سعيد عدنان
كاتب
(Saeed Adnan)
الحوار المتمدن-العدد: 5228 - 2016 / 7 / 19 - 23:48
المحور:
الادب والفن
أمين نخلة أديب ؛ كاتب ، شاعر ، من سادة البيان العربيّ في القرن العشرين ؛ يكتب فترقص الحروف على قلمه ، وينشد الشعر فيملك الأسماع ، ومفكّرته الريفيّة نمط فريد في النثر العربيّ كلّه . على أنّه ، مع ذلك كلّه ، مؤلّف يضع الكتب ؛ فقد ألّف في القانون ، وهو موضع دراسته الجامعيّة ، وميدان عمله ، والّف في النثر العربيّ كتاباً نافعاً ممتعاً جعل عنوانه : ( أساتذة النثر العربيّ ) . يقرؤه قارئه فيطوف بالنثر العربيّ منذ نشأته قبل الإسلام حتّى زمن عبد العزيز البشريّ ، وإبراهيم عبد القادر المازنيّ ، وماري عجمي . ومنهجه فيه ؛ أن يذكر الكاتبَ المنشئ معرّفاً به ، مورداً بعض ما قيل فيه ، ثمّ يأتي بأمثلة من نثره . ولا ريب في سداد المنهج واستقامته وجدواه ؛ إذ يروم الكتابُ أن يُدني النثر العربيّ من القارئ ، ولكنّه ليس من مرامه أن يبحث ، وينقّب ، ويصل بين الأشباه والنظائر ، ويربط بين الأدب ومحيطه .
ولا عجب في ذلك ؛ إنّما العجب يجيء حين يختتم حديثه عن الجاحظ ، ويشرع بإيراد أمثلة من نثره ؛ فقد أتى بنصّ سمّاه : ( حريّة الكلام ) وقال عنه : ( كتب إلى محمد بن عبد الملك الزيّات الوزير ، وقد انتهت إليه رقاع فيها ذمّ له ، وتشنيع على بعض أعماله .) ثمّ ساق النصّ على أنّه من الأمثلة على نثر أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ : ( سمعتُ بأنّ شعراً قد رفع إليك ، فيه عيب لك ، ونقد لبعض عملك ، فغضبتَ له ، وضقتَ به ،وأمرتَ بالبحث عن قائله ، لتُذيقه غضبك ، وتصبّ عليه عذابك ، وتعلّمه عاقبة الطيش ، ومغبّة استخفافه بالسلطان ، واجترائه على الحكّام . ثمّ لم يكفك ذلك ، ولم يقنعك ؛ فأمرت أعوانك من الكتّاب والعمّال أن يتقدّموا إلى أصحاب الشعر المنظوم ، والكلام المنثور ، وإلى ذوي الأقلام المشرعة ، والألسنة المنطلقة ؛ الّا يذكروك فيما ينظمون من شعر ، أو يكتبون من نثر ، أو يديرون من حديث ، إلّا بالخير ! وإن جنح منهم عن ذلك جانح ، وانحرف منهم منحرف ؛ فإنّ السجن له مهيّأ ، والعقاب له مرصد ، والعذاب عليه محتوم ، ... وأنت ، بعد ذلك لا تستطيع أن تعقل الألسنة المنطلقة ، ولا أن تحطّم الأقلام المشرعة ، ولا أن تمنع القلوب من الشعور ، والعقول من التفكير ؛ فدع الناس وما يشاؤون أن يقولوا فيك من الخير والشرّ ، ومن الحمد والذمّ ، وانتفع من ذلك كلّه في إصلاح نفسك ، وفي تجنّب ما يشينك إلى ما يزينك .)
ولا أدري كيف خفي على أمين نخلة ؛أنّ هذا النصّ ليس ممّا كتب الجاحظ ، ولا أدري كيف فاته ؛ أنّ نظراً يسيراً في نسيجه ، وفي معانيه ؛ يُظهر أنّه ليس ممّا جرى به قلم أبي عثمان ؛ فليست الصياغة صياغته ، وليست المعاني معانيه . وإذا بدت بين صياغة هذا النصّ ، وصياغة كلام أبي عثمان مشابهة ؛ فإنّها مشابهةٌ أرادها كاتبه حتّى يصطبغ كلامه بصبغة كلام الجاحظ ، وحتّى يتمّ له ما أراد من إيهام .
