|
قصة قصيرة بعنوان - السجين و الذئب -
تامر سلامة
الحوار المتمدن-العدد: 5211 - 2016 / 7 / 2 - 23:04
المحور:
الادب والفن
القصة القصيرة : "السجين و الذئب" .
في مساء يوم شتاءٍ روسيٍ قارص البرودة ، كانت تجلس إمراة عجوز فقيرة ، تكتب رسالة لإبنها السجين في سجن الساليكان الروسي ، فكتبت برسالة ملئتها الدموع و الأحزان المتشبعة بالخوف من الموت الذي باتت تشعر بدقاته القاسية على بوابة خروجها من الحياة ، فكتبت:
" إبني ڤالودا ،إشتقت لك يا ولدي ، هل سيبقى الفراق رهاناً أبدياً بيننا ؟ إني أشعر بإقتراب لحظة الموت الخسيسة ، إنتها تقترب ، لقد جهزت ملابسي التي سأدفن فيها ، وصيتي لك يا ولدي أن تدفنني بملابسي المخبئة في صندوقي الأحمر الموضوع تحت السرير ، و جل ما أتمناه الآن ، هو أن أستطيع رؤية وجهك يا ولدي ، ولو للمرة الأخيرة في حياتي قبل أن أموت ، و لكن الخالق سيستكثر حتى هذا الأمنية البسيطة علي إمرأةٍ بسيطةٍ فقيرةٍ مثلي . "
أرسلتها بالبريد السريع و عنونتها لسجن الساليكان للزنزانة الإنفرادية الحاملة رقم "١٩٤" ، للسجين المحكوم بالمؤبد "ڤالودا كازوڤيتش" ، ثم عادت لمنزلها تتلمس سريرها البارد تحت ضوء شمعةٍ يتيمة تكاد أن تنطفىء من شدة الريح التي لا تكاد تفرط بلحظة كي تنقض على بيتها المتهالك .
وصلت الرسالة ، إستلمها السجين و قرأها ، فتفجرت ملايين الأفكار الشيطانية في رأسه ، يا لها من مأساة ، هل ستموت والدته التي لا يملك سواها في حياته ، أمه الأرملة الطيبة ، التي قدمت الغالي و النفيس و أفنت سنوات شبابها في تربيته بعد أن توفي والده في الحرب و ترك حملاً لا تستحمله الجبال على عاتق أمه .. فكر بكل الطرق الممكنة ، و الغير الممكنة ، يبحث في كل زاوية و منفس ليستطيع أن يهرب أملاً في لقاء أمه قبل أن يختطفها القدر دون عودة أو رجعة ، راقب الحراس و تحركاتهم بدقة متقنة ، راقب حركة باقي السجناء ، قرر الهروب في فترة الغذاء ، حيث يخرجون السجناء من زنازينهم لتناول الطعام في الكافيتريا ثم إن شاؤوا تجولوا في ساحة السجن ذات السياج المرتفع و تكون الحراسة أقل من المعتاد بسبب تناول الحراس لطعامهم .
الساعة الآن الثانية بعد الظهر ، دق جرس الغذاء و فُتحت الزنزانة ، تحرك بكل أريحية كي لا يثير أي إنتباه له ، فهو متوتر جداً ، يفكر بكل خطوةٍ يخطوها تجاه الساحة المفتوحة ، راقب الحراس ، و إنتظر اللحظة المناسبة ، وجد الحارس الوحيد الذي لم يذهب لتناول الغذاء و بقي مناوباً لحراسة تلك البوابة الخلفية الصغيرة تحت برج المراقبة ، بقي يقارب بحذر و بيده شوكة طعامٍ أخفاها في كُمّه ، حين إقترب منه ما يكفي هجم عليه على غفلة و طعنه بها خمس طعنات سريعة في رقبته واضعاً يده على فم الحارس لإخراسه ، حتى فارق الحياة ، فتح البوابة و هرب بأقصى سرعته نحو الغابة المجاورة للسجن ..
