أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة عرابي - ذكريات المستقبل وتفكيك شبكات الوجود















المزيد.....

ذكريات المستقبل وتفكيك شبكات الوجود


أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)


الحوار المتمدن-العدد: 5186 - 2016 / 6 / 7 - 18:17
المحور: الادب والفن
    



يُقدِّم لنا الروائي والشاعر"صلاح والي"في روايته الحادية عشرة"ذكريات المستقبل"،الصادرة عن"المجلس الأعلى للثقافة"،بعد"كائنات هشة لليل،وفتنة الأسر،والجميل الأخير،والعم حفني،وسواها من أعمال متميزة،يُقدِّم لنا نصًّا مجدولًا بأفق شعري محكومٍ بحقيقته الإنسانية وحدوسه وأحلامه العصيَّة على الاختزال والتبسيط،داعيًا إلى أن نكون أكثر وعيًا بتشكك،وأشد إيمانًا بنسبية الحكاية والعالم؛فالواقع لم يعدْ يصدُر عن ثوابت وبنيات خالدة ونهائية،بل انخرط في إستراتيجية تقويضية جديدة أسهمت في تفكيك جغرافيات الوجود،وشبكات المعنى؛الأمر الذي حدا بالراوي إلى أن يقول لصديقه ص56:"ماذا أفعل وأنا لا أفهم رؤياي وإن كانت تتحقق بعد مُضي السنين،والحقيقة أغرب من أي خيال،فما بالك بالكذب؟أين مكانه،والحقيقة موضع شك؟".رافضًا كل معيارية قَبْلية،أو مرجعية متعالية،مُستمدًّا كينونته من الصيرورة،ومن إرادة التحرُّرِ من أي إكراه موضوعي؛سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا أو ثقافيًّا،وصولًا إلى رؤية مضادة لا تأخذه بعيدًا عن شرطه الإنساني.لذلك لم يَنِ الراوي يقول لصديقه أيضًا ص 57:"أنا جالس أمامك وصابر عليك،لا حول لي ولا قوة ولا طول،والمطلوب أن أُصدِّق وأن أندهش..لا لن أُصدِّق.هل أنا مِسمار في حائط العالم؛لتُعلِّق عليه ذكرياتك؟".وهنا نكتشف مغزى ارتباطه بالحكاية التي تصنع له تاريخًا وذاكرة مختلفيْن،بمنأى عن التاريخ الرسمي الذي يكتبه المنتصر أو السلطة،عبر تجديد المساءلة،وتنويع المقاربات،والتخلي عن تقديس الوقائع والشخوص التاريخيين؛سعيًا إلى تعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعًا.لذا اختارت رواية"ذكريات المستقبل"زمن المقاومة الذي تتداخل فيه عناصر الموت بعناصر الحياة والتحدي؛ومن ثَمَّ إعادة النظر في تاريخ المأساة العربية العامة وهزائمها المفتوحة على مستقبل غائم غامض،طامحة إلى طرح سؤال الواقع المعيش ومعضلاته المزمنة على مختلِف الأصعدة.لهذا قال الراوي بحسم وجلاء لصديقه ص 57:"كأنني غير موجود وأنت تحكي لنفسك،هذا عيب والله؛وبذلك تجعلني رهين المحبسيْن:السجن وكذبك،وحكاياتك التي لو صمتُّ لطالبتك باستكمالها؛لسبب بسيط أنني أُحسُّ بأنني عشتُ زمنًا مثل هذا،وكأن أحدًا يُذكِّرني به".فما الذي يعنيه"صلاح والي"ب"ذكريات المستقبل"؟
