|
التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء
خالد الكزولي
الحوار المتمدن-العدد: 5202 - 2016 / 6 / 23 - 00:09
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
من العجيب أن القارة الأفريقية، رغم أنها من قارات العالم القديم، والتي يعتقد البعض أنها الموطن الأول للإنسان، قد ظلت معرفة العالم الخارجي بها ضعيفة حتى القرن التاسع عشر، لا يخرج المعروف منها عن سواحلها في الشمال والشرق والغرب، ولعل ذلك يعزى لكون محاولات كشفها لم تكن نزهة سارة مأمونة العواقب، بل كانت محفوفة بالمخاطر من كل جانب، مخاطر تتمثل أولا في العوامل الطبيعية، حيث يقع معظمها في المناطق المدارية والاستوائية، وهي مناطق غير مشوقة للإنسان الأوربي ليعيش فيها بسبب قساوة مناخها وما تضعه من عراقيل (جبال شاهقة، شلالات، أدغال، حيوانات مفترسة وحشرات ضارة، أمراض فتاكة مستوطنة...)، وتتمثل ثانيا في طبيعة الأفريقي الذي كان ينظر للأوربي القادم نظرته إلى عدو غادر لا يريد به خيرا. لكن لولا هذه المخاطر لما وجدنا في عمليات الكشف الأفريقي ما يشبع ميول الإنسان، ولما وجدنا ما يشد القارئ لتتبع مراحل هذا الكفاح المجيد في سبيل المعرفة. وطبعا ليس هناك ما هو أروع من أن يشعر الإنسان بواجبه في المغامرة والتضحية بحياته في سبيل هدف سام، كأن يصل للأدغال والغابات والمستنقعات لينشر بين إخوانه في الإنسانية قبسا من نور الحضارة التي وصل إليها, على أن هذه الصورة البهية لا تلبث أن تتغير حين نصل الفصل الثاني من هذه المسرحية، حين ينقلب الأوربي إلى مستعمر مستغل، يستغل ماله وعلمه وخبرته على حساب أخيه الإفريقي، لدرجة معاملته كسلعة تتداول وتنقل إلى أي مكان تدر فيه أكثر ربح ممكن، كما وصل الاستغلال للموارد الطبيعية للقارة، من أرض زراعية أو ثروة معدنية أو غيرها، إلى درجة التخريب، دون اعتبار لصاحب الحق الطبيعي في هذه الخيرات، وهو المواطن الإفريقي الذي أهدرت آدميته كما أهدرت حقوقه التي وهبتها له الطبيعة. المبحث الأول – مقدمات الاستعمار الأوربي لأفريقيا: (من القرن 15 إلى أواخر القرن 18): كانت أوربا خلال العصور المسماة بالوسطى في حالة شبه عزلة بعدما تعرضت لغزوات القبائل الجرمانية، فلم يكن هناك متسع من الوقت والجهد أمام الأوربيين ليخرجوا بتفكيرهم عن نطاق قارتهم، خاصة في ظل ما أسماه Henri Pirenne بالاقتصاد المغلق Economie en vase clos purement terrienneالذي كان نتاج توقف الملاحة في البحر المتوسط بفعل الفتوحات الإسلامية. بعدما ظهرت المدن التجارية المطلة على البحر الأبيض المتوسط (البندقية، جنوة، فلورنسا ونابولي..)، كانت البضائع التي تأتي إليها يجهل تجارها الطريق إليها كل الجهل (من أهم هذه البضائع: الحرير، التوابل، القرنفل، الفل، المسك، العنبر... وغيرها من المواد التي أصبحت لها قيمة كبيرة في التطبيب وغيره بأوربا). لكن حدثت في فجر العصر الحديث عدة متغيرات وجهت أنظار الأوربيين صوب القارة المظلمة، في طليعتها الدافع الديني، ذلك أنه بعدما انتهى الصراع بين الطوائف الأندلسية والإمارات المسيحية باسترداد هذه الأخيرة للبلاد الأندلسية، عملت إسبانيا والبرتغال على طرد المسلمين من شبه الجزيرة الأيبيرية، بل حمل البرتغال لواء حركة دينية جديدة – يعتبرها بعض المؤرخين امتدادا للحركة الصليبية – بهدف تعقب القوى الإسلامية وتطويقها، والقضاء على مصدر قوتها الذي يتمثل في تجارة الشرق (من خلال سيطرتهم على طريق الحرير البري إلى الصين وطريق التوابل البحري إلى الهند)، وفي السيطرة على شرايين الملاحة المؤدية إلى مصادر هذه التجارة، وقد راودت الأمير "هنري الملاح Henri le Navigateur" فكرة الوصول لبلاد غانا التي داعت شهرتها بثروتها وتجارتها مع المسلمين، فرأى أن يقطع عنهم هذه التجارة، وأن ينشر المسيحية بين أهل تلك البلاد ويستخدمهم بعد ذلك لتحقيق مشروعاته، بل فكر في الوصول لبلاد إثيوبيا المسيحية وعقد حلف معها لتطويق بلاد المسلمين، ولاشك أن الحملات التي قام بها "بارتلوميو دياز Bartholomeu Diaz" الذي وصل إلى راس الرجاء الصالح Cap de Bonne-Espérance في الطرف الجنوبي للقارة سنة 1488، وكذلك "فاسكو دا غاما Vasco Da Gama" الذي وصل إلى الهند سنة 1498، كانت كلها تحقيقا لدافع قوي هو ضرب العرب والمسلمين في مقتل حتى يجف مورد ثروتهم وقوتهم المادية والعسكرية. والدليل على هذا الدافع الديني هو أن البابوية باركت هذه الحركات، وعملت على خلق أسطورة الراهب "يوحنا" مدعية أنه يحكم مملكة قوية وغنية وراء البلاد الإسلامية، وأن الاتصال به يمكن من محاصرتها، كما بادرت للتدخل لفض النزاع بين الدولتين الاستعماريتين البرتغال وإسبانيا، فحازت إسبانيا على الأمريكتان ماعدا البرازيل التي كانت هي وإفريقيا ضمن ممتلكات البرتغال. عقب ذلك، اتجه نشاط الجمعيات التبشيرية لأفريقيا، فكان