|
العقل الاكبري في مرآة ما بعد الحداثة
آمنة شاهدي
الحوار المتمدن-العدد: 5208 - 2016 / 6 / 29 - 09:36
المحور:
الادب والفن
ما بعد الحداثة ، تيار فلسفي من فلسفات الفترة المعاصرة ، ظهر كرد فعل على الحداثة الاوروبية و سيادة العقل الاذاتي ، سبب كل المآسي التي تخبطت فيها المجتمعات الاوروبية من حروب(الحربين العالميتين الاولى و الثانية بالخصوص) و نزاعات دموية و كوارث طبيعية . و هو تيار تشاؤمي فقد ثقته في المبادئ الانسانية و القيم و المقولات التي هيمنت على الثقافة االغربية . كما شككت ما بعد الحداثة بشكل جوهري في جميع المعارف و الخبرات البشرية بتراكمها ، مما جعل الكثير يصفون هذه الفلسفة بالعدمية .
ان ما بعد الحداثة ليست واحدة ، بل قد تعددت أسماؤها . إلا أن مبدأها واحد ، وهو أنها حاربت العقل و العقلانية ، و دعت إلى إعادة النظر في العقل كمصدر اساسي للمعرفة ، و مراجعة وسائل أخرى ، كالأساطير التي قد تتناسب ومبادئها و أفكارها ، وهو ما يفسر النزعة الروحية الخيالية في الأدب و الفن " الما بعد حداثيين " . و تقوم فلسفة ما بعد الحداثة على مرتكزات أساسية اهمها هدم المعايير النموذجية في شتى المجالات ، الفنية منها و الجمالية و الأدبية والأخلاقية ، والتبرؤ من المعارف اليقينية و الحتمية ، كما يتميز المنهج المابعد الحداثي بتغييبه للعقل و المنطق ، وعمله على نشر الأفكار التحررية التي تهدف إلى تحرير الإنسان من العبودية المؤسساتية والسلطوية ومن الأوهام الإديولوجية . إن الفكر الغربي لم يفرز لنا هذا الصنف من التفكير إلا بعد تعرضه لأزمة الحداثة برعاية العقلية الأذاتية التي لم تتفطن لخطورتها المجتمعات الأوروبية إلا بعد الحرب العالمية الثانية و سقوط مبدإ الحتمية مع الفيزياء الحديثة ، حيث وَعَى الغرب بخطإ اتخاذ العقل كغاية في ذاته بدل أن يكون وسيلة لتحقيق أهداف أكثر سموا من العلم ، أو في أسوء الحالات أقل دمارا منه ، وعلى أن العلم لا بد له من الخضوع لأخلاق توجهه لضمان مصلحة البشرية و استمراريتها ، عوض الاكتفاء بالتفكير في النجاعة و الضخامة الإنتاجيتين . وقد تحدث إبن عربي بإسهاب بشأن هذا الموضوع ، منطلقا في ذلك من فكرة أن العقل لا يمكنه إلا أن يكون وسيلة لاكتشاف العالم والموجودات وتسيير العلاقات مع الغير، و مع الله ، باعتبار أن ذلك العقل إنما هو وسيلة لفهم شريعة الله ، لا غاية في ذاته و لأجل ذاته ، وهو تقليد سار عليه إبن عربي وفاءً منه لعقيدته الأشعرية . إن اقامة مقابلة المرآة بين الأفقين الأكبري و الما بعد حداثي ، هي محاولة لتبيان مدى اتفاق التيارين و اختلافهما على مستوى تناولهما لمفهوم العقل و نقدهما له ، حتى وإن لم يكن الطرح الما بعد الحداثي نقدا ، بقدر ما هو انتقاد و هجوم على العقل في كليته ، في مقابل النقد الأكبري الممنهج و الواضح المعالم والخطى ، وهو نقد يتخذ الهدم خطوة أولى نحو البناء وذلك من جهة ، ومن جهة أخرى تبيان نقاط الاختلاف على مستوى المقاصد و الغايات من وضع العقل محل النقد والانتقاد عند كل من ابن عربي و فلسفات ما بعد الحداثة. إن ابن عربي في نقده للعقل ، لم تحكمه غاية إقصائه ، ولا قادَته فكرةُ عجز العقل كمعطى مسبق ، عمل على إثباته و إقامة الحجة عليه ، وانما هو ركز إهتمامه على تفكيك و تحليل هذا الكيان المعقد المدعي لامتلاك المعرفة ، وعلى إتيان حدوده و مميزاته و نقائصه و