|
الفصل الثاني: 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5221 - 2016 / 7 / 12 - 02:31
المحور:
الادب والفن
لن تعرفَ معنى نعمة الخريف، ما لم تقضِ في مراكش صيفاً واحداً، على الأقل. نخلة المنزل، السامقة، ما تفتأ محمّلة بنتاجها البنيّ الناضج وكأنما للدلالة على ما قاسته من لهيب الشمس. ولقد مرّ " فرهاد " للتوّ من جانب جذعها، المقشَّر كطلاء جدران بيوت الفقراء. وعليه كان، ككلّ مرة، أن يُلقي نظرةَ حنوّ على شجرتيّ الزيتون، المُتخمتين أيضاً بالثمار شأن جارتهما المُباركة؛ شجرة التين. الحوض المُستطيل الشكل، والممتد على طول سور الفيلا المُطلّ على الشارع، كان فقيراً بالأزهار والرياحين. في المقابل، تشبّثت الأناملُ الخضراء لكلّ من المجنونة واللواية بذلك الجدار العالي سعياً لشهود شمس البكور. من موقفي على شرفة الدور الثاني، راقبتُ شقيقي وهوَ يلتقط من على الأرض ورقة تين ذابلة ليعمد من ثمّ إلى شمّها بعمق. في اللحظة التالية، رفعَ يده باتجاهي مُودّعاً. على الأثر، ترنّحت ورقة التين الذابلة وعادت لتعانق أندادها على أرضية الردهة، المفروشة بالرخام والأفياء. " فرهاد "، لم يكن أقلّ ذبولاً في الواقع. أستطيع التكهّن بما يشغل فكره. ولكن، لم يحن وقتُ الإفضاء بعد. كان عندئذٍ مُهندماً بسترة سوداء مخملية، مفتوحة الأزرار عن قميصٍ رقيق ناصع، يختفي عند الخصر في بنطال الجينز. وقبلَ أن أفكّر في ماهيّة المكان المُتّجه إليه ضمن المدينة القديمة، دأبه كل صباح بعيدَ الفطور، أنتبهتُ إلى كونه قد لبسَ البنطال بدون حزامٍ مناسبٍ للسترة. عبثاً تنبيه شقيقي بأمرالحزام، هوَ غير المُؤمن أصلاً بالإنسجام إلا في مجال الفن. كنتُ واثقة، بالرغم من ذلك، أنّ وجهاً جميلاً ذا لحية شقراء أنيقة، سيلفت نظرَ أكثر الحسان لا مبالاة في مراكش. قبل قليل، كانت إحدى هاته الحسان قد أجتازت بابَ الفيلا للقاء خطيبها المنتظر خارجاً. هذا الأخير، كان على خصلة مُغايرة فيما يخصّ المكان المقصود. إذ كان يمحضُ المدينةَ القديمة مقتاً شديداً، لدرجة إنه لا يكاد يرى من مراكش سوى حيّ غيليز، الراقي. على أنها فكرةٌ لم تكن لتراود " رفيق "، في هذا الصباح الخريفيّ المُشرق. كذلك لم تكن لتلفت نظرَهُ أكوامُ عرائش المجنونة، المَسحورة الأوراق بألوان حارّة، والمترامية على جدران الفيلات المجاورة أو المهيمنة على هاماتِ نخيل حدائقها. لم يكن يبصر أشجارَ الأورانج ذات القناديل المُطفأة، المشكّلة سياجاً أخضرَ على جانبيّ الشارع ذي الاسم الملكيّ. لم يكن ينتبه لسيل السيارات على الشارع، وهوَ يصبّ هادراً في وادٍ يُدعى " ساحة الحرية ".. ولا لتفرعات ذلك الوادي، المؤدية إلى باب خميس وباب دُكالة والمأمونية وساحة الحارثي. ولا لما يحيط كل ذلك من عمائر عالية، محمرّة الجدران ـ كخدّي خطيبته المصبوغين بقلم الروج: ولكنه الرّدفُ الفاتن، من كان يجذبُ بصرَهُ أنَّما غَنِمَ من تفاصيله.. العجزُ الرخيّ، المُكوَّرُ بملبسٍ رقيق وبرّاق وضيّق، يؤثره هوَ بعلامة إثارته.. الأستُ الأسير، المتحررُ للتوّ ككثيبٍ من الرمل الفضيّ، المُترجرج، آنَ حرّكته ريحُ الشبق والشهوة.. الكفلُ الملكيّ، الجديرُ بالتتويج مثل هذا الشارع سواءً بسواء.
