أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الرحيم العطري - من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق















المزيد.....

من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق


عبد الرحيم العطري

الحوار المتمدن-العدد: 1406 - 2005 / 12 / 21 - 05:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


على امتداد أربعة شهور من سنة 2001 كان السؤال الشقي يتأجج في الأعماق بحثا عن إجابات ممكنة و مقنعة لكل هذا اليأس المعتق ، و لكل هذا البؤس المجتمعي الذي " يرفل " فيه هذا المغرب غير النافع ، كنا نعانق الألم الباذخ و الجرح الغائر لواقع يرفض الارتفاع ، و نحن نشارك في استشارة وطنية للشباب بجهة عبدة دكالة .
كنا نرتحل عبر الأزمنة و نحن نعاين الفداحة القصوى ، نصل إلى قرى و هوامش خذلها الجميع ، و تركوها تنتحب و تبكي حظوظها التعسة ، و ننتهي بعدئذ إلى أقاصي الرفاه و الثراء ، لنغوص مجددا في رحلة أخرى أكثر عجائبية ، نبحث على طول الطريق عن حبات فهم تجعلنا نهضم هذه المسافات الضوئية بين مغارب اليوم ، لكننا نعجز عن الفهم .
هذه إذن أشياء و أشياء سقطت سهوا و قصدا من مفكرة بحث وطني حول الشباب ندعوكم لمعانقتها بكل امتلاء .
بيع الوهم
و أخيرا انقدفنا إلى مدينة تائهة غاب عنا التخطيط، و تنكر لها الجميع ، جئنا إلى أسفي نبغي استقصاء آراء و مواقف الشباب تجاه العديد من القضايا و المشاكل التي تهم أبعاده النفسية و الاجتماعية الاقتصادية و السياسية و الثقافية ، نرتحل عبر أزمنة شتى و نزور مغارب شتى تتجاور و تتنافر في زمن مغربي رديء ، لا يقدم لشبابه غير اليأس المعتق ، و تحديدا في هذا الهنا حيث يصدر ماروك شيمي و باقي معامل التصبير مزيدا من السموم إلى رئات المسفويين الذين تعودوا على الخذلان و نكران الجميل ، فبحرهم لم يعد يجزل العطاء ، و معامل السردين تحولت إلى أطلال، و بالمقابل فقد تعالت ثقافة الهامش و الإجرام في أغلب فضاءات المدينة نكاية في الواقع و مهازله .
كان البدء من شنقيط ، قريبا من سيدي عبد الكريم ، و شنقيط هذا الحي المسفيوي المغربي معتل بداء المسخ الإسمنتي و محتضن لكل ملامح البؤس و الضياع المجتمعي .. عطالة .. و فقر و دعارة و ألم باذخ يربض فوق الصدور .
دخلنا شنقيط مسلحين بأخلاقيات البحث العلمي ، و في أعماقنا يلتهب السؤال حول دواعي التهميش ، و مع توالي المقابلات و ملء الاستمارات مع الشباب المبحوثين تبين لنا أننا نبيعهم الوهم ، لقد اعتقدوا بأننا نمثل " غودوهم " المنتظر ، الذي بمقدوره إخراجهم مما هم غارقون فيه من بؤس و عطالة ، تزاحموا في البداية حولنا ثم نظموا أنفسهم تلقائيا في طابور طويل للظفر بفرصة الإجابة عن أسئلة الاستمارة ، لقد بينا لهم الهدف من البحث ، و الذي لا يتعدى الغايات العلمية ، لكنهم كانوا أكثر اقتناعا بأن الإجابة على أسئلتنا ستجعل ساعي البريد يطرق بابهم قريبا ، حاملا إليهم خطابا رسميا يؤكد على ضرورة الالتحاق بعمل على " طابلة المخزن " .
ألا لعنة الرب علينا من باحثين ، بعناهم الوهم و جعلناهم خطأ يتعلقون بحبال أمل كاذب ، بعدما فعلت فيهم العطالة فعلتها الشنيعة ، قدما لهم حقنة مخدرة تؤجل الحراك و الثورة لا محالة و تضمن تكريس و إعادة إنتاج نفس أوضاع التهميش و الإقصاء .
لكن مع غروب الشمس لم يعد لهذه الحقنة أي تأثير ، فقد التحق أغلب المستجوبين " برأس الدرب " لتبادل " القرقوبي " و " الكماية "و " الروج " ، حينها برحنا المكان خوفا من حدوث المتوقع و غير المتوقع في عالم يكون فيه الحوار ابتداء و انتهاء بشفرات الحلاقة و السيوف و السكاكين .
الدعارة الحلال
لم تكن تلك المساحيق الرخيصة التي وضعتها بغير اتساق على وجهها ، لتمنع عنها الكبر ، لم تكن ابتسامتها العريضة لتضمر ذلك الألم القابع في عينيها ، لكنها لم تفقد بعد بهاء الأنوثة ،و إن كانت قد تجاوزت الخمسين بكثير حسبما هو مثبت في أوراقها الرسمية . بعدما غادرتنا فتاتها الوحيدة التي أطفأت شمعتها السادسة عشرة ، و التي لم تعرف إلى دفء الأب سبيلا لحد إجراء المقابلة ، أصرت السعدية أن " نتشاركو" الطعام و أن تقدم عنوان الكرم المغربي ، " أتاي منعنع بالنعناع العبدي زاعم يرد المجاج " ، هذا فعلا ما نحتاجه أيتها السيدة المحترمة ، فملء الاستمارات يتطلب مجهودا استثنائيا ، و لا بد من لحظة شاي حتى يستطيع المرء مواصلة هذا العمل الذي لا يريد أن ينتهي .
