|
ظهيرة مقتل - بادم - ...
يعقوب زامل الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5318 - 2016 / 10 / 19 - 15:43
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة ........ تتضخم المدينة، ويتضاءل جسد " بادم ". ومع أول خيط من خيوط الفجر، تستيقظ كالملدوغة من نومها. تجهز نفسها على عجالة. لا تمكث في المرحاض سوى لحظات. لم يتبق في أمعاء بطنها من فضلات غداء الأمس سوى القليل، ألقتها في البالوعة سريعا وتبولت، ثم شطفت مقعدها وأستها بنفس الهمة . قبل أن تنام، وكانت قد قررت منذ أيام زيارة " أبو طلبة " الإمام الكاظم بمناسبة يوم وفاته، اغتسلت، كما تفعل في كل أسبوع أو في الأسبوعين مرة واحدة. ولأن جسمها لم يتدنس بماء خصية " شغاتي " منذ شهرين كاملين، لذا ما كان عليها أن تشطفه الساعة من ادران الجنابة. كل عام وأثناء وجودها في مدينة "الثورة"، لم يفتها يوم زيارة وفاة الإمام المظلوم، والمقتول سماً بعد أن قضى سبعة عشر عاما سجينا من غير أن يعطي يد الطاعة لسلطان عصره، وكأنه يتسلق جبل من زجاج أملس. لم تضع في فمها الأدرد، غير قطعة خبز مغمسة بالشاي، ولم يدخل جوفها غير ماء عبته سريعا من بين كفيها بعد أن أحنت جذعها أمام حنفية الدار. ثم تنفست بعمق وهي تفض بعناية عباءتها الجديدة التي أشترتها من سوق " الأستربادي" في المدينة المقدسة قبل ثلاثة أعوام. ما كانت تخرجها من صندوق عرسها الخشبي الأسود المرصع بدوائر النحاس الأصفر الصغيرة، إلا عندما ترتديها في مناسبات خاصة ومتباعدة. كزيارة الإمام " أبو الجوادين "، في مناسبة وفاته كل عام. أو بمعية "شغاتي"، لبعض أقاربهما. عند قدمي " شغاتي" الذي ما زال يغط في نومه، رمت عباءتها التي هزلت من قحفة الرأس، وحال لونها الأسود القديم، إلى بقع حمراء متسخة، وهزلت لكثرة استعمالها من عند الكتفين والأسفل. لم تنس " بادم " أن ترخي خيط خيالها لذكرى أيام تولت، وهي تتنفس بالقرب من رأس العجوز، كيف كان "شغاتي" يشكو من ضيق فرجها، ويضحك مسرورا. وتلك الأسنان الصغيرة المنضدة كحبات اللؤلؤ، وتتأمل كاحلها، فتطلق آهة، ثم تخفي لسانها ولا تضحك. طوال الدقائق التي كانت تحضّر فيها نفسها للخروج، كان ينازعها هاجس، أن تنده شايبها من عز نومته، لتقص عليه حلم ظل يسر خاطرها، مذ صحت على مؤذن الفجر وأتمت صلاتها. كيف رأت في الرؤيا، ذلك الفارس النوراني الوجه، الذي أردفها خلفه على ظهر فرسه الشقراء، ساعة وجدها تتيه وحيدة في أرض جرداء. لا دان فيها ولا ودان، لولا إرادة الله، حين بعث لها خيال الشقرة ليردفها خلفه ويعود بها سالمة إلى دارها. ولولا خشيها أن يزجرها "شغاتي"، الذي قال لها أنه سيأخذ لنفسه استراحة لهذا اليوم، وينام حتى الظهر، لحققت أمنيتها أن تسره أيضا ببشارة تلك الرؤيا. منذ زفت لداره، ودخل عليها، وقبل أن يفض بكارتها، وحتى مماتها، لم تخلف له أمرا، أو ترتكب معصية لإرادته، ما زال قوله يرن في أذنيها: ــ كل الأشياء مسموحة لك، إلا أن لا تكسري لي قولا أو أمر. في تلك الساعة، التي لم تنس فيها بهجة نفسها، هزت رأسها بالموافقة، وغطت وجهها الحنطي بالحمرة الساخنة، ثم توهجت في السرير داخل "كلة" التول البيضاء. لتشرق في الصباح بين أقران لها جئن ليرين فوطة عرسها البيضاء ملطخة بالدماء. فماذا يضر لو أنها تخطت اليوم تلك الخطوط الحمراء، وخرجت مطمئنة دون أن يقول لها: " لا تتأخري ". لم تكلف نفسها هذا اليوم أن تطلب إذنا من "شغاتي"، لتركب رجليها مشيا لزيارة " أبو طلبة ". فزيارة الإمام المسموم، لم يحسبها عقلها معصية، ستدخلها نار جهنم، وستصلى جراءها بماء حِمام حتي ينزع