أمّا المعاني فإنّها بعيدة عن معاني الجاحظ في كتبه ورسائله ؛ وبحسبك أنّ هذا النصّ قد أقام من الجاحظ ناصحاً ينصح الوزير محمد بن عبد الملك الزيّات ، ويُريه وجه الصواب في علائقه مع الكتّاب والشعراء ؛ وهو مقام ما كان الجاحظ ليقومه من الزيّات على أيّ حال من الأحوال . ثمّ إنّ هذه المعاني التي انطوى عليها النصّ ، ممّا يتّصل بحريّة القول ، لم تكن ممّا يفكّر فيه الكتّاب في القرن الثالث من الهجرة .
نعم ! إنّ كلّ شيء في هذا النص يجهر أنّه ليس من آثار الجاحظ . ثمّ ها هي ذي كتب الجاحظ ورسائله ؛ فأين هذا النص فيها ؟!
لا أدري كيف خفي على أمين نخلة موضعه ، وكيف اشتبه عليه الأمر ؛ وهو الكاتب المبين الذي يعرف نسيج الكلام ، ويزن مواضع الألفاظ ، ويدرك مسارب المعنى ؟!
ولكن ما هذا النصّ ؟ ومن صاحبه ؟
هذا النصّ جزء من مقالة عنوانها : ( رسالة الأمر والنهي ) لطه حسين منشورة في كتابه : ( مرآة الضمير الحديث ) . وقد بنى طه حسين كتابه هذا على نقد أشياء رآها قد أفسدت الضمائر ، وانحرفت بها ؛ وقد كان يتّجه في نقده إلى رجال بأعيانهم ممّن تولّى أمور الدولة يومئذٍ ؛ فأراد أن يوهم ، بنحو ما ، أنّ هذه الرسائل شيء قديم انحدر إليه من الأدب العربيّ ؛ فقال في صدر كتابه : ( هذا رسائل تنسب إلى الجاحظ وأراها محمولة عليه لأنّ تكلّف التقليد فيها ظاهر ) وهي جملة بارعة تثبت وتنفي معاً ! ثمّ قال : ( أقبل عليّ صاحبي مبتهجاً ، باسم الثغر ، مشرق الوجه والنفس جميعاً يقول : لقد جئتك بطرفة ما أشك في أنّك ستنعم بها بالاً ، وسترضى عنها كلّ الرضى ، وستؤثرها على كثير من الطيّبات في هذه الأيام التي تقلّ فيها الطيّبات . قلت : وما ذاك ؟ قال : كتاب مخطوط لم تعرفه المطبعة بعد ، ظفرت به عند بعض الورّاقين ، وفيه رسائل مختلفة للجاحظ ، وغير الجاحظ ، من كتّاب القرن الثالث والرابع للهجرة . ولم أكد أنظر فيه حتّى بهرني وسحرني ، وكرهتُ أن أوثر نفسي بقراءته ، فجئت أظهرك عليه وأشركك في الاستمتاع به . ثمّ أخذ يقرأ عليّ من رسالة للجاحظ كتبها إلى محمّد بن عبد الملك الزيّات وسمّاها " رسالة الشكر والكفر " وابتدأها على هذا النحو : )
ولا ريب في أنّ الرسائل كلّها من قلم طه حسين ، وليس الجاحظ فيها إلّا تكأة يتكئ عليه ليعرب عن رأيه في ما كان يقع . إنّها ضرب من الصنعة الفنيّة التي يحدثها خيال ذكي يقظ . ثمّ إنّ هذا الضرب من الإيهام ؛ أن تقع للكاتب نصوص قديمة فيسارع إلى نشرها ، شيء معروف في الأدب ولا سيّما عند الروائيين .
ولا أدري كيف خفي الأمر على أمين نخلة ؛ فأخذ نصّ طه حسين وجعله مثالاً على نثر الجاحظ ؟!
لكنّ أميناً لا يخفى عليه أمر كهذا ، ولا يلتبس ، وهو الكاتب الصناع !
ولم يبق لدي إلّا أمر واحد أفسّر به مجيء هذا النص في غير موضعه ، حتّى يخفّ العجب شيئاً ؛ هو أنّ المؤلّف أمين نخلة حين وضع هيكل كتابه أوكل اختيار النصوص إلى غيره ؛ فوهم الموكّل باختيار النصوص ، وجاز عليه مكر طه حسين ، فوضع للجاحظ نصّاً ليس له !
قال صاحبي وهو يضحك ؛ إنّما هذا تفسير أملاه عليك حبك لأمين نخلة ..!
قلت : ربّما ..!
#سعيد_عدنان (هاشتاغ)
Saeed_Adnan#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