بعد ساعات من الجري المستمر ، و بعد أن بدأ الليل يخيم على الغابة المترامية الأطراف ، و فجأة ، سمع صوت حركةٍ قريبة منه بين الأشجار ، و إذ بذئبٍ رماديٍ شرس ، يخرج من بين الأشجار المظلمة مكشراً عن أنيابه الحادة ، و إقترب بحذرٍ نحو السجين يتجهز لمهاجمته ،أخرج السجين سكينه المسروق من الحارس الذي قتله ، ثم نظر للذئب في لحظة طغى عليها الجنون مغيباً للعقل ، محدثاً الذئب في تحدٍ غير إعتيادي لأشرس مخلوقات الغابة الليلية قائلاً " أيها الرمادي ، هيا إما أن تهاجمني أو تتركني أمضي في سبيل حريتي ، فأمي المريضة التي ليس لي سواها قد تموت في أي لحظة الآن و يجب أن ألتقيها مهما حصل ، أرجوك لا أريد أذيتك ، فأنا و أنت متشابهين ، فقد عنفتني الحياة كما عنفتك ، و حاصرتني في الزاوية كحيوانٍ شرس مكروه ، فنحن متساويين ، فإما تتركني أذهب الآن ، أو تهاجمني ، الأمر يعود لك يا صديقي الرمادي ، و لكنني أحذرك فأنا متعطش الدماء مثلك ، فلن أتركك تشكل عائقاً بيني و بين أمي العزيزة ، فقرر الآن ماذا ستختار ، الحياة أو الموت " .
حدق الذئب مطولاً في السجين ، كأنه قد فهم توسله و تهديده ، و فجأة صدح صوت نباحٍ كلب حراسة من بعيد مجلجلاً في الغابة متبوعاً بخطواتٍ عسكرية سريعة ، حينها أيقن السجين أن حراس سجنه قد إكتشفوا أمر هروبه ، و خرجوا في دوريات بحثٍ و إستطلاع مستعينين بالكلاب البوليسية المدربة ، فنظر السجين الذئب نظرة تحدٍ و صرخ فيه " هيا ! إما أن تهاجمني و أموت أو تموت أنت ، أو نهرب معاً من بطش الحراس و الكلاب الذين لن يتركوا أحداً منا في شأنه ، فأنا سيعيدونني لزنزانتي و أنت سيقتلونك لانك ستشكل خطراً عليهم ! هيا تحرك أيها الرمادي الغبي !!! "
في هذه اللحظة ، كانت الأم العجوز جالسة تأوي لفراشها النحيل ، تتلمس صورة إبنها بلمساتٍ مرتجفة ، و فجأة شعرت بضعفٍ شديد ينتابها ، و سقطت الصورة من يدها كما تتساقط أوراق شجرةٍ عجوزٍ في خريفٍ بارد ، و صعدت روحها للسماء تتخلل الغيوم خالعةً ما بقي لها من آثارٍ دنيوية "
بدأت خطوات الحراس تقترب شيئاً فشيئاً ، و علا صوت النباح ، و تردد صوتٌ من بعيد " لقد إقتربنا من الإمساك به " ، فالنقيب يوراسلاف جوسيف ، مسؤول فرقة الإستطلاع كان شديد الحرص على الإمساك بالسجين الهارب ، فقد كانت أوامره التي تلقاها من مأمور السجن تقضي بأن يمسك بالسجين أو يسجن عشر أيامٍ كعقاب له على هرب السجين في فترته ، و كان من المفترض أن تنتهي خدمته و يعود لمقابلة زوجته التي أخبرته أن إبنه يحتضر من الحمى الشوكية ، فلم يكن له أي أمل سوى بالقبض على الهارب ليحصل على إذن الخروج و العودة للمنزل . حدق الذئب بالسجين و زمجر ، فتجهز السجين للانقضاض عليه ، فما كان من الذئب إلا أن أسرع في الفرار ثم إختفى بين الشجيرات الداكنة ، إنطلق السجين بكل ما أوتي من سرعة يشق الغابة دون وعي ، فكل همه هو أن لا يقبض عليه و أن يرى أمه و يودعها و هو لا يعلم بأنها قد توفت قبل ساعات ، يجري كالمجنون بين الأشجار يصطدم بأغصانها دون مبالاة ، و صوت الكلاب يتبعه ، و