جلدها سبعين مرة!. كل ليلة، وقبل أن تأم صلاتها خلف "شغاتي "، كانت تسبح بسابع نومة، ملتصقة بظهره. يملأن جو الغرفة الرطبة بالشخير، وبغازات الأمعاء، فيضيع الحابل بالنابل، ولا يخجلان. ماذا لو لم يحمر وجهها الساعة من خجل، ومن خوف، لو أعطت جامع القمامة بعلها إذنا من طين وأخرى من عجين وساحت مشيا في الطرقات المأهولة بالزائرين أمثالها، وصولا لصاحب الحاجات. فزيارة الله في ضريح تحت قبة الذهب والأنوار الساطعة، لا تحسب إثما!. الذنوب كثيرة يا " بادم ".. أما زيارة "أبو طلبة" فليس سوى مغفرة عظيمة من الله وشفاعة لكل الخطايا. حلقت روحها من بين جموع تكتظ بهم الطرقات والأزقة، وهامت في فضاء من التجلي، ولعلع فوق رأسها الذهب، ووهج الثريات والمرايا، وخلف ظهرها كانت عقارب ساعة كبيرة تستند على حائط موشى بنجوم وخطوط من الفيروز، تدق كل ستين دقيقة بجلال يأخذ لبها من عروق القدمين حتى نسيج جمجمتها. يشيّع الوقت آخر قتلى النهار على جسر الإمة. وليس بعيدا، ما يزال سوق مريدي، من بين الأسواق يعج بالسكان، وبتجار الدقيق الأسود وباللحم المعلب الفاسد. ينتظر مجيء العجوز المثقل ببضاعة حياته الأخيرة، بعد كل ظهيرة يوم. لا يعرف كم سيدوم موت الفسيفساء الملونة؟. ولا يعرف لماذا يجبر نفسه على إتمام صلاة الفجر، وينسل متعثرا نحو الرزق بلا همة. لا يعرف لماذا يهرس لسانه، حين يفض أكياس النفايات بكلتا يديه المرتعشتين، وبلا ملل ينبشها بحثاً عن لقمة يسد بها جوع بطنه، وبطن أبنه اليتيم. لا يدري، كيف نسي بعد حادثة الجسر، كيف طفت المسكينة "بادم" بعباءتها الجديدة، على سطح الماء لحظة، ثم أبتلعها نهر دجلة، ليطمس حتى حناء قدميها، ويضيع حلمها بماء الذهب، وشموس الثريات الساطعة، وبنومة ساعات لصق ظهر " شغاتي" حتى يأتي الليل. نسي بعد غيابها ببطن الماء، أن يتعوذ كل مطلع فجر، بالله، من شيطان الأزل والمدن الكافرة، ومن شياطين " العتاكة " الذين يجوبون الطرقات قبله، بحثا عن رزق لا يسمونه حراماً، بل شطارة. فهم يسرقون لفائف أسلاك تربط بيوت الناس بمولدات الكهرباء التجارية، ينزعون من بطونها النحاس. كما يقايضون النساء بنفس الشطارة، ما تخلف في بيوتهن من معادن الفافون والقصدير والنحاس العتيقة، حينها يغافلون السابلة، ليسرقوا أغطية منهولات المجاري العامة، ليتركوها مكشوفة.. فخاخا للأطفال والعجائز، ومكبات للنفايات على أنواعها وأحجامها. مع كل فجر طري كالعلقة، يفز " شغاتي " كالملسوع بجمرة نيزك أرض سماوية، يدور كالفلك البارد، في الأزقة والحنايا، بحثا في الأكوام النتنة، عن حفنة بلاستك، أو قطع ملابس بالية، أو قطعة خبز، أو قشرة بطيخ يابسة، يلطم بها شفار حماره الهزيل. هو لا يخاف الموت من سموم غبار المدينة، ولا من تعفن الجثث المثقبة بالرصاص على المزابل. تعود "شغاتي" رائحة كنز حياة المزابل، ومفاتيح الأوبئة، حتى أرتوى!. وما يزال أبنه في سن الحادية عاشرة، كالرضيع ينقع فراشه كل ليلة بالبول، ولا يخجل.
#يعقوب_زامل_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سفر على ذمة الدوران ..
-
لمأوى البحار، تعال.
-
لرسو الأنواء...
-
أعرني مجاورتي !..
-
البحيرة ...
-
الرتيلا..
-
الشفق...
-
حقول الرغبة..
-
...وبمغبر ثيابي..
-
صانع الفراشات الشمعية..
-
سماء زرقاء ، وكوكبنا...
-
المغزى .. بداية!
-
آ آ آخ...
-
بانتظار من سيأتي..
-
قطرة على مجسات يدي..
-
مساحة لحقول المتطلبات..
-
لعري تنفسه، جُلدكَ...
-
أنا وأنتِ بعضها..
-
جوانب من شرفات الاجنحة..
-
المتوالي المفقود..
المزيد.....
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|