المبشرون يسيرون عادة في أعقاب المستكشفين، لكن من الإنصاف أن نذكر لهذه البعثات جهودها التي أدت لزيادة معرفتنا بإفريقيا في مجالات الجغرافيا والنبات والحيوان، وببعض اللغات الأفريقية. وعموما، لقد افتتح البرتغاليون صفحة الوجود الاستعماري الحديث في أفريقيا باحتلال سبتة في غشت 1415، ثم توالت رحلات البرتغاليين إلى ساحل أفريقيا الغربي، فاحتلت جيوشهم الرأس الأخضر... ويرجع ذلك لعامل جغرافي مرتبط بقرب البرتغال إلى السواحل الإفريقية في وقت كانت فيه المسافة هامة بالنسبة للقيام بالرحلات البحرية، وأيضا لعامل تاريخي مرتبط بتحرر البرتغال منذ القرن الثالث عشر من الاحتلال العربي، فأتيحت لها الفرصة للاتجاه اتجاها بحريا خارجيا. تبعا لذلك، كانت نظرة البرتغاليين لأفريقيا تتمثل في أنها مجرد وسيلة للوصول للشرق وليست غاية في ذاتها، فاكتفوا بإقامة الحصون والمراكز التجارية على ساحلها الغربي بغرض حماية الطريق وحماية التجارة البرتغالية مع داخل القارة من أطماع الأوربيين الآخرين، فأصبحت لشبونة مركزا رئيسيا لمنتجات الشرق والسلع الأفريقية، التي في مقدمتها الذهب والعاج والرقيق. تجارة الرقيق الأوربية: يقال أن بعض الملاحين البرتغاليين أسروا في إحدى رحلاتهم البحرية حفنة من الإفريقيين، فأخذوهم معهم لتعليمهم مبادئ المسيحية حتى يعودوا لنشرها في بلادهم، لكن اتجهت أذهانهم فيما بعد إلى شراء الرقيق الأسود أو خطفه ثم بيعه للعمل، فافتتحت بذلك البرتغال صفحة الرق في العصر الحديث، وظلت تحتكر هذه التجارة لمدة طويلة، لكن مع مرور الوقت، لم تعد الجهود العادية البرتغالية تستطيع أن تسد الطلبات المتزايدة على الرقيق، فبدأ استغلال الأسلحة النارية للقنص، لذلك درج بعض المؤرخين على تسمية القرن السادس عشر بعصر البنادق. ومنذ أوائل هذا القرن، أخذ الرقيق يشحن إلى أمريكا، حيث وصلت أول شحنة من ساحل غانا إلى هايتي عام 1510، ثم في عام 1563، أبحر السير "جون هوكنز Sir John Hawkins" بثلاثمائة من الرقيق إلى هايتي أيضا، فمهد الطريق أمام الإنجليز ليساهموا في هذه التجارة البشعة، وقد تنافست الشركات البريطانية في هذا المضمار، فلا تكاد تظفر إحداها بعقد امتياز من الحكومة البريطانية يبيح لها العمل في هذه المناطق حتى تسعى لاختيار مكان مناسب لبناء حصن تتخذه مركزا لمزاولة نشاطها التجاري. وقد كانت سفن الرقيق البريطانية تقوم برحلة مثلثة (التجارة المثلثة commerce trilateral)، فتنقل البضائع الإنجليزية كالبنادق والخمور لغرب إفريقيا، حيث تستبدل بها شحنات آدمية تعبر بها المحيط الأطلنتي فتفرغها في مناطق العمل بأمريكا، ثم تعود لبريطانيا محملة بالسكر والقطن الخام والتبغ وغيرها من البضائع. هكذا تميز استعمار إفريقيا في هذه المرحلة (من ق15 إلى ق18) بخاصيتين أساسيتين: الأولى أنه "استعمار ديمغرافي" قائم على استغلال الإنسان عن طريق تجارة الرقيق بدلا من استغلال المكان، فقد كان الرقيق أغلى سلعة اكتشفتها القوى الاستعمارية في إفريقيا، وأصبحت هذه السلعة الأساس الذي بنت عليه اقتصادها ورخاءها، وليس بعيدا عن الصواب أن نقول إن "لشبونة" و"ليفربول" قد بنيتا على عظام الرقيق الأسود ودمائه. أما الخاصية الثانية فهي أنه كان استعمارا ساحليا، فبالإضافة إلى قسوة الطبيعة والأمراض المستوطنة التي حالت دون توغل الأوربي في الداخل (كان يطلق على مناطق غرب إفريقيا إسم "مقبرة الرجل الأبيض" بسبب الملاريا)، أصبحت بعض الشعوب الأفريقية تمارس تجارة العبيد بما فيها من عمليات القنص والاصطياد، وتقوم بتوريدهم إلى سفن النخاسين لتسويقهم في مناطق العالم الجديد، فكان هؤلاء الوسطاء يهمهم ألا يصل الأوربي إلى الداخل حتى يضمنوا الربح، كل هذا دون إغفال كراهية الأفريقيين للأوربيين الذين لم يعرفوهم إلا في هذه الصورة البشعة، صورة النخاسين. وفي مستهل القرن التاسع عشر، بدأت تظهر الحركات المناهضة لتجارة الرقيق من الجماعات التي عرفت باسم أنصار الإنسانية Humanitaristes، فبدأت محاولات سن قوانين تجرم هذه التجارة بغية القضاء عليها، وقد تولت بريطانيا القيام بهذه المهمة، فأصدرت في سنة 1807 قوانين تجريم تجارة العبيد في المناطق التي تسيطر عليها، وحثت الدول الأوربية الأخرى لتنتهج نفس السياسة، كما خصصت لهذا الغرض أسطولا حربيا للمرابطة أمام سواحل غرب إفريقيا، مزودا بالتعليمات اللازمة للبحث عن أية سفينة يشتبه في قيامها بنقل العبيد، بصرف النظر عن جنسية العلم الذي ترفعه، فأدى اضطلاع بريطانيا بتنفيذ قوانين تجريم تجارة العبيد إلى زيادة النفوذ البريطاني في مناطق غرب أفريقيا، خاصة في منطقة ساحل الذهب (غانا حاليا). وعموما، تعتبر ما حققته تجارة الرقيق للأوربيين من أرباح فاحشة، إحدى الأسباب الرئيسية التي مكنت الدول الصناعية – وفي مقدمتها بريطانيا – من القيام بثورتها الصناعية في القرن الثامن عشر، فقد كان الأفريقيون هم الوقود الذي أضاء أفران الصناعة البريطانية، ومن سخرية القدر أن هذه الثورة دفعت عجلة الاستعمار الأوربي للأفريقيين أكثر فصار أشد نهما من ذي قبل. المبحث الثاني – التكالب الأوربي على أفريقيا: (مرحلة القرن التاسع عشر) أولا – الفرق بين الامبريالية والاستعمار: 1.