياء لحوادث تاريخية أسست فيما بعد لمرسومية الذكرى وجعلها بهذا المستوى من الأهتمام، منها ما ينقل المجلسي في البحار أيضاً، أنَّ حرم الحسين(ع) وصلوا كربلاء أيضاً في عودتهم من الشّام يوم العشرين من صفر. [ج 98، ص 335]. مع أنّه نقل رواية أخرى تقول إنَّ موكب السّبابا وصل مع الإمام علي بن الحسين زين العابدين إلى المدينة يوم العشرين من صفر، وأيضا ما روي عن أنَّ أوَّل من زار قبر الإمام الحسين(ع) بعد استشهاده، هو الصَّحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، وأنَّ زيارته هذه صادفت يوم العشرين من صفر، قادماً من المدينة المنوّرة. جاء في "بحار الأنوار": وقال عطاء، والصَّحيح عطية العوفي، أحد رجال العلم والحديث، روي عنه أخبار كثيرة في فضائل أمير المؤمنين(ع)، وهو الّذي تشرّف بزيارة الحسين(ع) مع جابر، كما ذكر ذلك الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب.
بالرغم مما صرح به الكثير من الأعلام العلماء والمحققين الذي درسوا القضية بمنطق عملي وتاريخي يثبت أنه من المحال بأي حال من الأحوال أن تكون القضية تأريخيا كما وردت من ناحية عامل الزمن أو ملائمتها لسير الحدث، حيث تبين أيضا من نفس الوقائع التاريخية، فإنَّ موكب السبايا كما هو معروف قبل ذهابه إلى الشّام، عُرج به إلى الكوفة ثم ساروا به إلى الشّام، وإذا كانت الفترة الزمنيَّة الفاصلة بين استشهاد الإمام الحسين(ع) ويوم عشرين صفر هي أربعين يوماً، فإنَّ هذا المسير من كربلاء إلى الكوفة ومن ثم إلى الشّام سيحتاج إلى أكثر من أربعين يوماً، وخصوصاً إذا افترضنا أنَّ موكب السبايا بقي في الشّام حوالى شهر وهذا ما يؤكّده السيد ابن طاووس، كما نقل عنه المجلسي في البحار وكِلاهما مستبعد أي وصول جابر ووصول موكب السبايا في العشرين من صفر، لأنَّ عبيد الله بن زياد كتب إلى يزيد يعرّفه ما جرى ويستأذنه في حملهم حتى عاد الجواب إليه وهذا يحتاج إلى نحو عشرين يوماً أو أكثر، ولأنه لما حملهم إلى الشّام روي أنهم أقاموا فيها شهراً.. وصورة الحال تقتضي أنهم تأخّروا أكثر من أربعين يوماً.. [ج 98، ص 336].
وعليه وخلاصة لما تقدم لا يوجد لا من النّاحية التاريخيَّة، ولا من ناحية النّصوص الشرعيَّة، ما يدلّ على زيارة الإمام الحسين(ع) فيما يُعرف بـ “زيارة الأربعين" في هذا اليوم بالخصوص، فالمراسم الّتي تقام في هذا اليوم تحديدا هي جزء من الفلكلور المحلي العراقي المرتبط تأريخيا بثقافات وعقائد دينية وأجتماعية موغلة بالقدم(*)، ومن الواقع العراقي التراثي أنتقلت هذه المراسيم للفكر العقائدي الشيعي، والمراسيم التي تقام اليوم باسم زيارة الأربعين يمكن أن تُقام في أيِّ يوم آخر، وهي مجرّد أعراف وتقاليد بالقط ليس لها مصدر تشريعيّ خاصّ يمكن الاعتماد عليه، ولم تكن معروفةً لا في زمن أهل البيت(ع)، ولا في الأزمنة الأخرى الّتي كان فيها كبار العلماء من الطّائفة الشيعيَّة الكريمة ، فاستحباب زيارة الإمام الحسين(ع) في أيّ يوم من أيّام السنة مما لا إشكال فيه والنّصوص الشرعيّة حول ذلك متضافرة ولا مجال لذكرها هنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من ميراث العراقيين القدماء مما يتشابه تماما مع المراسيم والطقوس الدينية التي تجري اليوم ما أورده التاريخ المدون عن عادات العراقيين فيما يتعلق بقضية الموت واعتقاداتهم المتوارثة أيضا من حضارة وادي الرافدين، فقد ذكرت الباحثة (م. م ايمان لفتة حسين) في بحثها المنشور بعنوان (الطقوس الجنائزية في بلاد وادي الرافدين خلال الإلف الثالث قبل الميلاد)، نقتبس منه هذا الجزء المهم الذي يؤكد العلاقة التاريخية بين الحاضر الديني للعراق موصولا بالتراث القديم ومنها قضية الأربعين، حيث تقول (إذ يقومون بتلاوة التعاويذ التي تعمل على تحسين حالة روحه في العالم الاسفل وتسهيل دخوله اليه ويبدو ان هناك معبداً خاصاً لأداء تلك الطقوس الجنائزية يصطلح عليه بالأكادية اسم " يبت كسب" وكان هناك بعض الكهنة المختصين بالندب والرثاء للأموات وهذه الطقوس تقام اما بعد الوفاة مباشرة أو في أوقات محددة ومختلفة لفترة طويلة بعد موت الشخص، ومن الطقوس الأخرى التي كانت تقام على
المتوفى للتعبير عن مشاعر الحزن نحو المتوفى إذ كان ذلك عاملاً مؤثراً في كلا الطرفين الاحياء اللذين فقدوا أحد اقاربهم والمتوفى نفسه فكان الحداد عاملاً مساعداً على تخفيف الحزن والقلق وهذا يعتبر بمثابة ضمان عدم انقطاع ذكر الشخص بين الاحياء وظهر ذلك بالأشكال المتعددة التي ذكرناها سابقاً اضافة الى ان دموع الاحياء ومراثيهم وحسب اعتقاد سكان وادي الرافدين القدماء يمكن ان توفر للموتى بعض الراحة ويوجد هناك بعض الكهنة للقيام بمراسيم الحداد بطلب من اسرة المتوفى وكذلك تلاوة المراثي ومن هؤلاء ما اصطلح عليهم باسم (كالمخو) التي تعني " الكاهن العظيم" وكذلك ما اصطلح عليهم باسم " كالو "بالأكادية و"كالا "بالسومرية وكانت الالحان الحزينة تعزف بمصاحبة المراثي التي يلقيها هؤلاء الكهنة، وكانت هناك كاهنات ايضاً يشتركن في اداء المراثي)) أنتهى الأقتباس.
ــــــــــــــــــــــــ
فيما يخص المصادر التاريخية الإسلامية فهي منقولة بتصرف من مقالة للشيخ (الشيخ يوسف سبيتي) بعنوان (زيارة الأربعين في الميزان: دراسة تاريخيَّة وروائيَّة) منشورة بتاريخ (10-12-2014).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا كل ما يمكن أن نقدمه بصورة حيادية عن الزيارة بعيدا عن الروايات المرسلة والأحاديث الموضوعة عن تأريخية الزيارة، ومن منظور منطقي عقلاني لا نريد من خلاله إثبات أو أنكار موضوعية الزيارة بقد ما يمكننا من ممارسة النقد العلمي لما ورد فيها وعنها، ويبقى المخيال الشعبي وقدرة الإنسان على التموضع الذاتي مع ذكرى أو حدث هي التي تمنح له القيمة الفعلية للممارسة بعيدا عن حقيقتها أو مقدار توافقها مع الأصل الأول.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