عِلّاته ، فخلص إلى أن العقل وحده ، غير كاف لتكوين معرفة متكاملة عن العالم . لكن هذا الفهم من إبن عربي ، لا يعني أن هذا الأخير سلب العقل حقه في أن يخوض غِمارَ تجربةِ اكتشافِ الوجودِ باختلاف طبائعِ مكوناتِه ، لكنه فقط ، رأى أنه لا بد له من العودة والاستناد إلى الكشف لما فيه من خصائص لا قدرة للعقل على امتلاكها . فابن عربي ، وكما رأينا سلفا في سياق سابق ، لم ينكر أهمية العقل وضرورته كخاصية إنسانية محضة تميز هذا الكائن عن غيره . وفي مقابل هذا الطرح الأكبري ، نجد أن ما بعد الحداثة ، بتنكرها للعقل في قالب عدمي معتاد ، تنظر إلى هذا العقل نفسِه نظرةً تفكيكية ، متشظية مِلؤُها الثورةُ على كل ما يحمل صفة الانسانية و الاجتماعية ، فكان هجومها على العقل والعقلانية ، بهدف الهدم لغاية الهدم . إلا ان فعل الهدم هذا ، تتباين حِدته من تيار إلى آخر ، و من مفكر إلى غيره ، ممن انتمت فلسفتهم إلى ما سأسميه بالثرات المابعد حداثي اذا ما صح القول ، باعتبار الثرات معنى إنسانيا محضا يرتبط بمخلفات التجارب الإنسانية ، وهو صلب ما ثارت ضده فلسفةُ ما بعد الحداثة . ويعد الفيلسوف الفرنسي اللاعقلي "هينري بيرغسون" ممن ساروا على نهج مفكري عصر المابعديات ، رغم إنكاره انتماءه لأي تيار محدد دون آخر ، لكن حيث إننا لسنا بصدد تقصي حقيقة انتمائِه الفلسفي فإن ما يهمنا من فلسفة هذا المفكر هو نظرته المابعدية للعقل ، إذ لم يكن نقده له نقدا عبثيا ، بقدر ما كان نتيجة لفراغات و ثغرات معرفية لم يستطع برغسون ملأها بغير ما سماه بالحدس . لقد كان بيرغسون ، كانطَ زمانِه من خلال شنه حربا شعواءَ على التيارات المادية التي جعلت من العالم جرد تجارب . فكما صد كانط في عصره الموجات الإلحادية المنبهرة بالعلم ، و التي صنعت للعقل عرشا يتربع عليه بفخر و جبروت ، وافتخرت بالعقلانية معلنا عن قصور العقل في البحوث السامية ، أعاد بيرغسون الكَرّة معتبرا أن العقل غير قادر على إدراك الجانب الحيوي المتحرك من الحياة. ان العقل حسب بيرغسون يدرك العالم على شكل صور متتالية جامدة فاقدةٍ للديناميكية ، ولا سبيل له لإدراك الحياة دون تقسيمها إلى أجزاء ، و من ثمة فحصها جزءً جزءً (1) . وفي عملية التجزيئ تلك ، تضيع حركية الأشياء وعناصرها المتجددة التي تجعل من العالم موضوعا حيا ، مما يجعل من العقل عند بيرغسون ، و معه الحواس ، أدوات للتجزيئ تكتفي بظواهر الأشياء ، ولا تنفذ إلى بواطنها حيث تكمن الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود ، وهي بالذات نفس الفكرة التي نجدها ، وإن بتعبير آخر ، عند ابن عربي في نظريته حول وحدة الوجود. غير أن الإشكال البديهي الذي يخطر لأذهاننا ، بمجرد الاطلاع على مبررات هجوم مفكرنا الفرنسي على العقل ، هو الإشكال المتمثل في البديل . إذ لما كان العقل عاجزا عن إدراك الوجود في كينونته و بصيرورته و زمنه المتحركين ، فما هو المبدأ أو العنصر الأصح للقيام بهذه المهمة ؟ إن بيرغسون ، بمهاجمته للعقل ، أراد أن يُلفت الإنتباه الى تلك الحاسة الدفينة في أغوار كل فرد ، وهي حكمة البصيرة ، أو الحدس الذي يمثل سبيل المعرفة الحقة ، التي حددها بيرغسون في أنها " المعرفة التي تساير العالم في حركته و تتماشى مع الوجود في دخوله و تغلغله في بواطن الأشياء ، و تحسها إحساسا مباشرا ، كما يحس الحمَل الوديع وجوبَ الفرار من غائلة الذئاب "(2). ويجد الحدس البرغسوني نظيره في مرآة ابن عربي ، كتجسيد لمفهوم الإشراق الأكبري بصفة خاصة ، والصوفي بصفة عامة ، و ما يقابله من اصطلاحات الصوفية التي تفيد أداة المعرفة التي تتشارك و الحدس في صفات الإطلاقية ، وعدم التقييد ، والمباشرة . وهكذا ، فإن الحدس عند بيرغسون ، يحل محل العقل المحدود الظاهري التوسطي الذي لا يتعدى مجال المادي و المحسوس ، و يقف عاجزا أمام صيرورة الزمن وتدفق المادة ، غير قادر على الولوج الى عمق الموضوعات و جواهرها . و بقدر ما تشكل هذه العناصر نقاط ضعف للعقل ، هي في ذات الوقت نقاط قوة ، ومميزات يتفرد بها الحدس بمعنييه البرغسوني والصوفي على حد سواء . فمن جهة ، إستبدل إبن عربي ، العقلَ بالذوق ، و من جهة أخرى ، قدم برغسون الحدس بديلا للعقل أيضا . وكلا البديلين من شأنهما إذابة الحُجب و الدخولُ في حوار مع صيرورة العالم وجوهره الذي لا يعرف الاستقرار . على أن "اللاإستقرار" ميزة من مميزات الحكمة الأكبرية التي ليس من أولوياتها الاستقرار على موضوع أو منهج . فالمنطق الأكبري هو منطق جدلي ديناميكي حر، يختلط فيه الشعر بالنثر ، ويمتزج فيه الطبيعي بالماورائي ، و يؤالف بين الفلسفي و الصوفي ، كما أن البحث الأكبري هو بحث في المتناقضات و محاولة للجمع بين المادة و الروح و الواقع و الخيال . واذا كان الفكر الأكبري يسعى من خلال نقده للعقل ، إلى تعميم النظرة الموضوعية الشاسعة و الفضفاضة للوجود ، و القرب من روحه وجوهره الواحد والمتغير في نفس الوقت - وهي صفات الذات الإلهية - كما هو في ذاته وليس كما يظهر من وراء حجب الموضوعات ، فاننا نتحدث ضمنيا عن مقاصد الفكر البرغسوني و غاياته المتوخاة من هجومه على النظرة المادية و العقلانية للوجود ، وهي نقطة يؤسس عليها المفكران اللذان اتفقا على أن يُبقيا الوجودَ شاخصا أمامهما ، بدل اقتناص النظرات إليه من منظار العقلِ ، قصيرِ النظرة ، عليلِ الوسائلِ، محدودِ الافقِ . إن بيرغسون ، من خلال ما توصلنا إليه بخصوص نظرته للعقل ، وكيفيات انتقاده له من جهة ، ونظرته الشاعرية للوجود بواسطة منظار الحدس من جهة أخرى ، يتبين لنا أنه النسخة الأقل تشاؤما وعدمية من الفلسفات المابعد حداثية ، التي يرفض ، أصلا ، إلحاق اسمه بقائماتها . إذا كان أساس انتقاد فلسفة ما بعد الحداثة للعقل هو الثورة على القيود الممثلة في المبادئ بشكل عام ، والعقلية بصفة خاصة ، لا لأجل شيء سوى الانعتاق من الواجب و المفروض والسائد الذي سَيَّد العقلَ ، وجعل من الفرد أسيرا له ، وفتح الباب أمام التعدد و الاختلاف و تكسير الأنساق والنُّظم أُحادية القيم ، فإن الأفقين الأكبري و البرغسوني أرادا من وراء هدم المعرفة العقلية ، لفت النظر إلى ما هو أشمل و أوسع أفقا ، وإلى أكثر المرايا وضوحا لرؤية روح العالم منعكسة بها ، وفتح باب الإبداع و التطور أمام الذوات ، لمسايرة الوجود المتغير باستمرار. فالإقامة على حال واحد ، نَفَسَين فصاعدا ، لا يُعول عليه عند أكابر الرجال . على حد تعبير شيخ مورسية . ______________________________________________________________ (1) امين احمد، زكي نجيب محمود : قصة الفلسفة الحديثة، الجزء الاول، مطبعة لجنة التاليف و الترجمة والنشرن القاهرة 1936، ص569، بتصرف. (2) نفس المرجع السابق، نفس الصفحة.
#آمنة_شاهدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|