الامبريالية: الامبريالية كلمة من أصل لاتيني مشتقة من Imperium بمعنى قوة أو سلطة أو سيادة، وتعني من الناحية التاريخية إنشاء إمبراطورية Empire، أي بسط دولة ما سلطتها لتشمل شعوبا خارج حدودها الأصلية، استعملت في البداية للإشارة إلى الإمبراطورية الرومانية، وفي سنة 1832 استعملت في فرنسا للإشارة إلى التيار السياسي المؤيد لنظام نابليون الأول، ثم في سنة 1872 انتقلت إلى بريطانيا للدلالة على السياسة التوسعية لرئيس الوزراء دزرائيلي Disraeli. ويمكن القول بإيجاز أن الامبريالية تعني التوسع الرأسمالي، أي أن الرأسماليين الأوربيين أجبرهم منطق المنافسة على البحث عن فرص للسيطرة على إمدادات المواد الخام وإيجاد أسواق ومجالات مربحة للاستثمار، إنها مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي، تترجم حلول الاحتكار محل المنافسة، لذلك نجد "لينين" يعرفها بأنها "أعلى مراحل الرأسمالية" أو"الرأسمالية في مرحلة الاحتكار"، وبالتالي فهي ظاهرة اقتصادية أساسا، لا تؤدي بالضرورة إلى هيمنة سياسية مباشرة أو استعمار. 2.الاستعمار: الاستعمار يعني سيطرة منظمة لجماعة على جماعة أخرى، وهو ظاهرة تضرب جذورها في أعماق التاريخ، فقد شهد العالم القديم قيام إمبراطوريات استعمارية ضخمة كالإمبراطورية الرومانية وإمبراطورية الإسكندر المقدوني. أما الاستعمار الأوربي الذي برز في القرن التاسع عشر، فقد تطور في أساليبه ووسائله وأهدافه عن الأشكال القديمة للاستعمار حتى خيل للبعض أنه ظاهرة جديدة، إذ صار استعبادا كاملا واستغلالا شاملا تسخر فيه موارد المستعمرة وجهود سكانها لصالح المستعمرين، وتضيع به معالم الحياة الاجتماعية والثقافية، بل وحتى الإنسانية لسكان المستعمرات. وهكذا فالامبريالية تعني السياسة الاستعمارية أيا كان النمط الناتج عنها، أي أنها تعني الاستعمار في مفهومه الواسع العام. أما الاستعمار فهو ترجمة هذه السياسة إلى واقع عملي وأشكال متعددة، منها الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الاستغلالي. ثانيا - استكشاف القارة الأفريقية: قبل التدخل العسكري، قامت الدول الأوربية بإرسال عدة رحالة ومغامرين لاستكشاف القارة، مثل "الأخوان لاندر Lander Brothers" لكشف الغموض الذي كان يكتنف موقع مصب نهر النيجر، و Livingstoneالذي قام باستكشافات لبعض المناطق والبحيرات الأفريقية لصالح بريطانيا بين 1854 و1873، بينما استكشف "دو برازا De Brazza" بعض مناطق غرب أفريقيا لصالح فرنسا بين 1875 و1878، إضافة إلى René Caillé الذي انطلق في استكشافاته لصالح فرنسا من غينيا سنة 1827 في اتجاه الصحراء مرورا بتمبكت... فهذه الرحلات الاستكشافية الأجنبية وتقارير الرحلات العسكرية وكتابات الجواسيس الذين بعثتهم الإدارة الاستعمارية الإنجليزية أو الفرنسية لجمع أخبار بعض القوى القبلية أو مؤهلات بعض المناطق داخل القارة، ساعدتها فيما بعد على بناء وتوجيه سياستها الاستعمارية، ثالثا - دوافع الاستعمار الأوربي لأفريقيا: لو ألقينا نظرة على خريطة إفريقيا في مستهل القرن التاسع عشر، فإننا لا نكاد نلمس آثار أقدام الأوربيين إلا في المناطق الساحلية من القارة، واستمر هذا الوضع فترة طويلة من القرن المذكور، لكنه تغير بسرعة عجيبة بفعل الحوافز الجديدة التي دفعت الأوربيين للتوغل في أعماقها وسبر أغوارها، فالأوضاع الداخلية في الدول الأوربية دفعت بهذه الدول للخروج لميدان الاستعمار، مثلا بالنسبة لفرنسا، دفعت حالة القلق الداخلي التي كان يعاني منها الشعب الفرنسي الحكومة لتحويل نظر الشعب عن المشاغل والاهتمامات الداخلية نحو نصر خارجي. وقد ادعت بعض الدول كفرنسا وألمانيا أن الاستعمار ضروري لها لتصريف الزائد من سكانها، هنا ظهر ما يسمى بمستعمرات الاستيطان، لكن ثبت زيف هذا الادعاء من الناحية العملية، بدليل أن هذه الدول لم تجد من أبنائها من يرغب بمحض إرادته في أن يهاجر إلى تلك المستعمرات، فعمدت الحكومات إلى إرسال المجرمين المحكوم عليهم في قضايا جنائية، وفي هذا الإطار كتب أحد الكتاب الفرنسيين عن الجزائر متهكما "إنها قطر لا يتوفر فيه شيء إلا الهواء، وحتى هذا أصبح فاسدا". أهمية الدافــع الاقتصادي: أوجدت الثورة الصناعية في أوربا حوافز جديدة دفعت عجلة الاستعمار، ذلك أن الانقلاب الصناعي أدى لفائض كبير في الإنتاج يستدعي البحث عن أسواق لتصريفه، بالإضافة إلى أنه خلق الحاجة الماسة باستمرار للمواد الخام، وقد وجدت الدول الصناعية – وفي مقدمتها إنجلترا ثم ألمانيا وفرنسا – مبتغاها