|
التعاقد الاجتماعي المغربي وفائض المعنى
لحسن الحميدي
الحوار المتمدن-العدد: 5246 - 2016 / 8 / 6 - 01:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
التعاقد الاجتماعي بالمغرب وفائض المعنى
شكلت الحالة المغربية دائما على مستوى التعاقد الاجتماعي تجربة خاصة يصعب استنساخها كما يصعب البحث فيها عن نسق ما . كان الأمر مبررا في اللحظة الأولى لاستقلال المغرب نظرا لحداثة الدولة، حيث البحث عن نموذج ملائم لخوض غمار التجربة الديمقراطية. وقد انكبت بعض الدراسات الأنتربولوجية على النموذج المغربي ونظام الدولة بالمغرب بعد الاستقلال فاصطدمت بصعوبة وتعقد التجربة المغربية وخصوصيتها في إرساء مفاهيم: كالتوافق السياسي والنخب السياسية والملكية والسلطة التنفيذية ممثلتا في المخزن... ففي المغرب، يمكن أن تشعر بتوتر دائم للأوضاع في كل تفصيلاتها، لكن لا يحدث أي شيء يذكر. هذا الأمر مثير للانتباه كما أشار لذلك" واتربوري" يوما...لكن هذا يجد تبريره في وجود المؤسسة الملكية، مؤسسة تتعالى عن الصراع رغم أنها قد تكون موضوعا له، مؤسسة يمكن العودة إليها عندما يشتد التدافع، لأنها تستمد مشروعيتها من توافق مضمور في العقل الجمعي لكل الفاعلين، كرسه التاريخ بما هو هوية مغربية وبما هو إيديولوجيا إدماج على حد تعبير "بول ريكور"... إن التوافق في المغرب -أو بلغة أكثر تفاءلا التعاقد- يقوم على التناقض والصراع الذي يولد الثبات. الأمر يذكرنا بدياليكتيكية هيغل الذي فضّل أن يشرعن تسلط الدولة البروسية كما قال "الجابري"-وأنا براء من هكذا محاولة طبعا- لكن في المغرب هناك دائما المنطقة الآمنة-بالمعنى السيكولوجي- والتي يجد فيها كل الأطراف أرضية للتوافق للحفاظ على الدولة ... إن المثير في الأمر أن التوافقات غير معلنة في الغالب، لكنها حاضرة بشكل خفي.إن الأنا السياسي بالمغرب ينبغي النظر إليه من زاويتين : الأنا الظاهر حيث يبدو هذا الأخير غير راض يعيش حالة من التدافع ومواجهة التناقضات والصراع والتناقض أحيانا، وأنا خفي حيث يدرك كل فاعل سياسي حدوده السياسية ومجال ردود الفعل وحيث الكل يطمئن للمهيمن والضامن. إن التوافق السياسي يظهر كلما زاد التناقض في المواقف والمصالح، وهذا الأمر حاضر بالضرورة كتمثل قبلي لكل من يقبل على العمل السياسي. فكل البنيات المهيّئة للفاعل السياسي كالأسرة والشارع والإعلام والبنيات الحزبية...كلها تكرس هذا التمثل وتجعله من حتميات العمل السياسي، بل يصبح هذا الفاعل تلقائيا خاضعا لتعاقد ضمني غير مصرّح به، ولكنه تعاقد فعلي يرقى إلى درجة الاعتقاد والمقدس، وكما يفضل "طه عبد الرحمان" التعبير على ذلك بالقول: إن الاندماج يقتضي الاعتقاد والاعتقاد يتنافى مع الانتقاد. إن العمل السياسي يحكم إذن بهذا المنطلق، وهو محكوم أيضا بمنطلقات أخرى، من قبيل العمليات الواعية الساعية للهدم والبناء في الآن نفسه.هدم ماذا وبناء ماذا؟ هدم صورة الحزب السياسي القائم على أطروحات مهددة للتوافق من خلال الإقصاء باستعمال المقدس. كأن يقدم الحزب الحداثي أنه مناف للمعتقد أو تقديم الحزب الأصولي على أنه يستعمل المعتقد..ومن ثمة يتم جعل الخطابين في مواجهة مباشرة، فتظهر عمليات البناء في إبراز المناطق الأكثر أمانا على أنها البديل المناسب... المنطقة الأكثر أمانا تلك التي ينتمي إليه الجميع بقوة التاريخ وقوة التمثل وقوة الدين وقوة المفعول التيولوجي. إن البديل السياسي أو الثابت هو بديل لا تاريخي بطبعه ينفلت من أي تحديد أو سيرورة يتعالى عن الصراع وفي الوقت نفسه يقتات عليه... هناك لحظتان تارخيّتان شكلتا اختبارا حقيقيا لهذا القانون: اللحظة الأولى: هي تلك التي عرفها المغرب في تجربة التناوب، حيث اضطرت القوة الفاعلة لإعادة تشكيل المشهد التوافقي لدمج فاعل قديم، يحمل خطابا أصبح يشكل بديلا حقيقيا للتجربة بأكملها.إدماج هذا الصوت النشاز جعل الدولة تحافظ على بنيتها واستمرارها من جديد،تماما كما يفعل طائر الفنيق... أما اللحظة الثانية: فهي اللحظة الدستورية الجديدة والتي لجأ فيها الفاعلون السياسيون إلى دمج فاعل جديد حديث العهد بفكرة الدولة نفسها، وهو الحزب "الإسلامي" والذي جرى ترويضه شيئا فشيئا ليقبل بالقانون السالف الذكر، بل أصبح من أشد المدافعين عليه وهذا نجاح ربما لم تتوقعه القوة السياسية نفسها. يؤسس المغرب إذن تجربة فريدة في مفهوم التعاقد الاجتماعي، حيث يمكن الحديث عن تعاقد شكلي تذهب إليه القوة الفاعلة، حين يصبح الخطاب الرائج مناوئا لوجودها.وفي نفس الوقت تغذي هذه القوة الفاعلة وجودها من خلال الأنا الخفي أو التعاقد الضمني باعتباره قوة لا تاريخية توجد فوق الدولة نفسها. إن التعاقد الظاهر بهذا المعنى يحافظ على نفسه باعتباره عامل استمرار للتعاقد الضمني الذي ميز الدولة المغربية منذ مئات السنين، والذي يصعب تغيير حركته أو الاضطلاع إلى تجارب معينة للنسخ.فالأمر عميق في بنية الدولة وبنية الفاعل السياسي وبنية كل البدائل المستقبلية للتجارب السياسية المقبلة ببلادنا... لكن، ورغم هذه التجربة السياسية الفريدة، والتي قد تبدو غير مشجعة لتنوع العرض السياسي، فإن الذي يستحق التوقف، هو كيف استطاعت هذه التجربة الصمود بهذا الشكل القوي؟ إن وجود المنطقة الآمنة المركزية أو القوة الفاعلة الحقيقية، هو ما يجعل الهوامش السياسية التابعة للمركز تدور وفق ما يمارسه المركز من قوة جذب، ذلك أن الكل يضبط إيقاعه وفق إرادة واحدية، تملك المفاتيح الحقيقية لكل بنى الدولة المغربية بقوة التاريخ والدين والهوية... ليس في الأمر حرج مادام الوعي بالضرورة عملية تراكمية تحدث موضوعيا كما يفضل أن يعبر عن ذلك "ماركس"، ولا مجال للقطيعة لأن المغربي يجد نفسه في النسق الإيديولوجي المعروض. فالمغرب من خلال السلطة الواحدية مازال يعبر عن إرادة المغربي وهويته، أو بصيغة أخرى لا يمكن أن تكون الإيديلوجيا بالضرورة قلب للواقع، بل تعبر أحيانا عن وظيفة إدماجية، وهذا استعمال جيد يعبر عن وجود تعاقد اجتماعي فعلي وخفي لكنه موجود… تشكل الوثيقة الدستورية الجديدة انعكاسا حقيقيا لما تمت الإشارة إليه آنفا. ذلك أن الدستور الجديد للمملكة استطاع أن يوجد التوافق الضروري لنجاح التجربة السياسية المغربية من خلال ما يمكن أن نسميه فائض المعنى الذي يضمنه. ومعنى هذا أن المؤسسة الملكية حضرت كبنية تحتية لكل البنيات الدستورية الأخرى،عوض أن تبقى بنية فوقية. وبه فهي لم تقم بهدم البداهات الدستورية السابقة، وإنما ضمّنت فائضا جديدا للمعنى، أي خلقت مساحات جديدة لكل الفاعلين السياسيين، وذهبت أكثر مما كان منتظرا في المجال الحقوقي، وخلقت مؤسسات جديدة للحكامة وأطلقت يد السلطة القضائية ووسعت من مجال اشتغال السلطة التنفيذية من خلال الصلاحيات الجديدة لرئيس الحكومة...الفائض يبدو واضحا من خلال عمل الملاءمة الذي قامت به هيئات التنزيل الدستوري، حيث لم تبلغ السقف الدستوري الذي يبدو عاليا إلى درجة أن القوانين التنظيمية لم ترق إلى التطلعات والآمال التي كانت تعقدها القوى الحية في المجتمع...مما يعني أن الفاعل السياسي له أن يشتغل بأريحية أكثر وهو يمتلك ممكنات جديدة بين يديه كان يتحجّج بغيابها إلى وقت قريب. التعاقد الاجتماعي في المغرب قد لا يظهر بالمعنى النمطي المعلوم في العلوم السياسية ولا كما يظهر في التجارب المقارنة، لكنه تعاقد موجود بقوة الواقع الذي يخبرنا كلما تقدم الزمن عن قوته وقدرته على الإدماج المستمر للمتطلبات السياقية، مع العلم أن هناك مجهود ينبغي أن يبدل في إشراك أكبر لفاعلين جدد في الساحة السياسية المغربية، وهذا الأمر متاح من خلال الوثيقة الدستورية وفائض المعنى الذي تضمنه.
الباحث لحسن الحميدي
#لحسن_الحميدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدولة في خدمة الدولة
المزيد.....
-
اسقاط مقاتلة أمريكية فوق البحر الأحمر.. والجيش الأمريكي يعلق
...
-
مقربون من بشار الأسد فروا بشتى الطرق بعدما باغتهم هروبه
-
الولايات المتحدة تتجنب إغلاقاً حكومياً كان وشيكاً
-
مقتل نحو 30 شخصا بحادث -مروع- بين حافلة ركاب وشاحنة في البرا
...
-
السفارة الروسية في البرتغال: السفارة البرتغالية في كييف تضرر
...
-
النرويج تشدد الإجراءات الأمنية بعد هجوم ماغديبورغ
-
مصر.. السيسي يكشف حجم الأموال التي تحتاج الدولة في السنة إلى
...
-
رئيس الوزراء الإسباني يجدد دعوته للاعتراف بدولة فلسطين
-
-كتائب القسام- تنشر فيديو يجمع هنية والسنوار والعاروري
-
السلطات في شرق ليبيا تدعو لإخلاء المنازل القريبة من مجاري ال
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|