*** شاءَ " سيمو "، لما ألتقى معي لأول مرة في الصالة، التكرّم بتقديم مشورة قانونية بشأن إجراءات الإقامة، الخاصّة بي وشقيقي: " ويمكنني أن أبدأ العمل منذ الغد بالإجراءات، إذا شئتِ يا أختاه! "، قالها ثمّ أعقبَ بسرعة وكأنه تذكّر أمراً ذا بال " ثمة امرأة سورية، تقيم في نزل قريب من فندق السعدي. وكنتُ قد ساعدتها، قبل فترة، في الحصول على إقامة لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد ". ثمّ أخذ يتكلم بلهجته البسيطة، الساذجة نوعاً، مُسهباً في شكلٍ خاص بأمر غنى من أسماها " سوسن ". فلما بدأ يَصفُ ستَّ الحُسن هذه، فإنّ صورتي أنطبعت في عينيه وكأنما أُشكِلَ عليهما. بغض النظر عن عدم اهتمامي بسيرة المرأة وفندقها، إلا أنني أرتحتُ حقاً لهذا الرجل. وبالتالي، تجاهلتُ المنظرَ الأخرق لهيئته؛ التي كانت ملمومة في جلابة سوداء سميكة القماش، يبرُز من أعلاها قبة قميص مُنشاة ومن أسفلها بنطالٌ أنيق وحذاءٌ مفلطح أسوَد اللون شديد اللمعان. في وقت آخر، وتحديداً حينما صرنا صديقين حميمين، أُستعدتُ و" سيمو " ذكرى يوم التعارف. ووقتئذٍ فقط، علمتُ الدافعَ الحق لمجيئه إلى الفيلا في ذلك الصباح الخريفيّ الحار. كنتُ وشقيقي قد دُعينا إذاً للنزول إلى صالة البيت الأرضيّ، ثمّة أين أعتدنا على تناول الطعام مع العائلة. الفطور المغربي، لمن لا يعلم، مغايرٌ تماماً لمثيله في بلادنا. إنه مجموعة من المعجنات، منها هذه المقلية بالزيت مع السكّر والمترعة من ثمّ بالعسل المذاب في السمنة الساخنة، أو تلك المُعدّة في الفرن مع البصل والشحم. كذلك يوجد دائماً، وبمتناول اليد، قطعُ الكاتو والكرواسان والبيتفور إضافةً طبعاً للقهوة والشاي المنعنع. إلا أنه إكراماً لنا، نحن الضيوف المشارقة، فقد أضيف للفطور الزيتونُ والمربى والجبنة الصفراء والبيض المقلي. وأقول المشارقة، تجاوزاً. فالعراقيون، كما هوَ مأثورٌ عنهم، يعتبرون أنه لا تثريبَ على الإفطار ما لو كان وجبةً من التمّن ولحم رأس الطّلي*. تحلّقنا إذاً حول المائدة المستديرة، المركونة في حجرة السفرة. إذاك، ألتزمَ أفرادُ العائلة في حضور ضيوفهم صمتاً يكاد أن يكون متواطئاً. تغريدُ الطيور، كان عليه عندئذٍ أن يتناهى أكثر صَخباً من المألوف خِلَل نوافذ حجرة الصالة، المفتوحة على حديقة الدار. " حمو "، كان الأسرع في إنهاء فطوره مُحتجاً بأن عليه التوجّه لفتح محل الحلويات. على الأثر، تُرك الميدانُ للصهر الفرنسيّ يجول فيه ويصول. أما خطيب " خدّوج "، فبقيَ طوال فترة الفطور وهوَ يهزّ رأسَهُ للشريك الثرثار تأكيداً ربما على الاهتمام. صفة الحرص عند الصهر الكَاوري، لم يكن لها شأنٌ ولا شك بطريقة قومه في الحديث أثناء الطعام. فعلى النقيض من شريكه العراقيّ، المُتأنق بذَوقٍ رفيع، فإنّ " إريك " سيبقى خلال الأيام القادمة بنفس القميص الباهت البياض وبنطال الجينز الحائل اللون. ولكن عليّ كان أن أكتمَ ابتسامتي أكثر من مرة، فيما أنا أتابعُ حركات " سيمو " الطريفة: رأسُهُ الضخم كان دائمَ التنقّل وفقاً لإتجاه عينيه السوداوين، اللتين لا تكلان عن مراقبة الآخرين. حتى إذا أُخليَ سبيلُ لسانه، فإنه راحَ بدَوره يتكلّم بفرنسية رائعة. كان واضحاً، أنّ الرجل اكتسبَ النطق المضبوط للغة الغاليين* جرّاء معاشرتهم شبه اليومية. كان شاباً لطيفاً، فوق ذلك، لا يُضيره بعضُ الفضول واللجاجة.. كان إتفاقاً، بعد كلّ ذلك، أن أتعرّفَ في وقتٍ واحد على هؤلاء الرجال الثلاثة، الذين تعهّدوا مع آخرين بطولة روايتنا.. على رجالٍ، أتوا إلى مراكش مع ميراثهم الحافل بالكوارث والمآسي ـ كحالنا نحن الشقيقين الدمشقيين.