هل يعني أنها ضربٌ من التشوفات التي أتت في إهاب شحنة بلاغية تقف على التخوم بين الرومانسية والحداثة المعاصرة،مُولِّدة جماليات القطيعة مع الماضي،والإبداع الفردي الموسوم بظاهرة الطليعية التي تتجاوز كل الأشكال التقليدية؟
أم أن الدلالة- كما يقول اللسانيون- ليست قائمة في حدِّ ذاتها،بل هي كامنة في الفوارق التي تنشأ من العلائق بين الكلمات في الجملة،وبين الأحرف في الكلمة،وبين الجُمل في النصّ؟
إن"ذكريات المستقبل"مُضمرة في سياق رؤية فلسفية تنطوي على موقف من العالم وتصوُّر له،يُشرعانه على ديمومة من التغيُّرات والاحتمالات والمآلات التي لا حَدَّ لها؛إيمانًا بأن الإنسان كائن تمثُّلات،وأن المتخيَّل جزء من الواقع الإنساني.ومن ثَمَّ؛لم يعد مفهومنا عن الإنسان هو ذلك المفهوم الكلاسيكي المُصْطَلح عليه مُذْ ديكارت وعصر النهضة،بل أضحى مع تطوُّر العلوم الإنسانية وبخاصة التحليل النفسي واللسانيات والأنثروبولوجيا،أضحى كائنًا تستبد به الرغبة،ويُراوده الخيال،اللذان يُخلخلان الواقع ويتخطيانه،باتجاه المستقبل.
لذلك أهدى"صلاح والي""ذكريات المستقبل"إلى"ألبرت أينشتين..الذي كتب المستقبل دون رؤية"..لأن"أينشتين"باكتشافه الكبير ل"نظرية النسبية"عام 1905،و"نظرية النسبية العامة"عام 1915؛غيَّر نظرتنا تمامًا صوب العالم والمادة،ومفهومي الزمان والمكان؛فلم نعدْ نؤمن بوجود زمان مطلق أو مكان مطلق،كما كان يعتقد إسحق نيوتن وإيمانويل كانط،وإنما أمسيْنا نفكِّر من خلال مفهومي المكان النسبي والزمان النسبي.وبذلك تبلوَّر مفهوم"القطيعة الإبستمولوجية"في ساحة العلم الفيزيائي أولًا،قبل أن ينتقل إلى عالمي الفلسفة والفكر بشكل عام.لكن"أينشتين لم يستطعْ أن يُوائم بين ممكنات نظريته الإنسانية الرحبة التي وسعت الزمان والمكان،وبين خصوصيته اليهودية التي دعته إلى دعم قيام وطن قومي لليهود في فلسطين،وعمله مستشارًا لشئون المتفجرات لسلاح البحرية الأمريكية؛مما أوقعه في مغالطات جمَّة دفعته إلى التشديد على حيوية الإرث اليهودي ومفاعيله الثاوية في جذورقيم أوربا الثقافية والحضارية.من هنا؛حرص"صلاح والي"على تذكيرنا بأنه إذا كان يُشاطر نظرية النسبية تأكيدها على إمكان السفر إلى المستقبل،إلَّا أنه لا يتماس مع صاحبها فيما ذهب إليه من فانتازيا سياسية تُسوِّغ لإسرائيل مشروعها الاستعماري باحتلال أرض فلسطين العربية،واغتصابها من أهلها الشرعيين.فالمستقبل معقود،لا ريب،لمن رامَ الحياة في بُعدها الإنساني العميق،الذي يُصوِّب علاقة الذات بالعالم،من خلال تثمينه مغزى التمرد على مواضعاته الجائرة القائمة على التبعية،والتنميط الثقافي والسياسي العولمي في مواجهة التعدديات الثقافية والقومية.لهذا أردف صلاح والي إهداءه لأينشتين،بفقرة ل"ساجرويد"تُمجِّد عبقرية ذلك العقل البشري الذي"حلُمَ بإيجاد وسائل لتوصيل أعمق أفكاره،إلى أي شخص آخر مهما تباعدت بينهما المسافات مكانًا وزمانًا"..