|
حين تُصقَل الموهبة بالتكوين الأكاديمي والعلمي (تكريم الفنان الموسيقي بلعيد العكاف)
الحسين أيت باحسين
الحوار المتمدن-العدد: 5206 - 2016 / 6 / 27 - 22:52
المحور:
الادب والفن
بتاريخ 25 يونيو 2016 نظمت جمعة "المبادرة" بحي يعقوب المنصور بالرباط حفل تكريم للفنان الموسيقي بلعيد العكاف ولمجموعة أخرى من الفنانين من بينهم الموسيقي والملحن الفنان محمد بلخياط، حفل تكريم بمناسبة اليوم العالمي للموسيقى، وبمناسبة صدور كتاب للفنان بلعيد العكاف تحت عنوان: "من حي يعقوب المنصور إلى العالمية (مذكرات فنان)". علما أن هذه الجمعية (جمعية المبادرة) تهتم بالطاقات البشرية المنتمية لهذا الحي بمختلف مشاربها واهتماماتها وتخصصاتها التي أضافت قيمة إيجابية لنفسها وللانتماء للحي.
إن التكريم عادة ما يقام بمناسبة ما أنجزه وأضافه المُكَرَّم إلى ما هو قائم في مجالات اهتمامه وتخصصه. أما شهادتي في حق المكرم فتعود إلى أن معرفتي به وبأسرته منذ سنة 1970، إذ قادتني الصدفة في بداية الأمر، حين التحقت بالجامعة في الرباط، أن أتعرف على أخيه الكبير السيد إبراهيم العكاف عن طريق أحد أقربائي. فاكتشفت أن أباه ينتمي إلى نفس المنطقة التي أنحدر منها (ؤنزوطّ / مزوضة بناحية مراكش) كما أن أمه أيضا من الجنوب المغربي (ماسة بناحية أكادير). فعرفت الأسرة عن قرب ولاحظت ولع الأسرة بالمجال الفني، خاصة من خلال اهتمامات الشاب بلعيد ومن كون أبيه من بين المنظمين والمؤطرين للحفلات والمواسم التي تقام في الحي الذي يسكنون فيه. ومن بين تلك المواسيم حفل "معروف مزوضة" الذي كان المرحوم أبوه الحسين العكاف "مُقَدَّما" مسؤولا عن تدبير سير احتفالاته التي تدوم ثلاثة أيام؛ وكان يحضره، إلى جانب من يرغب من ساكنة حي يعقوب المنصور، كثير من المنحدرين من مزوضة، ومن بينهم بعض الفنانين مثل المرحوم الرايس عمر واهروش الدائع الصيت آنذاك. ثم أبت الصدف، إلا أن أستقر، سكنا ومهنيا، في حي يعقوب المنصور حيث تتبعت مختلف ما أنجز فيه من نضالات ومن أنشطة جمعوية وثقافية وتربوية بل وسياسية منذ ذلك الحين إلى اليوم. كما شاءت الصدف أيضا أن أعيش تجربة الفنان بلعيد ضمن مجموعة "أوسمان" الشهيرة منذ بداية تأسيسها إلى أن توقفت المجموعة عن العمل الجماعي، لكوني كنت عضوا في المكتب الوطني للجمعية التي أسست مجموعة أوسمان (الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، التي أنشئت في الرباط سنة 1967 من أجل المطالبة برد الاعتبار للأمازيغية لغة وثقافة وهوية ومؤسساتيا). كما أننا (أن والأستاذ بلعيد العكاف)، غالبا ما نتواجد، منذ ذلك الحين، في نفس التظاهرات الثقافية والفنية للحركة الثقافية الأمازيغية في مختلف مناطق المغرب. وحين أنشئ المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (كاعتراف رسمي من طرف الدولة المغربية بالأمازيغية، إلى أن أُحِلْنا معا على التقاعد، سنتواجد يوميا، جنبا إلى جنب، في هذه المؤسسة (هو في مركز الدراسات والتعابير الأدبية والإنتاج السمعي البصري، وأنا في مركز الدراسات الأنتروبولوجية والسوسيولوجية). وفي هذه الفترة، داخل هذه المؤسسة وخارجها أيضا، أتيحت لي فرصة معرفة الفنان بلعيد العكاف عن قرب، ولمست بوضح ما له من طاقات إبداعية ومن تكوين علمي أكاديمي ومن عطاء إنجازي في مختلف الجوانب الفنية والموسيقية، الوطنية عامة والأمازيغية خاصة.
وبدون الدخول في التفاصيل المتعلقة بإنجازات وإضافات الأستاذ بلعيد العكاف في مجال التراث الموسيقي؛ المغربي عامة والأمازيغي خاصة؛ يمكن الاكتفاء بثلاث مداخل لتلك الإنجازات والإضافات التي استدعت، من بين ما استدعى، هذا التكريم.
