|
الأيديولوجيا القذرة
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5241 - 2016 / 8 / 1 - 03:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الأيديولوجيا القذرة
في عالم متحرك حر في فتح أبواب الأفكار دون نسقية محددة تؤشر على أولا على حق حرية العقل أولا وحرية الإنسان في أتخاذ ما يؤمن به من رؤى وأفكار تتناسب مع حركية الوجود المتسارعة، التي أسستها نظريات الحداثة والعولمة وما بعدهما من أفاق تنطلق بالوجود من الثبات المقنون إلى الفضاء الخالي من محطات وقوف، نشهد أيضا في هذا الحال أنهيار تام وتدريجي لا عودة منه إلى عالم الأيديولوجيا وإنهزام الأفكار التي تصوغ طرائق التفكير أو تحددها وفق مفاهيم مسبقة وملزمة وغير حيادية، عالم ما بعد الحداثة أصبحت فيه ظاهرة الهجرة من عوالم التحديد والنمط الفكري الموحد والأنساق التي ترسم خطوات المجتمع والفرد على أنها حقائق أو أشباه حقائق لم تعط للفكر المرسوم والمخطط له من قبل أي قدرة على التأقلم مع حالية وراهنية الحركة الزمنية من جهة، وطبيعة وشكلية هذه الحركة التي لا تؤمن إلا بالإبداع والخيال العملي وفك أسر العقل من واقع الممكن والطبيعي، فسقطت الأيديولوجيا بالضربة القاضية لتعلن معها أنتهاء عصر التنظيرات المبرمجة المسبقة لحركة الإنسان داخل هذا الوجود. وقبل أن ندخل في معنى الأيديولوجيا القذرة علينا أن نفهم المعنى الأصلي لمفهوم الأيديولوجيا بالذات دون وصف، أي هي تحديد قيمي من منظار آخر غير مسبوق بوصف معرفي يؤشر على كونها أحدى نتائج الأجتماع السياسي أو علم السياسة المجرد، فهي نظام من الأفكار المتداخلة كالمعتقدات أصلا وبشكل رئيسي عند الكثير من الدارسين ومضافا لها مجموعة من التخيلات والأساطير المؤسسة لما يعرف لاحقا بالقواعد الأسية للأفكار الجمعية أو المجموعية، والتي تؤمن بها جماعة معينة من الأفراد العاقلين أو مجتمع يمتاز بظاهرة تشابه فكري سواء بالصورة الشكلية أو بالوعي بها، هذا المجتمع أو المجموعة التي نطلق عليها تحديدا مصطلح (ما)، فهي ترسم لنا قيم ومعطيات وقوانين وطريقة تفكير هذه الــ (ما) وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية وتبررها في نفس الوقت على أنها خيار نهائي مقنن. والأيديولوجيا أذن من حيث هي قيم ومصفوفات فكرية ومنهج يفسر ويتعامل مع الواقع وقوانينه تكون مجرد منظومة من الأفكار المرتبطة اجتماعيا بمجموعة اقتصادية أو سياسية أو عرقية أو غيرها، فهي منظومة واعية فكرية تتحول إلى عقيدة بعد تبينها على أن هذا التبني يمثل إيمان بها، تهدف أما لتحقيق أو حماية أطر منتظمة من شعارات وأهداف وغايات تعبر عن المصالح الواعية "بهذا المقدار أو ذاك" لهذه المجموعة، على شكل نزعة مضادة للتاريخ كونه أي التأريخ نتاج حركة تغيرات وتحولات وتبدلات غير مستقرة ناتجة من قضية الصراع الأجتماعي الإنساني أولا أو لأن قضية الفكر هي أصلا لا تقبل الإيمان بالثابت الدائم، فالأيديلوجية أصلا نوع من التحجر المتقولب ومقاومة للتغير ومفككة للبنيات الكلية، هنا الايديولوجيا تشكل اذن صورة حقيقية من صور التبلور النظري لشكل ظاهر ووجودي من أشكال الوعي الزائف. السؤال الذي كان يبحث قديما قبل عصر والعولمة وإرهاصته الأولى والذي يتعلق بالوظيفية الكونية للأيديولوجيا هو (مدى فعاليتها في رسم صورة للواقع الاجتماعي وتقديم خريطة له وأن تكون محوراً لخلق الوعي الجمعي)، فقد جربت الكثير من الأجوبة وأظهرت الكثير من التنظيرات التي عجرت حقيقية أن تجيب بشكل مجرد وحيادي ليس فقط في صياغة الوعي الجمعي ككل، بل وحتى داخل منظمة المؤمنين بأحقية الأيديولوجيا في أن تمثل مصلحة الــ (ما) مفصولة عن واقعها أو مجزأة له، لذا فأزمة النظرية الأيديولوجية تكمن في أنها لا تلبي حاجة الإنسان للتلاؤم مع التجدد وضرورة مسايرة الأفكار في طريقها للتحرر، وثانيا أنها تعمق الإنقسام الأجتماعي وتجزء الوعي الجمعي على أساس غير حقيقي ولا مصداق لروح الجماعة، فهي تقود فئة منه للتنازع مع فئة تفترض أصلا أنها ضد أو نقيض أو حتى كيان يجب أن يستبعد أو يقصى من المعادلة الأجتماعية وهي تمتلك نفس الحقوق وفي نفس المستوى من الوجودية الوضعية. عند هذا الحد ندين الأيديولوجيا ونعتبر أن سقوطها المدوي كان حتمية تأريخية للوعي الكلي الإنساني المقاوم للأنانية الفردية والمجموعية، وبالتالي أي مناداة جديدة بها إنما يمثل إنتكاسة للحرية الإنسانية وعودة