في إشارة إلى العلم التقني ودوره في التواصل الإنساني،وتغيير فكرتنا عن أنفسنا وعن الآخرين،واضطلاعه بإدارة حوار ديمقراطي مسئول،بين أنداد أكْفاء؛بما يُسهم في تقوية وشائجنا بالزمن،مُعيدًا هيكلة الهُويات،وقدرتها على التعبير عن الجديد المغاير.لذا ارتبطت الكتابة لدى"صلاح والي"بوعي الذات لذاتها،وبمغزى استقلالها،وبخصوصية لغته وتميُّزها،وقدرتها عن التعبير عن قيم المستقبل؛وذلك على نحو ماهو مستفاد من قوله:"أنا أعرف أنني أكتب وأتكلم بلغتي الخاصة عن معاناتي،فكيف ستعرفها إذا كنتَ لا تعرف لغتي؟ فلننهِ هذا العذاب،اذهب واترك لي لغتي ومعاناتي".وبذلك راحت رواية"ذكريات المستقبل"تُنقِّل الخطوَ بجسارة وحريَّة بين طبقات وعوالم متعددة،كاسرة خطيَّة الزمن التتابعي،مبلورة صراع الإنسان مع القوى الخارجة عنه،مؤكدة على ذلك التقاطع العنيف بين المعنى واللامعنى،بين الحقيقة واللاحقيقة،بين الإنساني واللاإنساني،حتى إن الراوي في حلمه شاهَدَ"من شباك الدور الخامس عشر من خلف الزجاج،ساقيْن طويلتيْن كأنهما أبراج التجارة في أمريكا- التي ستُسمى بعد ذلك بكثير أبراج الحادي عشر من سبتمبر،الذي سيتكرر بعد عشر سنوات نفس الفعل في عشر مدن أمريكية مهمة،وسأكون وقتها في الثمانين وباقٍ على رحيلي إحدى عشرة سنة بالضبط-عرفتُ أنه هو الذي أنقذني منهم،بعد أن سمع صراخي،قال:هل صدَّقتَ الآن أنهم يتدخلون في كل شيء،وأنهم يُرسلون عليَّ شبكات متداخلة من النُّعاس حتى لا أراه،وهو يجلس على كرسيِّه ويفتح فمه بالرائحة؟ أراحتني القبضة على الفراش،ثم انسحبتُ من الفتحة التي بالسقف،تأكدتُ أنه نفس الوجه الذي رأيته بالأردن يدور حول القصر،ما زال يُطلُّ ويبتسم"،ص 29.وهكذا بعد أن تركنا"صلاح والي"نظن أن روايته نص واقعي،إذا به يُحوِّله إلى كابوس تعبيري.وهذا النقض للعهد أو للميثاق مع القارئ وتوقعاته ليس مجانيًّا ولا من قبيل العبث،بل يتناغم مع شكٍّ حقيقي حيال ماهية العالم الذي نعيش فيه؛لذا قال الراوي للجالس على السرير، وهو في قمة توتره:"ألقهِ إليَّ..قلتُ لهم:لا..من حقي أن أوقفَ الحلم.أنا أحلم بالمستقبل،ولا أُجبركم على شيء.أستطيع أن أهيِّج الجماهير وأطلق شعري وأحارب في تشيلي وبوليفيا مرة أخرى،وأدخن السيجار،وأقيم ثورات شعبية،وأزرع كل الأرض مقاومة،وأصبح چيڨارا،لكن أن ينتهي بي الأمر إلى أن أصبح عنوانًا لمحال الأطعمة؛فهذا غير معقول.- هل هذا خطؤنا؟ نحن نحافظ على الاسم.- أنتم تُقبِّحون الحسن،وتُحسِّنون القبيح.على كل حال،أنا لا أتحدث معكم،ولكن مع من يسمعني.لن أستمرَّ في الحلم،أرجوكم أوقفوا هذا الحلم على الرغم من أنه ملكي"،ص 27.