المدخل الأول يتمثل في صقل الموهبة بالتكوين العلمي والأكاديمي فمنذ أن قرر الفنان العكاف بلعيد اختيار مشوار الفن الموسيقي كمشوار أساسي لحياته، قرر أيضا البدء بالتكوين الأكاديمي والعلمي لكي يقوم بصقل موهبته التي أبان عليها إلى حدود الآن. وهذا ما قام به في مرحلتين أساسيتين: الأولى داخل المغرب والثانية خارج الوطن، وذلك بالرغم من أن إمكاناته المادية قد لا تسمح له بتحقيق حلمه. ففي المرحلة الأولى ولج المعهد الوطني للموسيقى بالرباط، وكانت الحصيلة جد إيجابية، إذ سنحت له بإرساء موهبته على أسس أكاديمية وعلمية مع صقل ما كان يمارسه وينتجه بالفطرة أكاديميا وعلميا؛ كما سنحت له تلك الحصيلة بأن يصبح أستاذا بنفس المعهد الذي كان يدرس فيه قبيل التخرج منه طالبا. إثر ذلك اتخذ قرارا جديدا، وهو البحث عن تعميق التكوين الأكاديمي والعلمي خارج المغرب، لعدم توفر مؤسسات خاصة تسعفه على تحقيق الهدف الجديد المنشود. فقاد مغامرة الدراسة في الاتحاد السوفياتي (سابقا). إذ كانت لهذه المغامرة نتائجها المتوخاة على مستوى تعميق التكوين الأكاديمي والعلمي؛ وذلك بالحصول على شهادة من المعهد العالي "تشايكوفسكي للموسيقى بروسا"، وكذا بالتخصص في مجالات موسيقية لم تكن متوفرة في المغرب آنذاك؛ وذلك بالرغم من مواجهته لمختلف الصعوبات المادية التي لم يكن يجد لها حلا إلا بمغامرات جديدة لتوفير الشروط الضرورية لتحقيق الحلم الذي من أجله فارق الأهل والوطن. كما كان يلجأ، منذ المرحلة الأولى، إلى تعميق تكوينه استجابة لما يستلزمه التدريس الذي كان يقوم به في مجموعة من المؤسسات الثقافية والفنية والجامعية، وما كانت تستلزمه الدروس الخصوصية التي يستعين بها مهنيا، وما كان يستلزمه الاشتغال مع بعض الموسيقيين العالميين الكبار الذين أنتج معهم أعمالا فنية راقية. إن ما حصل عليه من الجوائز العديدة؛ نتيجة مساهماته القيمة، في التعريف بالثقافة الموسيقية، المغربية عامة والأمازيغية خاصة، ومنحهما إشعاعا عالميا، ومن بينها وجائزة «الفارابي»، التي يمنحها المجلس الوطني للموسيقى، برعاية المجلس الدولي للموسيقى (دار اليونسكو، باريس)؛ لدليل واضح على الاعتراف له بتكوينه الأكاديمي والعلمي وبإنجازاته الفنية الموفقة وطنيا وعالميا.
المدخل الثاني يتجلى في عقد علاقة جديدة مع التراث الموسيقي المغربي عامة والأمازيغي خاصة.
من خلال ما سبق ذكره، في المدخل الأول، يظهر جليا أن الفنان بلعيد العكاف سعى باستمرار إلى رفع الموسيقى، المغربية عامة والأمازيغية خاصة، إلى مستوى الموسيقى العالمية. ويتجلى منطلق هذا السعي في تدوين الموسيقى الأمازيغية، التي كانت حبيسة "الممارسة الشفوية"، بالكتابة الأكاديمية والعلمية الخاصة بها (الصولفيج) حفظا لها من الضياع والنسيان ومن عدم إعادة إنتاج لانهائي، في الممارسة اليومية، من قبل من لا تكوين أكاديمي وعلمي له. وفي خطوة سابقة، في تاريخ الفن الموسيقي، المغربي عامة والأمازيغي خاصة، ساهم الفنان بلعيد العكاف، في تأسيس مجموعة أوسمان سنة 1974، التي لم تكتف بالقيام بالثورة الغنائية والموسيقية التي عرفها المغرب في أواسط السبعينات؛ مع "ظاهرة ناس الغيوان وجيل جيلالة" وغيرهما من المجموعات التي ظهرت في ما بعد؛ بل قامت بعروض في بعض كبريات القاعات الفنية والموسيقية العالمية مثل قاعة "مسرح أولمبيا" العالمية بباريس وغيرها. كما تجدر الإشارة إلى عدم نسيان مشاركاته في عروض مماثلة عبر مختلف مناطق المغرب وعبر دول العالم حين توقفت مجموعة "أوسمان" كفرقة ليستأنف مهمته إلى الآن؛ إما ضمن مجموعة "الإخوة العكاف" أو ضمن مجموعات أخرى أسسها أو ساهم في تأسيسها. كما أنه تعامل، في مسيرته الفنية، مع العديد من الأسماء المرموقة في عالم الموسيقى، من إسبانيا وهولندا وفرنسا وموريتانيا والسنغال والصين وبريطانيا والهند والبرازيل وكندا وروسيا، وغيرها من بلدان العالم. وذلك من أجل تغيير الفكرة المسبقة عن الموسيقى، المغربية عامة والأمازيغية خاصة، والسعي نحو رفعهما إلى مستوى العالمية.
المدخل الثالث يظهر بوضوح في حرصه على تحديث التراث الموسيقي التقليدي الأمازيغي، وذلك بإدماج الآلات العصرية في الموسيقى الأمازيغية وإدماج الآلات التقليدية في الموسيقى الأمازيغية العصرية، مع الحفاظ على الجوهر المميز للموسيقى الأمازيغية والعمل على تحديثها. كما انبرى للتأريخ لأعمال الفنانين الأمازيغيين المبدعين في مختلف المناطق المغربية صونا لهذا التراث، وناقلا إياه من الوضع الشفوي الذي لا يصمد مع الزمان إلى الوضع الكتابي الذي ستستفيد منه حتى الأجيال المستقبلية، ومن بينها "دليل المبدعين الأمازيغيين" و"من حي يعقوب المنصور إلى العالمية (مذكرات فنان)" ومعزوفات موسيقية وقرص مدمج لموسيقى "الجاز الأمازيغي" ووضع أول "سنفونية أمازيغية". وهو يشتغل الآن، منذ أن أحيل على التقاعد، على إنجاز مجموعة من المشاريع الفنية الموسيقية والتآليف الأكاديمية والعلمية التي من شأنها المساهمة في تحديث التراث الموسيقي، المغربي عامة والأمازيغي خاصة.
خلاصة القول هو أن عنوان إصداره الأخير: "من حي يعقوب المنصور إلى العالمية (مذكرات فنان)" الذي أودعه عصارة مساهماته من أجل رفع الموسيقى، المغربية عامة والأمازيغية خاصة، إلى المستوى العالمية؛ يوحي، أيضا، في طياته بإمكانية قلب عناصره ليصبح: "من العالمية إلى حي يعقوب المنصور (مذكرات فنان)" لأن مشوار المؤلف؛ المملوء بالمغامرات، من أجل إيصال الموسيقى، المغربية عامة والأمازيغية خاصة، إلى العالمية؛ ينتهي بالاعتزاز بالجذور وبالعودة إلى المحلي للنبش فيه من أجل إبراز ما يتوافق فيه مع ما وصلت موسيقى مختلف المجتمعات والثقافات المبنية أكاديميا وعلميا من عالمية. إضافة إلى أن المؤلف لم يتخذ مشواره لكي "يحركَ" (أي لكي "يهاجر" سواء في مستوى ما يسمى ب"الهجرة السرية" (الحريكَ) أو "هجرة الأدمغة" (اتخاذ الفن وسيلة للعيش الرغد هربا من الواقع المحلي)؛ بل اختار العودة من العالمية من أجل تنمية المحلية. السبت 25 يونيو 2016 / 19 رمضان 1437 الحسين أيت باحسين الكاتب العام للجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي بالنيابة
#الحسين_أيت_باحسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوس والبحر من خلال أعلام سوس البحرية
-
كفى من التمييز ضد المرأة !
-
عموري مبارك المبدع والمجدد للأغنية الأمازيغية (1)
-
أية مقاربة تشاركية لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية ؟
-
الأمازيغية المُرَسَّمَة وسؤال تأجيل تفعيل قوانينها التنظيمية
-
الاحتفال ب-السنة الأمازيغية- من أجل تجديد الارتباط بالأرض وب
...
-
السنة الأمازيغية : بعد احتفالي، حدث تاريخي ومطلب سياسي
-
رحيل الحنجرة الشاعرية الجذابة أو الراحل – الحاضر: المرحوم ال
...
-
مسار المطالبة بترسيم الأمازيغية بالمغرب
-
الهوية الأمازيغية (مفهوما وواقعا) (1)
-
«بيان» العلامة محمد المختار السوسي حول ضبط الأعلام الأمازيغي
...
-
الرحيل في زمن المحرمات الثقافية الكبرى بالمغرب (تكريما للمرح
...
-
«الولوج إلى عالم الغناء المقرون بطرد واقتناص الوعول في الجبا
...
-
تأخّر القانون التنظيمي للأمازيغية أمْلاه -التجويد التشريعي-
...
-
-كهفنة- القضية الأمازيعية (-Guettoisation de l’Amazghe-)
-
من أجل شمولية العمل الثقافي الأمازيغي
-
محمد شفيق: -إن زمن الشجاعة الجسمانية قد انتهى وجاء زمن الشجا
...
-
قراءة في مسار الحركة الثقافية الأمازيغية (1)
-
الأمازيغية بين الوساطة النضالية والثقافية (تكريما للأستاذ إب
...
-
الأمازيغية بين سراب ... وشاطئ الأمان ...
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|