حول " الصينية " بدأت السعدية تكشف أوراقها و تسأل مع أهل الغيوان " مال كاسي وحدو نادب حظو ، هاذا وعدو ..وا هيا الصينية "، جاءت المسكينة من " أحد حرارة " ، قرية تبعد عن أسفي بعشرين كيلومترا على الأكثر ، استقر بها المطاف في شنقيط ، وقعت في حب " بحري " أي الرجل الذي يشتغل بالبحر ، حملت منه فهرب نحو المجهول " يقولون أنه في أكادير ، و قد أرسلت له صورة بنته ، و لكنه لم يكترث للأمر "
منذئذ و السعدية التي لا تحمل من السعد إلا الاسم ، تناضل ، أي نعم تناضل في صمت مالح ، تبيع زبناءها لحما مملحا ، تبيعهم لحمها و عرقها لمجابهة تكاليف الحياة التي تكشر عن أنيابها في كل حين ، فلكي تطعم الفتاة ،و تهزم فواتير الماء و الكهرباء و إيصالات الكراء تضطر لامتهان أقدم المن ، لقاء خمسة دراهم أحيانا ، أي نعم إنها تفعل ذلك من أجل هذا الثمن البخس ، كي تطفئ نار جوع طارئ أو مرض زائر بغير استئذان .
خبث الواقع يدعوها للاستجداء بجسدها وسط زحام البروليتاريا الرثة ن تبيعهم بضاعة فاتها قطار الزمن السريع ، و كلها أمل في أن تكون في مستوى هذا اليومي المخادع .إنها الدعارة الحلال في دنيا الفقر و الفاقة يا سيدتي ، فلا تبك زمنا فادحا و حارقا لهذه الدرجة . لقاء الأجر ذاته عرضت علي السعدية " لذتها الرخيصة " ، قدمت لها ورقة نقدية لم أعرف قيمتها لحد الآن تاركا ورائي بابا مهترئا يحدث أزيزا خبيثا ، و في الأعماق تشتعل تساؤلات شقية عن انحرافها الحلال ، و عن المسؤول تحديدا عما هي فيه ، أ هو حب ال " بحري " ؟ أم الرحيل القسري من أحد حرارة ؟ أم نحن جميعا ندفعها بصمتنا لتستمر في بيع لحمها بالتقسيط المريح ؟
شيخ الثوابت
المسافة التي تفصل " أحد الثوابت " عن أسفي لا تتجاوز الأربعين كيلومترا ، لكن بالرغم من هذا القرب الجغرافي ، فثمة مسافات ضوئية بين المكانين . وصلنا إلى أحد الثوابت بعد استعمال مختلف وسائل النقل الحديثة و الأخرى الغارقة في القدم ، لنجد أنفسنا بعد قضاء أربع ساعات في رحاب قرية شاحبة يقطنها أزيد من 700 نسمة و لا تتوفر حتى على مدرسة ابتدائية بسبب الحسابات الرخيصة لآل المجلس القروي لاثنين الغيات ، فقط يوجد مستوصف يتيم لا يستطيع هزم حتى جرح بسيط ، ذات المستوصف البائس ما كان له أن يكون لولا القلوب الدافئة للراهبات اللواتي مررن بالمنطقة خلال الستينيات من القرن الفائت .
إن المخزن كنظام يؤسس وجوده على شخصنة العلاقات و الأنساق و التحرر بالتالي من المؤسساتية ، يعبر عن استراتجيته و حضوره بكل وضوح بأحد الثوابث ، حيث لا حركة و لا سكون إلا بإيعاز من " الشيخ " الذي يجسد النظام المخزني و يحقق امتداده في نسيج هذه القرية المغلوبة على أمرها .
فهذا الشيخ الطاعن في السن و الممثل الشرعي للقايد في تراب الثوابت هو الآمر الناهي في هذه الدويلة الإقطاعية ، و هو الذي يساهم في ترسيخ الهاجس المخزني و إعادة إنتاج صيغ الإقطاع ، عن طريق " السخرة " و " الفريضة " و " الهدية " و " التويزة الإجبارية "..
لقد أخبرنا مجموع المبحوثين أنهم لا يهابون شخصا في هذا العالم أكثر من الشيخ و زبانيته من المقدمين ، و أنهم يضطرون للعمل " بالسخرة " في حقوله المترامية اتقاء لظلمه و جبروته ، في الثوابت إذن لا كلمة تعلو على كلمة الشيخ و بعدا على كلمة المخزن الغائر في تضاريس الحياة الاجتماعية بالرغم من غيابه المادي من إمكانات هذه الحياة ذاتها ، فالحضور المخزني هنا مجسد من قبل الشيخ فقط ، و لا تلوح بالمرة أية مؤسسة دولتية أخرى خارج المستوصف الذي جاد به عطف الراهبات .هذا ما انكتب في حكايا أحد الثوابت البائسة ، و هذا ما يتواصل إلى حدود اللحظة في تفاصيل المغرب العميق .
يتبع