فجأة إرتطم بجدارٍ إسمنتي ، وسقط ، نظر للسماء ثم نهض ، " يا إلهي ! إنه جدار للسجن مجدداً ، بحق السماء ! أي جنونٍ هذا ! " ... إستدار و غير إتجاهه عكس الجدار و إنطلق مسرعاً ، فجأة صدح صوت برصاصة ، فشعر بألمٍ في صدره ، كانت تلك الرصاصة خارجة من بندقية يورسلاف ، أصابته إصابةً مباشرة في صدره فسقط على الأرض ، يلعن السماء و الحياة ، يلعن الحظ العاثر الذي قدره له الخالق دون رحمة ، إقترب منه الحراس ليجدوه يتلوى من الألم ، فقبضوا عليه ليعيدوه للسجن مجدداً . فرح يورسلاف بذلك ، و عاد لزوجته و إبنه ، ليجد إبنه و قد قضى عليه المرض ، يا لها من مأساة تراجيدية ، و لعبةٍ مؤلمة قام بها القدر تلك الليلة ، أجبرته على الإستقالة من عملت و البقاء في المنزل. في عيادة السجن ، حيث كان يتلقى ڤالودا علاجه ، إقترب منه الطبيب و أخبره بوفاة والدته ليلة أمس حين كان هارباً ، فتلقى الصدمة كصاعقة قسمت ظهره ، فكم هو القدر قاسٍ علينا جميعاً و يصب هولاته علينا دون رحمة . في اليوم التالي ، وجدوا السجين راقداً في سريره في العيادة غارقاً في الدماء ، فقد إستطاع سرقة مشرطاً طبياً و قام بقطع أوردته خلال الليل ...
#تامر_سلامة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية العشق في زمن الرجعية -الرواية الكاملة -
-
القصة القصيرة - لقاءٌ مصيري غير متوقع -
-
فجوة و إشراقة الفن في قطاع غزة
-
تشابه الدور بين رأس النعامة واليسار الفلسطيني
المزيد.....
-
مغني الراب -كادوريم- يثير ضجة في تونس بإعلانه المفاجئ عن الت
...
-
تحتضن مواقع مهمة.. أبرز آثار بلدة العيزرية شرقي القدس
-
تردد قناة وناسة للأطفال 2024 على النايل سات وتابع أجدد الأفل
...
-
وزارة الإعلام الكويتية تعلق على الأنباء المتداولة حول تكاليف
...
-
أحمدو همباتيه باه: رائد الأدب الشفاهي الأفريقي وحارس ذاكرة ا
...
-
بعد تقارير عن -أجر بيومي فؤاد-.. تعليق كويتي رسمي بشأن دفع م
...
-
المفكر المغربي طه عبد الرحمن: تناولت السيرة النبوية من منظور
...
-
رواية -المُمَوِّه-.. شعرية الحدث والسرد العربي القصير
-
افتتاح معرض للأعمال الفنية المنتجة في محترفات موسم أصيلة ال4
...
-
روسيا.. مجمع -خيرسونيسوس تاورايد- التاريخي يستعد لاستقبال ال
...
المزيد.....
-
Diary Book كتاب المفكرة
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
مختارات هنري دي رينييه الشعرية
/ أكد الجبوري
-
الرفيق أبو خمرة والشيخ ابو نهدة
/ محمد الهلالي
-
أسواق الحقيقة
/ محمد الهلالي
-
نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح
...
/ روباش عليمة
-
خواطر الشيطان
/ عدنان رضوان
-
إتقان الذات
/ عدنان رضوان
-
الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد
...
/ الويزة جبابلية
-
تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً
/ عبدالستار عبد ثابت البيضاني
-
الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم
...
/ محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
المزيد.....
|