في القارة الإفريقية، حيث وفرة المواد الخام الزراعية والمعدنية، والسوق الواسعة لتصريف فائض الإنتاج، كما كن اكتشاف المعادن والرغبة الجامحة في استغلالها، من الأسباب الرئيسية التي شجعت الدول الأوربية على التغلب على مخاطر التوغل في داخل القارة لاستعمار المناطق الغنية بالمعادن. وقد ظهرت هذه السياسة الاستغلالية بوضوح في العشرين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر، حين انتقلت مقاليد الأمور في الدول الصناعية إلى التجار والرأسماليين، وأصبحت الأغراض التجارية والصناعية والمالية تتحكم في سياسات هذه الدول، فبرزت ظاهرة تأسيس الشركات التجارية التي وجدت في إفريقيا مصدرا للمواد الخام والعمال ذوي الأجور المنحطة، ومستودعا لتصريف الفائض من المصنوعات غير الجيدة التي تباع بأثمان باهظة... ثم لم تلبث هذه الشركات أن دفعت بحكوماتها لدخول ميدان الاستعمار. فالقاعدة القائلة بان التجارة تأتي في أعقاب الاستعمار، قد انعكست فيما يخص أفريقيا، وهذا تحول هام في تاريخ الاستعمار، إذ أصبحت الحكومات أداة تسخرها الشركات من أجل تحقيق مصالحها وحمايتها في المستعمرات، فالاستعمار البلجيكي للكونغو مثلا، دشنته الشركة التي أسسها الملك "II Léopold" لاستغلال الكونغو، مع أن هذه الشركة في الواقع بدأت على شكل جمعية لدراسة حوض الكونغو الأعلى Comité d’Etude du Haut Congo، ثم تطورت إلى عمل استعماري استغلالي محض. هكذا لعبت الشركات التجارية دورا حاسما في استعمار القارة، وقد قال رئيس الحكومة الفرنسية Jules Ferry عام 1895 بأن "شعوب أوربا تطمع في الاستيلاء على مستعمرات لأغراض ثلاثة هي: أ.الطمع في الحصول على خامات المستعمرات - ب.الاستحواذ على أسواق ليصرفوا كل ما تنتجه بلادهم من بضائع - ج.اتخاذها ميادين تستثمر فيها رؤوس الأموال الفائضة". لكن مع ذلك، نجد بعض الكتاب الفرنسيين يدعون أن فرنسا لها رسالة نشر المدنية في الجهات غير المتحضرة من القارة الإفريقية، فقد حاول الأوربيون تغطية اهتماماتهم الاقتصادية بالحديث عن تفوقهم العنصري والأخلاقي، وراحوا يرسمون خريطة لأفريقيا وكأنها تفتقر لأية ثقافة، يشتغل أبناؤها بتجارة الرقيق، يأكل بعضهم بعضا، ويقدمون الروح الإنسانية قربانا لمعبوداتهم. رابعا – انعقاد مؤتمر برلين: لعبت بلجيكا دورا خطيرا في تاريخ الاستعمار الأوربي لأفريقيا، فقد كانت سياسة الملك "ليوبولد الثاني Léopold II" (1865 – 1909) في ما يتعلق بالكونغو السبب المباشر لأن تتخذ كل دولة من الدول الأوربية موقفا حازما وحاسما في ما يختص بأطماعها في إفريقيا، فتحركت كل منها لتأخذ نصيبها من الغنيمة. ويمكن النظر إلى عملية الزحف والتكالب على أفريقيا من عدة زوايا، فمن ناحية تسلسل الأحداث التاريخية، يمكن القول أن فرنسا هي التي بدأت تلك العملية، كرد فعل على هزيمتها المذلة أمام ألمانيا عام 1870، أما إذا نظرنا إلى هذه العملية من الناحية الدبلوماسية، فسوف نجد أن بريطانيا هي التي قلبت الأوضاع رأسا على عقب باحتلالها مصر التي كانت حتى وقت قريب محمية دولية، الأمر الذي يعد انتهاكا للاتفاق القائم بين القوى الأوربية، مما دفع هذه الأخيرة للتدخل من جهتها في الشؤون الأفريقية، لدرجة أن "بسمارك Otto von Bismarck" اضطر لتغيير مواقفه المناهضة للاستعمار، فاشترك في هذا الصخب وأعلن الحماية الألمانية على المناطق الأفريقية التي كانت تعمل فيها البعثات التبشيرية الألمانية، كتوغو والكامرون. لقد أصبح واضحا أن الخلاف بين الدول الاستعمارية لا يمكن أن يحل إلا عن طريق مؤتمر دولي، فتم ذلك فعلا ببرلين في الفترة من 15 نوفمبر 1884 إلى 26 فبراير 1885 بحضور مندوبي 14 دولة، كلها ادعت أن الهدف من هذا الاجتماع هدف إنساني يتعلق بتعمير القارة الأفريقية ونشر الحضارة فيها، ومحاربة تجارة الرقيق، وكفالة حرية الملاحة في الأنهار الأفريقية، لكن الواقع أنها اجتمعت بهدف وضع مبادئ مشتركة لتنظيم عملية النهب الاستعماري حتى لا يقع تصادم بينها. هذا المؤتمر الذي يعتبر من أضخم المؤتمرات الدولية التي تعرضت لمشاكل متصلة بالاستعمار انتهى بالاتفاق على ميثاق من 38 مادة تضمن بالخصوص: تقرير حرية التجارة في حوض الكونغو – الالتزام بحرية الملاحة في نهر الكونغو – الالتزام بحرية الملاحة في نهر النيجر – العمل على إلغاء تجارة الرقيق ومطاردتها – عدم فرض أية دولة حمايتها على منطقة ساحلية في إفريقيا دون إعلان ذلك للدول الموقعة على الاتفاق – عدم إعلان أية دولة الحماية على منطقة من القارة الإفريقية دون أن تكون هذه الحماية مؤيدة باحتلال فعلي للمنطقة، على أن تقوم هذه الدولة بالعمل على تقدم سكان هذه المنطقة وتقيم فيها حكومة عادلة. هكذا إذن ترتب على كشف القناع عن أطماع الملك ليوبولد في الكونغو، انتشار شرارة الاستعمار الأوربي في إفريقيا، حتى أصبح التعبير الشائع بين الكتاب