لعصور الظلام والقهر والإستلاب والتنازع البشري والصراع الفكري الذي أرهق البشرية في وجودها الحياتي، صحيح أن بعض الجوانب المهمة التي أنتجتها عموم النظرية الأيديلوجية من خلال الأفكار المتنازعة وما أستولد هذا النزاع من إثراءات فكرية حقيقية، لكن الثمن كان غاليا وقامعا للإنسان وحريته، كل الأيديولوجيات التي ولدت من رح الفكر الوضعي بشقيه السياسي والأقتصادي أو من الفكر الديني ساهمت بشيوع الجريمة البشرية الكبرى بحق الإنسان طالما أنها تتبنى موقف الضد من الأخر، الضد الذي يجب أن لا يسمح له بالتنافس أو التمايز الطبيعي بل يصل أحيانا إلى حد محاولة إلغاء وجود هذا الجزء وإنهاءه عن طريق القمع أو الفناء. مع كل الإدانة الفكرية للمنهج التأريخي للفكر الأيديولوجي التنظيري والممارسات التي تفسره واقعا وما جر على البشرية من مأسي، يشكل إعلان موت للنظرية وللفكر المؤطر المقنن المقولب وما لحقه من هزيمة مدوية في عصر الحداثة، تظهر اليوم لنا أيديولوجيات جزئية بعناوين دينية أو فكرية سياجتماعية سوداء متطرفة تريد ليس فقط تكرار التجربة الفاشلة للنظرية الإيديولوجية العامة، بل تمعن في أحتقار وإنكار حق الأخر الذي يمثل اليوم الغالبية المطلقة من الوجود الإنساني، لمجرد أنها تؤمن بالأحقية التأريخية في صياغة الوعي الجمعي الكلي بمفاهيم مطلقة، وتدع أمتلاك الدليل الذي تؤمن به أنها قادرة على إزاحة الأخر من طريقها وإرغامه بالإستسلام لها، هذه الأنانية الإيديولوجية التي تمثل أقصى درجات التمايز السلبي الناكر لحقوق الإنسان في الوجود تحت عنوان إنسان، وموغلة بقذارة المنطق الذي تصنعه ذاتيا على أنه حقيقة مطلقة. الإيديولوجية القذرة هي مجموعة الأفكار التي تحد من حق العقل في أن يتجاوز منطق ما يعرف باللازمية المطلقة في الأعتقاد أو الأقصاء، وكلما أنتهجت هذه الأفكار الطريق الأعنف ضد الأخر وعبرت عن هويتها بالتناقض مع منطق الزمن والحتمية التأريخية، منحت نفسها مزيدا من وصف القذارة لتدخل نفسها في صراع مع الوجود سينتهي حتما بها إلى التلاشي والفشل وإنهيار عموم العنوان الذي تدع الأنتماء له، وبالتالي فقانون الأضطراد هنا متوافر فكلما تمسكت بالقالب والنمط المتحجر كلما أسرعت في إعلان هزيمتها أمام الإنسان على عكس الأيديولوجيات التي راعت في بعض مفردات وجودها حق الأخر وأمنت بإستقلاليته دون أن تلغي هدف الفكر النهائي المتمثل بالأنتصار التاريخي على الأخر.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النقد الديني بين ضرورة المعيارية النقدية ووحدة الهدف من المم
...
-
غضب .... ليس على وقع الجمر _ قصة قصيرة
-
الدين الأجتماعي وقضية الحرية في المجتمع الإسلامي
-
حروف للقاء ..... لقاء أخر بيننا
-
العمامة والزي الديني توظيف للأنا المتضخمة وخداع للمؤمنين بأن
...
-
هلوسات رجل مهزوم ..... لكنه يحلم
-
أحلام الوطن البديل
-
عوامل التغير وطريق الثورة
-
العصر مفردة الزمن في دلالات النص الديني
-
يوميات عاشق .... مسافر مع الحروف
-
صندوق جدتي وسفينة نوح
-
قوة الأصالة الأجتماعية ونجاحها في مواجهة التغيرات الفكرية وا
...
-
مكة والمدينة وجوهر الصراع الأجتماعي الأول في المجتمع الإسلام
...
-
مكة والمدينة وجوهر الصراع الأجتماعي الأول في المجتمع الإسلام
...
-
مفهوم النسقية الأجتماعية والنمطية الاجتماعي ودورهما في بلورة
...
-
الحقيقة الضائعة بين الناسخ والمنسوخ _ح3
-
الحقيقة الضائعة بين الناسخ والمنسوخ _ح2
-
الحقيقة الضائعة بين الناسخ والمنسوخ _ح1
-
أول الخطوات .... أخر الكلام
-
مرة أخرى الإنسان خالقا ......
المزيد.....
-
بعد تحرره من السجون الإسرائيلية زكريا الزبيدي يوجه رسالة إلى
...
-
أحمد الشرع رئيساً انتقاليا لسوريا...ما التغييرات الجذرية الت
...
-
المغرب: أمواج عاتية تضرب السواحل الأطلسية وتتسبب في خسائر ما
...
-
الشرع يتعهد بتشكيل حكومة انتقالية شاملة تعبر عن تنوع سوريا
-
ترامب: الاتصالات مع قادة روسيا والصين تسير بشكل جيد
-
رئيس بنما: لن نتفاوض مع واشنطن حول ملكية القناة
-
ظاهرة طبيعية مريبة.. نهر يغلي في قلب الأمازون -يسلق ضحاياه أ
...
-
لافروف: الغرب لم يحترم أبدا مبدأ المساواة السيادية بين الدول
...
-
الشرع للسوريين: نصبت رئيسا بعد مشاورات قانونية مكثفة
-
مشاهد لاغتيال نائب قائد هيئة أركان -القسام- مروان عيسى
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|