#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مفترض مع الشاعر الراحل محمد علي الهواري
- أين الجثة ؟
- كوم . إيكار
- تكريما لروح بول باسكون
- في لقاء حميمي مع المبدع المسرحي العراقي جواد الأسدي
- حوار مع القاص المصري محمد عطية محمود
- التلقيح السوسيو سياسي بالمغرب :عقاقير سياسية لتسكين التوتر ا ...
- سؤال الدعارة الرخيصة..تراجيديا الأجساد المتهدلة!
- سكن هامشي أم سكان مهمشون؟
- هل تصير الأسرة بسبب التوقيت المستمرمجرد مؤسسة بيولوجية للإنج ...
- السوسيولوجيا معرفة تعيش حالة الاستثناء
- من يضع الملح فوق جراح البيضاء؟
- صيف حار بالرباط: تعديل حكومي في الأفق .. لا تعديل في الأفق
- ما بعد 16 ماي: الكتابة بالإبر فوق العيون: هل سيتوقف البحث عن ...
- أحداث 16 ماي من زاوية أخرى : حصاد الهشيم أو صناعة الكاميكاز
- الباحث الاجتماعي عبد الرحيم العطري في حديث للأحداث المغربية: ...
- النخبة المثقفة بالمغرب : من سنوات الجمر إلى التدجين و التبخي ...
- حوار مع الوزير المغربي الأسبق في التعليم العالي الدكتور نجيب ...
- حوارمع كاتب الدولة الأسبق في الرعاية الاجتماعية والأسرة والط ...
- سوسيولوجيا الشباب : من الانتفاضة إلى سؤال العلائق


المزيد.....




- رئيسة الاتحاد الأوروبي تحذر ترامب من فرض رسوم جمركية على أور ...
- وسط توترات سياسية... الدانمارك تشتري مئات الصواريخ الفرنسية ...
- لافروف: سلمنا واشنطن قائمة بخروق كييف
- الجيش الإسرائيلي يواصل انتهاك اتفاق الهدنة مع لبنان
- ترامب يبحث مع السيسي -الحلول الممكنة- في غزة ويشيد بـ-التقدم ...
- بعد قرارها بحق لوبان... القاضية الفرنسية تحت حراسة مشددة إثر ...
- زلزال ميانمار المدمر: تضاؤل الآمال في العثور على مزيد من الن ...
- ماذا وراء التهدئة الدبلوماسية بين باريس والجزائر؟
- -حماس- تدين مقتل أحد عناصر الشرطة في دير البلح وتشدد على أهم ...
- زيلينسكي يؤكد استلام أوكرانيا 6 أنظمة دفاع جوي من ليتوانيا


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الرحيم العطري - من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق