|
علي جواد الطاهر .. في ذكراه العشرين
سعيد عدنان
كاتب
(Saeed Adnan)
الحوار المتمدن-العدد: 5308 - 2016 / 10 / 8 - 14:35
المحور:
الادب والفن
ها قد مضت عشرون سنة ، وانحدرت في مجرى الزمن ، منذ أن ارتحل علي جواد الطاهر ؛ لكنّها لم تزد منزلته في سياق الجامعة ، وفي سياق الأدب والنقد ، إلّا وضوحاً ورسوخاً ؛ ذلك أنّ البناء كان متين الأركان ، قويّ الأساس ، قائماً على رفيع القيم ؛ فلقد فُطر على جبلّة نقيّة صافية ؛ تُحبّ الخير والحق والجمال ، وتنفِر من الشرّ والباطل والقبح ، وتهوى الصدق ، وتعمل به ، وترمي نحو الإتقان في كلّ ما تزاول ؛ وتحبّ الناس ؛ قريبهم وبعيدهم ؛ مثلما فُطر على حبّ الأدب العربيّ ؛ في شعره ونثره ؛ فكان يقرأ ، ويحفظ ، ويتذوّق ؛ مدركاً مواطن الأصالة ، عارفاً مواضع الرداءة . ونشأ معه نزوع نحو استقصاء الحقائق ، ورغبة في الإحاطة ، وتحرّج من المسارعة في الحكم ، وأناة لا يطمئنّ من دونها ؛ وتلك خلال رفيعة إذا تمّت لامرئ أرصدته لمنزلة سامية . وأتمّت البناءَ دار المعلمين العالية بأساتيذها الأعلام الكرام ؛ محمّد مهدي البصير ، ومصطفى جواد ، وطه الراوي ، وطه باقر ؛ إذ أفاد منهم ، فظلّ يذكرهم بما هم أهله من حسن الثناء ؛ كان قد أخذ عنهم الأدب ، واللغة ، والمنهج ؛ وقبل هذا وبعده ؛ رأى فيهم ؛ العلم ، والصدق ، والنبل ، والإخلاص ، ورأى روحاً وطنيّاً صافياً لا يشوبه وضر . ثمّ اتّصلت منه الأسباب بالأدب الفرنسيّ فأقبل عليه يتزوّد منه ، في شعره ونثره ، وآفاق نقده ؛ في قديمه وحديثه حتّى تكاملت معالمه لديه ؛ لكنّه لم يطغَ عنده على الأدب العربيّ ، ولم يجعله يُغفل مزاياه ؛ واستقام الميزان بين الأدبين ؛ العربيّ والفرنسيّ ؛ من دون أن يجور أدب على أدب ، أو نهج على نهج ؛ مثلما استقام له ، من قبل ، أمر القديم والحديث في الأدب . وإذا كان من الدارسين من أعضلت به قضيّة الأصالة والمعاصرة ، أو قضيّة القِدَم والحداثة ؛ فضاع عليه المنفذ ، والتبست الدروب ؛ فإنّ الطاهر لم يتلبّث عند أيّ منهما ، ولم ير فيهما ما يقتضي النظر ؛ ذلك أنّهما عنده ركنان ؛ لا يقوم أحدهما من دون الآخر ، وأنّ الإجادة مرهونة بهما معا . لقد كان من سداد الفكر ، وصفاء الذوق ؛ بحيث يقع على الجوهر من كلّ أمر ، من دون أن يشغله ما سواه . إنّه من الصفوة التي لا يتقدّم عندها قديم على حديث ، أو حديث على قديم إلّا بالجودة ! وما الجودة عنده إلّا معنى إنسانيّ رفيع ، ومبنى محكم رصين ، ولغة ثريّة طريّة ؛ وقد انسجم المعنى مع المبنى في إطار من اللغة . وكلّ ذلك إنّما يأتي في سياق من منهج محكم ؛ أولى خطواته ؛ حبّ المعرفة ، وتطلّب الحقيقة ، والسعي نحوها ، والصبر عليها . وقد بقي مدّة حياته كلّها على نهجه في محبّة المعرفة ، والتزوّد منها ، والسعي نحو الحقيقة ، والجهر بها ؛ يقرأ ، ويسأل ، ويدوّن ، ويوازن ، ويرجع إلى ما يكتب ليزيد فيه . درّس الأدب العربيّ في دار المعلمين العالية ، بعد رجوعه من فرنسا في سنة 1954 ، ثم في كليّة الآداب ، سنوات ، وتخرّجت به أجيال ؛ ونهجه في الدرس ؛ أن يبدأ بالنصّ من دون إثقاله بالتاريخ ، وحوادث السياسة ،وآثار المجتمع ؛ غير أنّه إذ يبدأ بالنصّ ؛ لا يقطعه عن بيئته ومحيطة . وكان ، من قبل ، قد اختطّ هذا المنهج إذ ألّف : ( الشعر العربي في العراق وبلاد العجم في العصر السلجوقيّ ) فجعل التاريخ وما يتّصل به في محلّه ، وأولى الشعر مزيداً من العناية . وبقي هذا دأبه حين يكتب في الأدب القديم ، وحين يكتب في الادب الحديث . ثمّ أعرب عن موقفه من نقد الأدب ودراسته فكتب مقالة بعنوان ؛ ( النصّ أوّلا.. ) ؛ أي إنّه قبل النقد ، وقبل أيّ من المناهج ؛ وإنّما يأتي المنهج بعد النصّ لينظر فيه . ودرّس منهج البحث الأدبي ، سنين ، على ما ينبغي أن يكون عليه ؛ ثمّ وضع خبرته في كتاب رائد ، يتناول المنهج خطوة خطوة ، آخذاً بيد الدارس من بدء أمره في اختيار موضوع الدراسة حتّى يستوى عمله بين يديه متكاملاً ؛ ذلك الكتاب هو : ( منهج البحث الأدبي ) وقد طبع مرّات ، وأخذ مدى بعيداً ، هو جدير به . ودرّس النقد الأدبي الحديث ، سنين أيضا ، على نهج من الوضوح ، والاستقصاء ، وحسن البيان ، وحيّن بلغ مناهج النقد ؛ بسط القول فيها ؛ في نشأتها ، وفي أعلامها ، وفي سياقها الثقافي ، ووقف عند ماهو جوهر فيها ، وعند ما هو عرض ، وأبان ؛ أنّها كلّها إنّما تقع في مجرى التاريخ ؛ تنشأ ثمّ تأفل ؛ ولا يبقى منها حيّاً غير روحها . ووضع كتابه : ( مقدّمة في النقد الأدبيّ ) خلاصةَ علم ، وصفوةَ تجربة . ومن مزيّته في درسه الأدبيّ النقدي ؛ أنّ العناية بجانب التطبيق لا تقلّ عن العناية بالأفكار ، وكلّ فكرة إنّما ينبغي أن تأخذ طريقها إلى ميدان العمل . ومن صحة العمل واستقامته عنده ؛ ضبط اللسان والقلم ، وحسن تفهّم الشعر والنثر ، ومحاكمة الأخبار ، وجودة البيان عند الكتابة . كان يملأ الدرس علماً رصيناً واضحاً ، بلغة مقتصدة تسمّي الأشياء بأسمائها ؛ مثلما يملؤه فضلاً ونبلاً وخلقاً رفيعاً . وإذا كنت تبحث عن مصداق لمعنى " الأستاذ " بأتمّ صفاته ؛ فإنّ الطاهر ذلك المصداق الرفيع ! كان علَمَ الدرس الجامعي الرصين ؛ منذ أن رجع من باريس في سنة 1954 ؛على نهج من الجدّ والصرامة ؛ لا يُرضيه إلّا تمام الأمر على وجهه الصحيح . يرعى طلبته ؛ في كلّ شأن من شؤونهم رعاية منبثقة من نفس كريمة سمحة ؛ تصنع المعروف ثمّ تنساه ، ويفتح للنابهين منهم أبواباً . غير أنّه ، مع هذا كلّه ، لم تستغرقه الجامعة ، ولم تحجزه عمّا سواها ؛ فقد كتب في الصحافة الأدبيّة ؛ بل إنّ الكتابة في الصحافة ساوقت عمله في الجامعة ؛ وكانت تمدّه بالحيوية ، وتصله بعناصر الحداثة ؛ مثلما كان عمله الأكاديميّ يمدّ ما يكتب في الصحافة بالرصانة ، والتوازن ، وتحرّي الحقائق . وهو ، في الجامعة ، أستاذ قدير ذو مكانة سامية ، تخرّجت به أجيال ؛ وهو في الصحافة أديب ناقد جليل الشأن ، جهير الرأي ، مسموع الكلمة . وتلك منزلة قلّما أُتيحت لأحد ! وقليل مثله ؛ من وقف على القديم وقوفه على الحديث ؛ وأحاط بهما معا ؛ سعة ، وعلماً ، ونفاذ بصيرة . فقد صحب المخطوطات ، وزاول التحقيق ، وكتب في نقده . وله منهج في ذلك يقوم على إحضار مخطوطات ما يريد تحقيقه كلّها ، والنظر فيها ، ليختار من بينها أفضل مخطوطة يُخرج عليها النصّ ، مع مقابلة بالنسخ الأخرى ؛ من أجل أن يظهر الكتاب القديم كما تركه صاحبه ، أو أقرب ما يكون إلى ذلك ؛ من دون إثقال الحواشي بما لا جدوى منه . وقد حقّق على هذا النهج ؛ ديوان إبي يعقوب الخريمي بالاشتراك مع محمّد جبّار المعيبد ، وديوان الطغرائي بالاشتراك مع يحيى الجبوري ، وغيرهما . وكلّ ما حقّق إنّما هو مثال رفيع في الأمانة والضبط . وله في نقد التحقيق منحى دقيق يقوم على تصويب ما يقع فيه المحقّقون من هفوات ، أو زلل ؛ إذ يرجع إلى الأصول المخطوطة ، والمصادر القديمة من أجل أن يُقيم نصّاً على وجهه الصحيح . ويُجري تنبيهه على الهفوة والزلّة بلغة هادئة واضحة مقتصدة بعيدة عمّا يجرح ويؤذي ؛ ذلك أنّه لا يتوخّى إلّا إشاعة الصواب ، وإماتة الخطأ ! والتنبيه على الخطأ ، وإعلان الصواب ؛ سجيّة أخرى من سجاياه ؛ نشأت معه ، واطّردت ؛ فكان من ثمارها " تحقيقات عرضية " التي كان ينشرها في مجلّة " الأديب " اللبنانيّة ، ثمّ جمعها مع غيرها ممّا يشبهها وأصدرها في " تحقيقات وتعليقات " ، و مثلها " وأنت تقرأ " التي كان ينشرها في مجلّة " الفيصل " ، وكذلك " فوات المؤلفين " . وكلّها يقوم على الجهر بالصواب الموثّق بأجود المصادر . على أنّه ، مع هذا كلّه ، ذو منزلة مكينة في الأدب الحديث ؛ لا تقلّ عن منزلته في الأدب القديم ؛ فقد زاول النقد ؛ فكتب عن الشعر ، وعن القصّة ، ووقف عند الجيّد فيهما مشيداً ، معزّزاً ، ونبّه على موضع الرداءة ؛ حتّى بلغ رفيع المنزلة في ميدان النقد الأدبي ؛ يُطلب رأيُه ويُسمع قولُه . ورائده الذي يسير به بين جنبات الأدب على هدى وبصيرة ؛ ذوق رهيف لا يشتبه عليه جيّد برديء ، وعلم رصين يُنزل الأشياء منازلها ، ويُدرك ما بينها من وشائج ، ونزوع نحو الخير ؛ يريده للفرد مثلما يريده للمجتمع ؛ حتّى أنّه لا يُعنى بأدب غير مبنيّ على عناصر الخير ، يقدّم الإنسان ويُعلي من شأنه . وممّا كتب في سياق الأدب الحديث " محمود أحمد السيد رائد القصّة الحديثة في العراق " ، و" في القصص العراقي المعاصر " و" روايات ومسرحيّات في مآل التقدير النقدي " ، وغيرها . ومع النقد ، أو قبله ، كتب المقالة الأدبيّة ؛ على شرطها الذي يجعل منها نوعاً من أنواع الأدب ، ويعيد لها مجدها الذي كانت عليه في زمن مجلّة ( الرسالة ) وأعلام كتّابها ، سادة النثر العربيّ الحديث . وله منها : ( وراء الأفق الأدبيّ )، و( أساتذتي ومقالات أخرى ) ، و( الباب الضيّق ) ، و( كلمات ) وغيرها . وكلّها ممّا بُني على الحقّ والخير والجمال ، على نحو من الائتلاف والانسجام . كان ملء الجامعة ، كما كان ملء الصحافة الأدبيّة ؛ لا يُذكر إلّا بالثناء الجميل ؛ إنّه معنى جليل في الأدب العراقيّ الحديث ، وصفحة كريمة ناصعة في تاريخ الدرس الأكاديمي ! وقد كان من سعادتي أن صحبته عشرين سنة ؛ بشهورها وأيّامها ؛ فشهدته في قاعة الدرس ، وفي مجالس العلم ، وشهدته في بيته ؛ فكان على حال واحدة من الصدق ، والإخلاص ، وانطباق الظاهر على الباطن . وإنّي إذ أذكر أستاذي الطاهر ، بعد عشرين خلت ؛ فإنّما أذكر به خلالاً حميدة ، وفضائل زكيّة ، وعلماً أصيلاً ، وأدباً رفيعاً ، وأذكر به كريم ما سنّ من سنن ؛ فاستعيد قول أبي تمّام : ولولا خلال سنّها الشعر ما درى ... بناة العلا من أين تؤتى المكارم ...!
#سعيد_عدنان (هاشتاغ)
Saeed_Adnan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبد الواحد لؤلؤة ...
-
أمين نخلة في أمر عجب ...
-
علي عباس علوان في ذكراه
-
زكي نجيب محمود في أفق الترجمة
-
الشعر الجديد
-
الكرد في شعر الجواهري
-
عدنان العوادي
-
حياة شرارة
-
لويس عوض .. أيضا
-
علي جواد الطاهر
-
إبراهيم الوائلي
-
الجرجاني .. الشاعر أو ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
-
لويس عوض الناقد
-
أحمد أمين
-
محمد حسين الأعرجي
-
عبد العزيز المقالح
-
عبد الرزاق محيي الدين
-
زكي نجيب محمود... الناقد
-
في معنى ألأسطورة
-
التقاليد الجامعية
المزيد.....
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
-
مسيرة طبعتها المخدرات والفن... وفاة الممثلة والمغنية البريطا
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|