|
من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق 2
عبد الرحيم العطري
الحوار المتمدن-العدد: 1411 - 2005 / 12 / 26 - 08:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من مفكرة دراسة اجتماعية تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق - 2 - عبد الرحيم العطري على امتداد أربعة شهور من سنة 2001 كان السؤال الشقي يتأجج في الأعماق بحثا عن إجابات ممكنة و مقنعة لكل هذا اليأس المعتق ، و لكل هذا البؤس المجتمعي الذي " يرفل " فيه هذا المغرب غير النافع ، كنا نعانق الألم الباذخ و الجرح الغائر لواقع يرفض الارتفاع ، و نحن نشارك في استشارة وطنية للشباب بجهة عبدة دكالة . كنا نرتحل عبر الأزمنة و نحن نعاين الفداحة القصوى ، نصل إلى قرى و هوامش خذلها الجميع ، و تركوها تنتحب و تبكي حظوظها التعسة ، و ننتهي بعدئذ إلى أقاصي الرفاه و الثراء ، لنغوص مجددا في رحلة أخرى أكثر عجائبية ، نبحث على طول الطريق عن حبات فهم تجعلنا نهضم هذه المسافات الضوئية بين مغارب اليوم ، لكننا نعجز عن الفهم . هذه إذن أشياء و أشياء سقطت سهوا و قصدا من مفكرة بحث وطني حول الشباب ندعوكم لمعانقتها بكل امتلاء . الحبة الحرام في الهامش تنكشف الحقائق من غير زيف ، في الهامش يلوح الواقع العنيد ملء الانكسار و التشظي ، و يصير ضروريا التحرر من كل حكم مسبق لم يختبر واقعيا ، و في ذات الهامش المفتوح على كل الاحتمالات كان لنا موعد مستمر مع ظواهر و مواقف تستعصي على الفهم ، ففي إحدى الأزقة المتفرعة من حي سيدي عبد الكريم بأسفي ، بدا أن الكثافة السكانية مرتفعة للغاية ، و أن الأطفال قد ملأوا الزقاق عن آخره مع العلم أن مرورنا لم يكن مصادفا لأية عطلة مدرسية تبرر استعمار هؤلاء الصغار لهذا المجال . قليلة هي الأبواب التي شرعت في وجهنا من هذا الزقاق ، كان الجواب الجاهز الذي يأتينا من وراء الباب " مول الدار ما كاينش "، و حتى الأبواب التي انفتحت بعد لأي فقد فتحتها في وجهنا نساء لا يبدو منهن أي شيء ، حسبنا أنفسنا في دولة أخرى غير المغرب ، لباس أسود داكن و فتحة تكاد تبين تلوح منها عين منقوعة في الهم و الألم " الله يخليك إلا جا راجلي راه غادي ينوض شي صداع " ، تأكدي أيتها السيدة بأننا لا نريد أن نجلب لك أية متاعب ، كل ما نريده هو استقصاء آرائك بخصوص جملة من القضايا " إذن سربي دغيا قبل ما يجي ". تواترت الأسئلة و انكشف الحزن الغائر في الأعماق ، فالسيدة انفرض عليها فرضا الانخناق وسط ثوب خشن باهت اللون، و انفرض عليها أيضا أن تكون مثل الأرانب لا تنتهي من حمل إلا لتنخرط في آخر ، فقد ولدت لحد ساعة ملء الاستمارة ستة أطفال أكبرهم لم يتعد الثانية عشرة من عمره ، كان من بين الأسئلة سؤال عن استعمال وسائل منع الحمل ، قالت بصدده أن زوجها الفقيه في أمور الدين يقول بأن تلك الحبوب هي حرام حرام ، و كل النساء اللواتي يستعملنها سيدخلن جهنم ... هذا هو اعتقاده الراسخ ، و هذا ما فرض عليها كرها و قسرا ، مثلما انفرض عليها الانسجان في قفص يقال أنه ذهبي ، استحالت معه إلى آلة بيولوجية تختص في تفريخ أطفال لا مجال أمامهم غير ذات الزقاق النتن ، و الحبة الحرام تتحمل المسؤولية التاريخية في كل ما وقع و ما سيقع . تركنا الزقاق المتخصص في إصدار فتاوى التحريم و التحقنا مجددا بعوالم أخري تحكي مغربا بالغ التعقيد يحتضن مغارب شتى تتنافر و تتجاور بشكل سوريالي ، فما الحرام ؟ الانتهاء من العمل كآلة بيولوجية ؟ أم تفريخ الإعاقة الاجتماعية ما دام كل وارد جديد هو في البدء و الختام و وفقا لشروط الولادة ، هو مشروع معاق اجتماعي سيساهم بدوره في توسيع خريطة الفقر و لما الإجرام و العنف . مائة درهم بالمعاشات قريبا من أسفي كان لنا أكثر من لقاء مع شيب و شباب يشكلون الاستثناء ، ربما الأمر راجع إلى ما يحكى عن هذه القبيلة من حكايا يتداخل فيها الأسطوري و الواقعي، فالمعاشات في المخيال الجمعي القروي يؤشرون على انتماء قبلي يتخصص المتحدرون منه في علاج الحيوان بل و حتى الإنسان الذي أصيب بالسعار ، و بلغة المعاشات فهم يعالجون الحيوان " المجهول " أي المصاب "بالجهل " ، و أكثر من ذلك فلحم البقرة التي فرط أصحابها فيها إلى ألم بها السقم اللعين ، يأكلونه و لا يحدث لهم أي شيء ، فما هذا هل صرنا بطبنا الشعبي التقليدي أكثر تقدما على آل الشمال الذين ما زالوا لحد الآن يبذلون قصارى الجهود من أجل إيجاد لقاح ناجع لمرض جنون البقر ؟ الأمر إذن يستدعي دراسة أنثروبولوجية معمقة ، و لما استعمالا لمنهج الملاحظة بالمشاركة كما اقترحه مالينوفسكي ، فالظاهرة مثيرة للغاية ،و الانفتاح عليها ستكون له فوائد كثيرة ، لكن ما مطامحنا المعرفية تتحقق دوما ، فالظواهر الاجتماعية تستغرق المرء و تأخذه من حقل لآخر ، الشيء الذي يجعل كثيرا من الدراسات مجرد مشاريع مؤجلة أو عناوين مكتوبة أسفل المذكرات . و ما دام حقل المعاشات حابلا بالغرائبي ، فإن إجابات كثير من الشباب المعاشيين ، كانت تحمل كل أوجه الغرابة و العجائبية ، فجوابا عن سؤال يتعلق بالراتب الشهري الذي يريد أن يتقاضاه ، أجاب أحد الشباب المتعلمين بأنه لا يريد أكثر من مائة درهم في الشهر ، أي نعم يريد مائة درهم فقط ، إنه يحلم بهذه الورقة النقدية فقط، يكفيه هذا الراتب البخس لهزم كل إكراهات اليومي المتناسلة بغير انقطاع . كم هي صغيرة و عادية أحلام الهامش ؟ فقط نريد كساءنا و خبزنا ثلاث مرات كما دعا المسيح يوما ، و لا نريد لا إعادة لتوزيع الثروة من جديد و لا حلولا راديكالية كتلك التي يكتبها آل اليسار النبيل ، هذا هو لسان حال الشباب في تلك المنطقة النائية ، فلماذا نحول بينه وبين ما يحلم به و لو كان عاديا جدا ؟ تبا لنا من باحثين و تبا لنا جميعا من أفراد وطن يئد الأحلام و يبخسها مهما كانت صغيرة و عادية ، ألا يمكن لكل هذه المؤسسات و الهياكل الرسمية و غير الرسمية التي بات يختنق بها المشهد العام ، ألا يمكنها و هي التي تتبجح دوما بالانحياز لللقابعين في الأسفل أن تحقق و لو جزءا ضئيلا من هذه الأحلام العادية ؟فمتى يحدث ذلك إن جاز لنا أن نحلم مثل المعاشيين بمثل هذه التفاصيل العادية ؟