في هذه الفترة هو التطاحن الاستعماري على القارة الإفريقية، ورغم أن مؤتمر برلين حاول أن ينظم العلاقات بين الدول الاستعمارية على أسس قانونية محددة، فإن كل ما نجح فيه هو أن يدفع عجلة التكالب الاستعماري على القارة الإفريقية، فسارعت فرنسا بالاستيلاء على ساحل العاج، بينما استولت بريطانيا على نيجيريا وبوتسوانا، وسيطرت على مناطق جنوب أفريقيا بفضل جهود Cecil Rhodes الذي أسس سنة 1889 "شركة جنوب إفريقيا البريطانية" بهدف استغلال مناجم الذهب، وكانت جهود هذه الشركة هي الأساس الذي قامت عليه سلطة بريطانيا في جنوب إفريقيا وروديسيا. وفي هذا السياق، يمكن القول أن التكالب على أفريقيا إنما كان نتيجة خوف سياسي واقتصادي ساد الدول الأوربية، فكانت كل دولة تخاف أن تحتل دولة أوربية أخرى مساحة أكبر في أفريقيا، ومن ثم ينقلب ميزان القوى في أوربا. أما مقاومة الأفريقيين فكانت غالبا ضعيفة، إذ لم تكن هناك جيوش نظامية، وحتى سلاح هذه الجيوش كان أضعف من أن يصمد أمام الأوربيين، ولا نبالغ إن قلنا أن ثلثي غربي أفريقيا قد خضع للأوربيين عن طريق المعاهدات لا عن طريق الغزو، حيث تقبل غالبية الأفريقيين الاحتلال الأوربي على اعتبار أنه سيضع حدا للحروب بينهم، أو يمنع القبائل من احتلال أراضي قبائل أخرى مجاورة، فأفريقيا كانت حتى مؤتمر برلين تجمع عددا من التنظيمات الاجتماعية والسياسية التي ليس لها هدف مشترك، ومن ثم كان من السهل على الدخيل الأوربي أن يمارس اللعبة السياسية فرق تسد، وبهذا الأسلوب أصبح بعض الأفارقة حلفاء لأوربا دون قصد، وقد كانت الدول الاستعمارية الأوربية تحاول تسويغ احتلالها لأفريقيا على أساس أنها تساهم في تمدين شعوب بربرية تحكمها الفوضى، أو أنها حسب ما يقوله المبشرون: تحاول أن تضيء شعلة النور في قلب الظلام. المبحث الثالث: الاستعماران الفرنسي والبريطاني نموذجا كانت هناك سبع دول استعمرت أفريقيا، هي: بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال وبلجيكا وألمانيا، كل دولة منها اتبعت طريقا خاصا أو عدة طرق في فرض شخصيتها على شعوب الأراضي التي حكمتها، وسنقتصر هنا على السياسة الاستعمارية لكل من فرنسا وبريطانيا. أولا – الاستعمار الفرنسي: استطاعت فرنسا في تاريخها الاستعماري الحديث أن تكون إمبراطوريتين، الأولى بدأت في القرن السابع عشر وتلاشت بعد هزيمة فرنسا إثر حروب نابليون (1814)، شملت كندا (فرنسا الجديدة)، جزر الكاريبي، الهند وجزر المحيط الهندي (موريشيوس، بوربون)، بينما تبدأ الثانية باحتلال الجزائر (1830). فرغم أن الفرنسيين كانوا قد اتخذوا لهم محطات في السنغال (سان لوي 1641) قبل أن تجتاح الحمى الاستعمارية الدول الأوربية، فإن توسعهم في الداخل لم يبدأ إلا في القرن التاسع عشر حين شعرت بعد الحروب النابليونية أنها تكاد تفقد هيبتها الدولية، لذلك لما تولى نابليون الثالث، كانت تراوده نفس أفكار عمه الأكبر الاستعمارية، كذلك فإنه بعد هزيمتها في الحرب الألمانية الفرنسية (1870)، اتجهت إلى إفريقيا لتعويض خسارتها في الألزاس واللورين Alsace, Lorraine، ثم عندما أطلق مؤتمر برلين أيدي الدول الأوربية الاستعمارية في إعلان حمايتها على أي جزء من سواحل إفريقيا شرط أن تؤيد هذه الحماية باحتلال فعلي لها، أسرعت فرنسا، كغيرها من الدول الأوربية، لتدعيم نفوذها في الأجزاء التي كانت تحتلها، فتحولت السنغال إلى مستعمرة حقيقية، ومنها تقدمت القوات الفرنسية إلى داخل البلاد في أعالي النيجر. السياسة الاستعمارية الفرنسية: رسمت فرنسا سياستها الاستعمارية على أساس الحكم المباشر، حيث قضت على جميع الزعامات القبلية والنظم التي كانت موجودة في البلاد الأفريقية التي خضعت لها، والعجيب أن هذه السياسة بنيت على بعض المبادئ البراقة في مظهرها التي أعلنتها الثورة الفرنسية، على رأسها أن جميع سكان المستعمرات يجب أن يكونوا مواطنين فرنسيين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وعلى هذا الأساس قامت نظرية الاستيعاب Assimilation، بمعنى صبغ المستعمرات بالصبغة الفرنسية عن طريق فرض ثقافة الفرنسيين ولغتهم ونظمهم الاجتماعية والسياسية على الأفريقيين، ويتطلب هذا بالطبع قطع كل صلة للأفريقي بتاريخه القومي وحضارته الأفريقية بمختلف مظاهرها ومقوماتها، وربطه تاريخيا وسياسيا واجتماعيا بماما فرنسا. لقد عمد الفرنسيون إلى تطبيق سياسة الاستيعاب هذه، أو ما يطلق عليه "الاستعمار الثقافي" في معظم البلدان التي خضعت لسيطرتهم، وبالرغم من أن ظاهرها المساواة وعدم التفرقة، فقد ترتب عليها ظهور تفرقة من نوع آخر غير التفرقة العنصرية، إذ ميز الفرنسيون بين الإفريقيين الذين قبلوا الخضوع للقانون المدني والجنائي ولقانون الأحوال الشخصية الفرنسي، وبين الذين رفضوا الخضوع لهذه القوانين، وترتب عن ذلك وضع مجموعة من القوانين الخاصة بهم عرفت بقوانين الأنديجينا Indigénat. غير أن محاولة الفرنسيين لفرض سياسة الفرنسة على جميع الأفريقيين لم تنجح، فبدأ الساسة والكتاب الفرنسيون منذ النصف الثاني من القرن يوجهون النقد لهذه السياسة، لكن مع ذلك لم يبدأ الاستعمار الفرنسي يهتم بدراسة عادات وتقاليد ولغات الشعوب الأفريقية إلا بعدما اتضح فشل سياسة الامتصاص أو الاستيعاب، فأنشأ المعهد الفرنسي لأفريقيا السوداء في 1938. وقد كانت كل مستعمرة فرنسية خاضعة لحاكم فرنسي يتلقى أوامره من وزير المستعمرات في باريس، وكان البرلمان الفرنسي هو الذي يصدر جميع التشريعات الخاصة بالمستعمرات، بينما يتكفل الحكام بتنفيذها. ومن جهة أخرى، لجأت فرنسا لتجميع مستعمراتها في وحدات فيدرالية قصد تسهيل إدارتها، فكونت أفريقيا الغربية الفرنسية Afrique Occidentale Française (A.O.F)، تشمل سبع أقسام إدارية هي: السنغال، موريطانيا، غينيا، السودان الفرنسي، داهومي، النيجر، ساحل العاج)، لكل مستعمرة منها حاكم مسؤول أمام الحاكم العام في "دكار"، وهو بدوره مسؤول أمام وزير المستعمرات. كما كونت أفريقيا الاستوائية الفرنسية Afrique Equatoriale Française (A.E.F)، تشمل أربع أقسام إدارية هي: الكونغو، الغابون، إفريقيا الوسطى والتشاد) وتشرف عليها حكومة برازافيل. أما الرئيس فكان يتم اختياره لا على أساس حقه التقليدي أو الشرعي في الزعامة أو الحكم، بل كان ذلك يتم على قدر ما يظهره من ولاء لفرنسا. وعموما، اتبعت فرنسا في مستعمراتها سياسة استغلالية عنيفة، فكانت تطرد المزارعين من الأراضي الجيدة ليقوم بزراعتها المستوطنون أو الشركات الاستعمارية، حتى أصبح الفلاحون الأفريقيون لا ينتجون من المحاصيل الزراعية ما يكفي لسد حاجتهم، كما صار وضع العمال الذين كانوا يشتغلون، سواء في المناجم أو في الشركات الرأسمالية الكبرى، يدعو للرثاء، فبالإضافة إلى العمل الإجباري، فإن ضآلة الأجور وصعوبة ظروف العمل هزت أقلام الكتاب الفرنسيين أنفسهم. ومن المشكلات التي برزت بوضوح مع الاستعمار الفرنسي للأقطار الأفريقية، مشكلة السكن الصحي الملائم، فقد أدى الاستعمار إلى زيادة الكثافة السكانية في بعض المناطق التي يزدحم فيها العمال. ثانيا – الاستعمار الإنجليزي: يعتبر القرن التاسع عشر قرن بريطانيا بامتياز، فبعدما كانت عاجزة عن الخروج إلى البحار في أوائل عصر الكشوف الجغرافية، حيث كانت السيادة للبرتغال وإسبانيا، فتحت هزيمة الأرمادا Armada الإسبانية في عام 1588 الباب أمام بريطانيا لتتطلع إلى العالم الخارجي، لكن كان عليها أن تواجه في القرن السابع عشر قوة أخرى هي قوة كل من هولندا وإسبانيا، وفي القرن الثامن عشر لم يتبق أمامها من منافس إلا فرنسا، لكنها استطاعت التغلب عليها بقوتها البحرية الضخمة وموقعها الجزري المتميز، مما أتاح لها الفرصة لتكون إمبراطوريتها التي وصفت في وقت من الأوقات بأنها لا تغيب عنها الشمس. وحتى الثمانينات من القرن الثامن عشر، كانت إنجلترا كغيرها من الدول الأوربية تكتفي بالنقط والحصون الساحلية، إذ لم يكن لها دافع يدفعها للمخاطرة بالتوغل في الداخل، فقد كان التجار الأفريقيون يتكفلون بمهمة إحضار السلع للنقط والحصون الساحلية حيث تتم عملية التبادل. وحين بدأ الإنجليز وغيرهم من الأوربيين حملاتهم للتوغل في القارة، كانت هناك دوافع عدة من وراء هذا العمل، قد يكون الدافع الإنساني المتمثل في وضع حد لتجارة الرقيق أحدها، لكنها كثيرا ما استندت إلى هذه الذريعة لتتدخل في شؤون الشعوب ولتنفذ من هذا الباب لتحقيق مآربها الاستعمارية. لكن مع ذلك، ظلت بريطانيا حتى منتصف القرن التاسع عشر عاجزة عن إنشاء إمبراطورية أفريقية مماثلة لإمبراطوريتها في الهند بسبب الأمراض، خاصة الملاريا، ولكن في سنة 1847، اكتشف أحد الأطباء العاملين بالأسطول البريطاني أن تناول جرعة يومية من أحد المشروبات يحمي من الإصابة بهذا المرض، فلم يعد بعدها صدى لنشيد "كثيرون يذهبون لخليج بنين، وقليلون فقط يعودون سالمين"، وكانت أولى النتائج لذلك، قيام بريطانيا بالاستيلاء على Lagos سنة 1861. وقد ميز البريطانيون بين مستعمرة التاج Crown Colony التي تمكنوا من الاستحواذ عليها بالغزو أو الشراء أو الاحتلال، والمحمية Protectorate، وهي التي بسط عليها البريطانيون حمايتهم بموجب اتفاقيات مع الرؤساء والحكام المحليين، أو نتيجة إجراء منفرد من ملك بريطانيا. السياسة الاستعمارية البريطانية: كانت سياسة البريطانيين الاستعمارية تقوم على الحكم غير المباشر، أي عن طريق التنظيمات الشعبية التي أطلقوا عليها إسم السلطات الوطنية، والتي كان الغرض منها أن تتعامل مع الحالات التي لا يستطيع الأوربي أن يعالجها وفق نظمه، تلك النظم التي ادعت القوى الاستعمارية أنها تريد إدخالها إلى أفريقيا كوسيلة لنقلها من حالة التأخر والبداوة إلى التقدم والحضارة، لذلك نجد في هذا النظام نوعا