*** خلال الفطور، تسنّى لي مراقبة ما يبدُر من " خدّوج " في حضور خطيبها. بدءاً، كنتُ على ثقة بأنها ستزيد من جرعة التصنّع قدّام هذا الرجل، المُعتدّ بنفسه. إلا أنّ وجهها، المطليّ بمساحيق تجميلية وطبية، شاءَ أن يُخيّب ظني. هادئة دوماً، كانت توجّه وجهها نحوَ الآخرين مُبدية الإهتمامَ بما يتفوهون به. وكما ألمعتُ قبلاً، فإنّ صهرها هوَ من كان قد أحتكرَ الكلام تقريباً. في الأثناء، تبادلت هيَ بعض العبارات مع هذا الأخير وكانت أجوبته تثير أحياناً ضحكتها الرنانة. " رفيق "، كان بدَوره يتخلى بين حين وآخر عما أعتدّ به من خلق متحفّظ، لكي يُكشّر عن ابتسامة واهية أو لإبداء ملاحظة مقتضبة. ومثلي سواءً بسواء، بدا أنّ الرجلَ مهتمّ بما يصدر عن خطيبته من تصرفات. كان ملمحٌ غامض يكسو وجهه عندئذٍ، خصوصاً عندما كانت نظرة الفتاة تطبعُ أثراً على فم " فرهاد " وهوَ يتكلّم. من ناحيتي، كنتُ لأسعد حقاً فيما لو كان الأمرُ يتعلق بالغيرة. إلا أنّ نظرتي، الموضوعية ولا مِراء، كانت لا ترى سوى أنانية الرجل منعكسة في مرآة وجه خطيبته الجميل، المطلي بالمساحيق. ولكنني، في مقابل ذلك، لم أكن لأستطيع تبرئتها من الأنانية حينما يتعلق الأمر بعلاقتها مع " رفيق ". هذا، مع الأخذ بعين الإعتبار سنّها الصغيرة وتجاربها القليلة. ولن أقول ثقافتها المحدودة، طالما أنها فتاة نشأت وتربّت في مجتمع مسلم. بيْدَ أنّ " خدّوج "، لم تكن تافهة بحال. لقد كانت ابنة لبيئةٍ ذكورية، يسودها إعتقادُ بأنّ الفتاة من الممكن أن تحبّ شاباً، وحتى أن تمارسَ علاقة جنسية محدودة معه. ولكن، سيكون كلاهما في وضعٍ آخر تماماً عند التفكير بالزواج. وغالباً، فإنّ الشابّ لن يُعارض زواجاً من تدبير أمه. ولكنّ بكارة عروسه، النازفة، لن تخفف من هاجسه المدفون في الأعماق بكونها سبقَ لها ومارست الجنسَ مع غيره.. جنساً محدوداً، أجل، أختبره هوَ أيضاً مع فتاة تفوق هذه العروس فتنةً وثقافة. أكتبُ هذا بعد زمن طويل، وبعدما أدركتُ بأننا كلنا كنا أنانيين بشكل أو بآخر.. كلنا كنا أبناء أوفياء لهذه المدينة، الأنانية. لم يَجُز لي إبداءُ إنطباعاً، مهما يكن عاماً، دونما النظر للأمور في علاقتها مع الظروف المُحيطة بشكل خاص. مثلما أنني أدرك، ولا شك، بكوني أتكلم عن مشروع زواج بين مواطنة وأجنبيّ؛ زواج، يَظهر فيه واضحاً تأثيرُ المصلحة الشخصية من جهة والرغبة في الإمتلاك من جهة أخرى. ولأنني كنتُ لا أفتأ أتكلّم عن " خدّوج " وخطيبها، ما كان من حقي أيضاً الحُكم على علاقتهما قبلَ هذا اللقاء بهما معاً. فلمحض المصادفة، فإنّني أجتمعتُ بالرجل وجهاً لوجه. لقد كان " رفيق " يجلس بمقابلي، مع بعض الإنحراف نظراً لكون طاولة الطعام مستديرة. وأعتقدُ، في آخر المطاف، أنه كان يودّ لو كانت جلسةً خالية من خطيبته والآخرين! .................................... * أي الرز مع لحم رأس الجدي * أي أسلاف الفرنسيين الحاليين
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرواية: الفصل الثاني
-
سيرَة أُخرى 36
-
الفصل الأول: 7
-
الفصل الأول: 6
-
الفصل الأول: 5
-
الفصل الأول: 4
-
الفصل الأول: 3
-
الفصل الأول: 2
-
الرواية: الفصل الأول
-
سيرَة أُخرى 35
-
تخلَّ عن الأمل: 7
-
تخلَّ عن الأمل: 6
-
تخلَّ عن الأمل: 5
-
تخلَّ عن الأمل: 4
-
تخلَّ عن الأمل: 3
-
تخلَّ عن الأمل: 2
-
تخلَّ عن الأمل: 1
-
الرواية: استهلال
-
سيرَة أُخرى 34
-
احتضار الرواية
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|