|
الثقب الاسود - قصة قصيرة
حسين طالب عذيب
الحوار المتمدن-العدد: 5255 - 2016 / 8 / 15 - 02:05
المحور:
الادب والفن
شيء ما صدمه بقوة، او ربما قدم كبيرة ركلته، او هوة عميقة انفتحت امامه فجأة، ليجد نفسه في هذا الظلام الدامس، او في جوف هذا الاتون المظلم، يحرك كل اجزاء جسده ليتحسس متكأ ً او مستقرا او مخرجا من هذا الكابوس المفاجيء. خمن انه ربما قد فقد بصره، فبات لايرى العالم من حوله، سابحاً منذ مدة بعيدة في هذه الهيولى القاتمة، لايجد تفسيرا لمعالم المكان الذي يحيط به، ولا تحليلا لما تعرض له، ولايعرف شيئا سوى انه يسبح في العتمة، ولايرى حتى اصابع يديه، حاول ان يصرخ فوجد انه غير قادرعلى الصراخ، ولايقوى حتى على الكلام، لكنه لاحظ ان افكاره تتجسد على شاشة مضيئة امامه بشكل واضح، انه يستطيع قراءتها بسهولة وبعمق، بل انها تتشكل مع ومضات افكاره المتزاحمة والمتدفقة وغير الواضحة او المرتبكة، لاتجد لها صورة مكتملة وسط العتمة المطبقة، فقط سؤال ملح يجتاحها من حين لاخر (اين انا ؟؟؟؟) فجأة تومض شاشة يراها من بعيد، يقرأ فيها (انك في الثقب الاسود !!!!!) لايمكنه تفسير العبارة، بعد هذا الكم الهائل من الحيرة والفوضى وعدم الفهم، انه يقرأها بتمعن لكنه لايعي معناها او ابعادها، او مدى صدقيتها، خاصة وانه لايرى من يطلق هذا التعليق ولايسمع له صوتا او حفيفا او نفسا، كل مافي الامر انه الان يسبح وسط هذا الظلام لايعي شيئا مما اصابه، لكنه يلاحظ ان افكاره متجسدة على الشاشة بوضوح تام، فهو يستطيع قراءتها او صياغتها من جديد او اعادة تركيبها ان رغب بذلك، كل الذي عليه ان يفعله هو ان يفكر فقط لتخرج افكاره على الشاشة فاضحة فحواها بكل يسر وسهولة، لم يكن يمتلك اي تفسير لذلك ولا اي كشف لهذا الغموض الذي يلفه، ولا اية سيطرة على اجزاءه التي تسبح في هذا الجوف المظلم، كان لابد من ان يراقب اية ومضة تخرج من حوله علها تساعده على الاستدلال على معالم المكان الذي يلفه، في تلك اللحظة تدحرجت الى ذهنه كلمات اغنية كان قد الفها؛ (اتأسف حين تأخذني الحياة على حين غرة، وارتبك حين تلفني بافراحها او احزانها.. لاادري، وكل ماهو مطلوب ان ابقي على شيئ ما يربطني بها.). الاف الشاشات المضيئة التي تحمل افكار اصحابها، الذين من المحتمل او من المؤكد انهم يسبحون مثله في هذا الفضاء المظلم، انهم بلا شك يحدقون الان في شاشة افكاره، لذلك هو خجل جدا من انهم سوف يطلعون عليها، وربما يضحكون في قرارة نفوسهم، يضحكون بعمق شديد، او انهم سوف يتمتمون بتعليقات مثيرة جدا، لذلك لابد من ان يحشد كل طاقاته ليكون منطقيا في تفكيره وجادا الى حد ما، يحاول ان لايسمح لعاطفته ان تنساق الى محاور ضعفه، هذا لانها باتت مكشوفة للاخرين على نحو صارخ جدا، الامر الذي قد يمكنهم من ان يبنوا مواقفهم واحكامهم على تلك الافكار المتطايرة من هنا وهناك، ولابد من ان يكون حريصا قدر الامكان على المنطق السليم. هاهم الان يحشرون الاف الصور المتداخلة لافكارهم والتي تميط اللثام عن رغبة عارمة لمعرفة مايدور في عقول الاخرين، القسم الاعظم من هؤلاء تستهويهم فعالية ترديد الاناشيد، اناشيد بمختلف الصور والكلمات واللغات، انهم يترنمون بها بشكل مرضي ويحاولون ان يخلقوا منها حياة جديدة تعينهم على الاجابة عن مصيرهم او معرفة مايدور من حولهم، لقد كانوا يأكدون مرارا وتكرارا بأن الحياة الكاملة هي في تلك الاناشيد، انهم يلوكونها كما يلوكون ذواتهم، او انها تغريهم بالتبجح بولوجها واغواءهم بمحاولة فك اسرارها، لكنها بالنتيجة قاصرة من ان تجود عليهم بأية منفعة تذكر، سوى انها تحيلهم لوجوه متلاطمة مع كينونة لاتعي شيئا من حاضرها او مستقبلها، المهم لديه في هذا التجوال بين تلك الشاشات المترنحة أنه يساعده في السيطرة على خوفه.. لماذا؟ لانه المعادل الموضوعي لحالة الاسترخاء، هذه الغريزة التي تجعله يحدق في كل الاشياء بعمق وبحذر، ليصهر تلك اللحظة التي تفيض عليه بالتفسيرات او التأويلات المبتسرة. في هذا العالم المظلم، يزداد خوفه بشكل قاتل، اذ ليست لديه حجة في اثبات قدومه من اي مكان او اي زمان، لاتردعه حالة الاستنفار التي هو عليها الان، بل انها بمثابة لعبة مركبة وغامضة بالنسبة له، تتشكل اجزاءها من دون دراية بالوقت او الزمن الذي انبثقت منه، او الذي تذهب اليه، ثم انه يخشى ان تتسرب هذه العتمة الى داخل نفسه فيستبد به الظلام بشكل موحش، خاصة وان لا أثر للضياء من حوله، فقط يمكنه ان يتخيل مسحة الضوء الباقية في روحه وذاكرته. انها مثالية الافق المفتوح في الظلام، والتي لايجدها منسجمة مع قدرة تحمله، او ان يكتشف لنفسه مساحة كافية لمعرفة مايحيط به بشكل واضح، بل انه اخذ يتطلع في كل الاتجاهات ليقرأ تلك الشاشات المختلفة الالوان والاشكال، والتي كتبوا عليها ماقد فكروا فيه في تلك اللحظة من تاريخهم المجهول، انهم ايضا يتساءلون عما يحيطهم ويتوقون لمعرفة ما ألم بهم وما هو مآل حالهم. المشكلة في الامر انه يعيش خيالا كاملا في جو مظلم لايعرف حدوده ابدا، يكاد يكون حلما طويلا وغامضا، و يشاركه الاخرون في هذا الحلم بذوات منشطرة وعنيدة ومصرة على السباحة في فضاء غير معروف ومبهم، لانهم لايدركون ابدا مستويات حضورهم في المكان والزمان، بل انهم يدافعون عن موقفهم باصرار عجيب ويبشرون بأن وجودهم في هذه الظلمة سوف يفضي الى نور هائل وعظيم، كانت شاشاتهم تحتشد بالامل الكاذب والتحليل المسرف في البدائية، انهم يحفزون ذواتهم باختلاق حقائق وهمية عن عالم يعيشونه بسخونة فاقعة وبعمى مطلق، انهم اوفياء لغبائهم ولعدم معرفتهم بما يجب عليه ان تكون ارواحهم، انهم تعودوا ان يلفضوا اية قيمة من شأنها ان تعدل من ثبات حقائقهم الشاذة. هو يراقب شاشاتهم طيلة الوقت الذي لايعرف ابعاده ومداه وكنهه، انه يراقب فقط، احيانا يتحسر او يتعجب او يشمئز، يحاول ان يفهم طروحاتهم بشكل واضح لكنه لايجد تفسيرا غير الضحالة وعدم النضج. لذلك اتخذ لنفسه موضعا صعبا جدا حين بدأ يفكر بتبويب هذه الافكار وجمعها ان امكنه ذلك، ليجد ذلك الرابط الذي فقده لحظة سقوطه، عليه ان يتأمل شاشاتهم طيلة الوقت المتاح له وان يفسر او يقيم مامنقوش عليها، فقط لانه يريد ان يكتشف خيطا يستطيع تتبعه ليصل الى النقطة المضيئة، لكنه يجد صعوبة بالغة في ذلك، لان افكارهم غير منسجمة وفي بعض الاحيان تكون غير منطقية، الامر الذي يدخل الحيرة في قلبه ووجدانه ، ليظل يتسائل بعمق وبحسرة (هل هو حقيقي، هذا الوضع الذي هو فيه الان ؟) خمن انه كابوس في طريقه الى التلاشي، لكنه ادرك ان اغلب هذه الشاشات هي مرمزة وغير واضحة واحيانا متناقضة، وفي بعضها مزيفة وغير صادقة، وقسم منها تتعجل الاتهام المباشر، ولذلك ادرك بانهم غير مستعدين للتعاون معه ابدا، عندما فاتحهم بامر اتفاقهم على الاشارة التي من شأنها ان توصلهم الى الضياء، ومن الملفت ان شاشاتهم بدأت تخبو او اصابها التشويش، وتلاشت في الظلام الدامس، يمكن انهم بدأوا يسبحون الان بغير هدى، او انهم هربوا الى حيث لايعلمون، لذلك فقد اصبح وحيدا لايرى شيئا غير افكاره التي تومض على شاشته المضيئة.
#حسين_طالب_عذيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذاتية مظفر اللامي في الباب القديم الموارب
المزيد.....
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|