من الاستقلال وميلا إلى تعزيز الدور السياسي للرئيس المحلي أو العمدة، ولكن في حدود ضيقة، فالسلطة النهائية في المستعمرة كانت في يد الحاكم العام البريطاني (فرض الضرائب، التشريع..). ويرى أنصار هذا النظام أنه يحقق عدة فوائد منها: - عدم التضارب بين السياسة البريطانية والحياة الاجتماعية التقليدية التي اعتادها الأفريقيون. - الاستفادة من خبرة الزعماء الوطنيين ودرايتهم بأحوال السكان والبلاد. - تقليل نفقات ومتاعب الإدارة الحكومية وتقليل عدد الموظفين البريطانيين. - تخفي الإدارة البريطانية وراء الزعماء والأمراء المحليين. وقد اتسمت السياسة البريطانية إلى حد كبير بالمرونة، ولذا كان من المظاهر المميزة لها إصدار الدساتير المتتالية، وإقامة المجالس التشريعية والتنفيذية، والعناية بالزراعة والصناعة والتعليم. هناك أيضا نقطة مهمة تخص سياسة الدول الاستعمارية عموما، وهي أنها لجأت بغية تحقيق أغراضها الاستغلالية من المستعمرات إلى سياسة مرسومة تقوم على: جعل المستعمرات بلادا غير صناعية – الحيلولة دون اكتساب أبناء المستعمرات للمعرفة والخبرة الفنية – الإبقاء على أسعار المواد الخام في الحد الأدنى، الاحتفاظ بمستوى أجور الأيدي العاملة منخفضا – منع المستعمرات من الاتجار مع الدول الأخرى، إلا عن طريق الدولة الأم. وبالتالي فرغم الثراء الفاحش الذي كانت تتحصل عليه الدول الاستعمارية الأوربية، حرصت على استمرار الجهل والفقر سائدين في أساليب الحياة، لضمان بقاء عيونهم مغمضة عن عمليات السلب والنهب المنظمة التي تقوم بها. المبحث الرابع – المخلفات السلبية للفترة الاستعمارية بعدما نجحت الدول الأفريقية في التخلص من الاستعمار، وجدت نفسها أمام مشكلات متعددة نتيجة تخلفها عن ركب الحضارة والتقدم، في مقدمتها: أولا - مشكلة الحدود بين الدول الأفريقية: الحدود هي الخطوط التي تحدد كيان الدولة، تحتاج إلى معرفة بطبوغرافية الأرض، وإدراك للاختلافات وأوجه الشبه في الجنس والدين واللغة. وبخصوص أفريقيا، نلاحظ ظاهرة غريبة هي أن حدود الدول في كثير من الأحيان عبارة عن خطوط مستقيمة تتماشى مع خطوط العرض والطول (30 بالمائة من حدود القارة بهذا الشكل)، وترجع هذه الظاهرة في الأصل للتنافس الاستعماري بين الدول الأوربية على القارة، حيث تم في مؤتمر برلين وضع أسس تقسيم أفريقيا بين القوى الاستعمارية دون مراعاة لأي تكافؤ اقتصادي أو لغوي أو حضاري، ولا تزال لعنة هذا التقسيم العشوائي تلاحق الدول الأفريقية الجديدة. وقد ترتب عن تخطيط الحدود بهذه الطريقة عدة مشكلات منها على سبيل المثال: تعدد الجيران في كثير من الحالات، الذي يقود إلى الاحتكاك السياسي – توزيع السكان الذين ينتمون على سلالة واحدة بين أكثر من دولة (شعب واحد تحت حكم دول مختلفة، فمثلا الصوماليون مقسمون بين كينيا وإثيوبيا والصومال الفرنسي) – وجود دول تمتلك مزايا اقتصادية وخدمات صحية وتعليمية أكثر من غيرها... وبذلك يمكن القول أن الدول الاستعمارية هي المسئولة أولا وأخيرا عن خلق الدول الأفريقية الجديدة بحدودها السياسية الحالية دون أن تسعى لتأكيد مشاعر الولاء والانتماء في نفوس سكانها. ثانيا - مشكلة التخلف الاقتصادي: تعد القارة الإفريقية من أغنى قارات العالم من حيث مواردها الاقتصادية، بحيث لا يمكن القول أن سبب تخلفها الاقتصادي يرجع لقلة مواردها (الألماس، الذهب، النحاس، الفوسفات، الكوبالت، المنغنيز، الماء، الشلالات، الغابات، الثورة الحيوانية والسمكية..)، الأمر الذي يجعل الدول الاستعمارية وسياستها في قفص الاتهام، حيث قامت بتوجيه الزراعة لإنتاج محصولات معينة تحتاجها مصانعها، وعرقلت النهضة الصناعية في المستعمرات الأفريقية لتضمن حصولها على المواد الخام والأسواق لتصريف إنتاجها، وقامت أيضا بالتحكم في علاقات المستعمرات الخارجية، كما ولم يكن هدف الاستعمار من شق الطرق ومد السكك الحديدية تطوير التجارة الداخلية، وإنما فقط تسهيل عملية نقل أو ترحيل المحاصيل التي تحتاجها أوربا إلى الموانئ. وبذلك لم يشجع هذا الاستغلال على تكوين رأس المال الوطني، مما يجعل الدول الإفريقية اليوم تشكو من آثار التبعية الاقتصادية، وبالتالي يدفعها للالتجاء إلى طلب المعونات الأجنبية، وقد أدى التنافس بين الدول الأفريقية على طلب المعونات والقروض الأجنبية إلى منح هذه الدول وشركاتها الكثير من الامتيازات. ثالثا - مشكلة التخلف الاجتماعي والثقافي للأفريقيين: لم تجد معظم الحكومات الاستعمارية ما يدعو للوقوف بصرامة في وجه ما كان سائدا في المجتمعات الأفريقية من عادات، كما أنه في ظل ظروف الاستعمار، شعرت المجتمعات الأفريقية أن سلامتها مرتبطة بتمسكها بتقاليدها وعاداتها الموروثة، ومنها: - عادة عبادة أرواح السلف عبر تقديم القرابين لها. - نظام الطوطمية، عبر اتخاذ كل عشيرة طوطما معينا كشعار للعشيرة، قد يكون حيوانا أو نباتا أو صخرا. - عادة حفل جلب المطر وتشويه الأسنان، وعمل الندوب في الوجه. ومن الخرافات مثلا أن بعض النساء يشربن من الماء الذي يعلق به الطمي لأنه يزيد من خصوبتهن وله أثر على إنجاب الأطفال، كما ينتشر السحر والشعوذة في علاج بعض الأمراض، ويمكن أن نضيف أيضا أن اعتقاد الأفريقيين في المكتوب والمحتم، والاعتقاد بأن مستقبل الإنسان يخضع للحتمية، كلها أمور تقف حائلا دون بذلهم الجهد المناسب واللازم لتقدمهم. ورغم أن الاستعمار ادعى أن الرجل الأبيض جاء لأفريقيا لنشر العلم والحضارة بين ربوعها، فإن إحصاءات اليونسكو تشير إلى أن نسبة الأمية بها جد مرتفعة، ولعل ذلك يعزى لكون التعليم الاستعماري شمل عددا محدودا من الأفارقة، واقتصر على المستويات الأولية، كما استهدف التعليم ربط الأجيال الناشئة بقيم تشيد بقوة المستعمر وتسعى إلى تعميق الولاء لمنطقه وأساليبه، مقابل التقليل من قيمة الحضارات والثقافات الوطنية. ويمكن القول أن توفير التعليم للأفريقيين لم يكن اختيارا يمكن تجنبه، بل كان ضرورة لاستمرار الاستعمار في تأدية وظيفته، وقد كانت مدارس الفرنسيين أقل عددا من مدارس البريطانيين، لأنهم كانوا يخشون حدوث تضخم في طبقة الصفوة، أما الحكومة البريطانية فلم تنفق أموالا على التعليم من ميزانيتها، لكنها خولت البعثات التبشيرية سلطة كبيرة في فتح المدارس. من جهة أخرى، أدى تعدد اللغات المستعملة في البلد الواحد (200 ألف في مجموع القارة)، وإهمال المستعمر اللغة القومية وعدم استخدامها، لانتشار لغة هذا الأخير على حسابها. رابعا - مشكلة التمييز والتفرقة العنصرية: تعد التفرقة العصرية من أبرز الآثار التي تركها الاستعمار الأوربي في القارة الأفريقية، خاصة في جنوبها (زمبابوي "روديسيا" وجنوب إفريقيا) حيث توجد أكبر نسبة من المستوطنين البيض، الذين مارسوا في ظل الحكومات التي وضعت أيديها على السلطة بعد الاستعمار أبشع ألوان التمييز على أساس اللون والعرق. وكتخريج لما سبق، ما من قارة من قارات العالم حاقت بها وبتاريخها الأكاذيب مثل أفريقيا، تلك الأكاذيب التي حاكتها الدول الاستعمارية الأوربية، التي تكالبت كالوحوش الضارة على جسم القارة وأجسام أهلها، فتمزقت أوصالها بين أنياب الدول البيضاء التي كانت تدعي دائما أنها جاءت إليها لتحضر هؤلاء الهمج البدائيين، وتخرجهم من الظلمات إلى النور. ولعل أكبر أثر سيء تركه الحكم الاستعماري إنما هو إدخال الشك في نفوس الأفريقيين وتفوق أوربا على أفريقيا، وحتى الآن نجد الكثير من الشعوب المستقلة تفضل التعامل مع المستعمر السابق. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن أفريقيا لم تكن تلك اللوحة البراقة التي تشكلت وفق إرادة المستعمر ورغباته، فاختلاف أنماط الحكم الاستعماري في أفريقيا إنما هو أيضا نتيجة لاختلاف المجتمعات الأفريقية ودرجة تقبلها لسيادة وأساليب المستعمر.
المراجع المعتمدة - أوربا والتخلف في أفريقيا، د. والتر رودني، ترجمة د. أحمد القصير، سلسلة عالم المعرفة، عدد 132. - أطلس التاريخ الأفريقي، كولين ماكيفيدي، ترجمة: مختار السويفي، مصر 1987. - تاريخ كشف إفريقيا واستعمارها، د. شوقي الجمل، الطبعة الثانية، مكتبة الأنجلو المصرية 1980. - تاريخ أفريقيا السوداء – القسم الثاني، جوزيف كي زيربو، ترجمة يوسف شلب الشام، دمشق 1994. - أفريقيا: فصول من الماضي والحاضر، أحمد طاهر، القاهرة 1975.
#خالد_الكزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعدام المساء
المزيد.....
-
حل لغز المجالات المغناطيسية الغريبة لنبتون وأورانوس
-
تأثير العناية بالمظهر على السلوك الاجتماعي
-
العلماء الروس يطورون مسيرة لمراقبة حرائق الغابات
-
دراسة تكشف عن أسباب نفسية لآلام الدورة الشهرية الشديدة
-
صفقة -أوبك+- يمكن أن تنهار بسبب كازاخستان
-
الجبهة الأوكرانية تنهار: إمّا أن يأمر زيلينسكي بالانسحاب أو
...
-
ريابكوف: روسيا ستجعل الأمريكيين -يرتعشون- من نتائج تورطهم في
...
-
إعلام عبري يتحدث عن -بنود سرية تتعلق بإيران- في اتفاق وقف ال
...
-
بوليانسكي: روسيا قد تعيق عمل البرنامج الأمريكي في مجلس الأمن
...
-
ترامب يعلن عن اتفاق مع رئيسة المكسيك بشأن الهجرة وسط تهديدات
...
المزيد.....
-
علاقة السيد - التابع مع الغرب
/ مازن كم الماز
-
روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي
/ فاروق الصيّاحي
-
بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح
/ محمد علي مقلد
-
حرب التحرير في البانيا
/ محمد شيخو
-
التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء
/ خالد الكزولي
-
عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر
/ أحمد القصير
-
الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي
/ معز الراجحي
-
البلشفية وقضايا الثورة الصينية
/ ستالين
المزيد.....
|