ضريبة الإصلاح لما وصلنا إلى الجديدة وجدنا تؤبن ثلاثة من عمال بلديتها رحلوا عن زمنها المعطوب اختناقا بسبب غازات سامة متسربة من إحدى البالوعات التي كانوا يهمون بإصلاحها ، كانوا يريدون تسليك مجاري المياه و علاجها من الاختناق ، فماتوا بالاختناق ، أهذا هو قدر كل من يريد إصلاح العطب ؟ أن يكون أول مكتو به و أبهى ضحاياه ؟ خرجت المدينة تبكي الراحلين خطأ ، ترفض التلوث الذي يقذفه إليها معمل الخميرة ، و خرج الراكبون على مثل هذه القضايا لتلميع صورهم و الظهور بمظهر المدافعين عن مصالح الناس ، و قليلون جدا هم الذين تفضلوا بعيادة آل الضحايا و مساندتهم في هذا المصاب الجلل ، حتى البلدية ذاتها لم تعترف بأن الموت يدخل في خانة حادثة الشغل إلا بعد لأي ، كان بعض جهابذتها يريدون ربط المسألة بعدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة . المهم في النهاية الكل يتهرب من المسؤولية و يلقي اللوم على الأقدار و الحظ التعس و سوء الطالع و ظروف الطبيعة ، هكذا نحن ندس الرؤوس في الرمل ، و نتهرب من مواجهة الحقيقة . لم يكن ممكنا و الحالة هذه أن نحمل أقلامنا و استماراتنا و نتوجه إلى أحياء المدينة، فالكل منشغل بهذا الموت الفجائعي ، انتظرنا بضعة أيام حتى بدأت المياه تعود إلى مجراها الطبيعي و انطلقنا من جيد نتسكع في مغارب المغرب ، من دور مهددة بالانهيار و أناس شبه ميتين بسبب الفقر و الضياع إلى عوالم من ألف ليلة و ليلة و مواطنين من الدرجة الأولى ، و إلى جماعات منسية و أخرى تعتبر الأولى على صعيد المغرب من حيث مداخيل الميزانية .و على امتداد الرحلة كلها كانت ضريبة الإصلاح تعنف التفكير ، هل كل راغب في إصلاح العطب يكون أول المكتوين بذات العطب ؟ طبعا فالعطب يتمكن من التجذر في المكان الذي يكون فيه ، و بالتالي فهو بآلياته و المستفيدين منه بالدرجة الأولى يرفضون أي وارد جديد و أي راغب في التغيير و الإصلاح ، و منه تنطلق المقاومات ومحاولات الاحتواء و التدجين و ، عندما تفشل صيغ الترغيب و الترهيب الأولية ، تحسم النهاية لصاح الأقوى الذي هو العطب في مجتمع مجبول على العطب ، لهذا تكون ضريبة الإصلاح في الغالب باهظة و مؤلمة بالنسبة لمن يحمل لواء الإصلاح و التغيير . فها العمال السماكين أرادوا إصلاح الاختناق فماتوا اختناقا. يتبع
#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
افتتاح وحدة للتكوين و البحث في العلوم الاجتماعية و التنمية ا
...
-
من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق
-
حوار مفترض مع الشاعر الراحل محمد علي الهواري
-
أين الجثة ؟
-
كوم . إيكار
-
تكريما لروح بول باسكون
-
في لقاء حميمي مع المبدع المسرحي العراقي جواد الأسدي
-
حوار مع القاص المصري محمد عطية محمود
-
التلقيح السوسيو سياسي بالمغرب :عقاقير سياسية لتسكين التوتر ا
...
-
سؤال الدعارة الرخيصة..تراجيديا الأجساد المتهدلة!
-
سكن هامشي أم سكان مهمشون؟
-
هل تصير الأسرة بسبب التوقيت المستمرمجرد مؤسسة بيولوجية للإنج
...
-
السوسيولوجيا معرفة تعيش حالة الاستثناء
-
من يضع الملح فوق جراح البيضاء؟
-
صيف حار بالرباط: تعديل حكومي في الأفق .. لا تعديل في الأفق
-
ما بعد 16 ماي: الكتابة بالإبر فوق العيون: هل سيتوقف البحث عن
...
-
أحداث 16 ماي من زاوية أخرى : حصاد الهشيم أو صناعة الكاميكاز
-
الباحث الاجتماعي عبد الرحيم العطري في حديث للأحداث المغربية:
...
-
النخبة المثقفة بالمغرب : من سنوات الجمر إلى التدجين و التبخي
...
-
حوار مع الوزير المغربي الأسبق في التعليم العالي الدكتور نجيب
...
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|