لهذا تأتي الفانتازيا هنا معبِّرة عن حاضر مأزوم،وتطوُّر موصد،حوَّل التاريخ إلى ميثولوجيا،وجعل الاستهلاك بديلًا من الديمقراطية والخيارات السياسية المصيرية،وأرغم الجماهير الشعبية على تعريف نفسها في أضيق نطاق ممكن.لذا رفض الراوي في حلمه"أن يُصبح عنوانًا لمحال الأطعمة"،وأن يكون "چيڤارا اسمًا لمطعم"،أو "أن تقتني أي حرمة رجلًا مثل چيڨارا"،،مُشدِّدًا على أن العولمة "ليست هي كنتاكي وماكدونالدز،وليست مقاومة العولمة بالطاقية والمسبحة وأكل الكسكسي والملوخية بالأرانب"،ص ص 27و28؛وذلك في إلماعةٍ إلى ما تعنيه العولمة من زوالٍ لسيادة دول العالم الثالث الوطنية،وحلول الشركات متعدية الجنسيات محل الدولة في السيطرة على أسواقها الوطنية،مُقلِّصة دورها الاقتصادي،عاملة على ضمان حرية التجارة،وحرية حركة رءوس الأموال،بعد تهديم الحواجز والقيود التي سبق للدولة أن أقامتها.أما مقاومتها فتكون بالاستقلال الوطني،والتكامل الاقتصادي العربي،والتنمية المستقلة المعتمدة على الذات.لذلك تعمد رواية"ذكريات المستقبل"إلى خلق جمالية جديدة ورؤية للواقع مختلفة،مُثمِّنة معنى المقاومة،ودورها الكفاحي في مناهضة العولمة الأمريكية،ومجابهة العدو الصهيوني،وصياغة زمنها الخاص،مُرسِّخة الهوية الوطنية الفلسطينية،وحق الشعب الفلسطيني البطل في تقرير مصيره بنفسه على أرضه التاريخية.لذا تساءل الراوي:"هل كان"أبو العز"هو الذي قتل وصفي التل،وشرب من دمه كما قيل أمام فندق الشيراتون بالقاهرة؟"،مُضيفًا:لماذا يحاصرني هذا السؤال كلما هممتُ بعبور نهر الأردن،وكلما دخلت البقعة- فيا للحكام،ويا لله،ويا للثورة!".في إشارة إلى الفدائي الفلسطيني"عزت أحمد رباح"،واسمه الحركي"أبو العز"؛عضو منظمة أيلول الأسود الذي أسسها المناضل الفلسطيني"صلاح مصباح خلف"( أبو أياد) رئيس دائرة الأمن الموحد ب"فتح"؛بهدف الثأر لمقتل القائد الفلسطيني المغدور"أبو علي أياد"،واسمه الحقيقي"وليد أحمد نمر"؛المُلقَّب ب"چيڤارا عجلون"؛والانتقام،من ثَمَّ،من أعداء الثورة الفلسطينية الذين اضطلعوا بدور رئيس في إجهاضها وتصفيتها إبَّان مجازر أيلول الأسود في الأردن عام 1970،وعلى رأسهم"وصفي التل"رئيس وزراء الأردن والحاكم العسكري الأسبق،الذي اغتيل خلال حضوره اجتماعًا دوريًّا لوزراء الدفاع العرب في القاهرة،فتقدَّم منه"عزت أحمد رباح"،وأفرغ فيه مُشط مسدسه"البراويننج"،وهو يتجول في ردهة فندق شيراتون،وسط ذهول حُرَّاسه الشخصيين والوزراء العرب الذين سارعوا بالاختباء.وقد قُتل"عزت"فيما بعدُ على يد"حزب الكتائب اللبناني"عام 1982،بعد أسره في أحد سجونه.وإذا كان"الراوي اللامُسمى"هنا يستبشع لعق"عزت أحمد رباح"دم وصفي التل،على نحو ما تناقله الصحفيون الغربيون،كما يقول الكاتب الفرنسي"چان چوني"في كتابه ذائع الصيت"أسير عاشق"،فلعله يقرأ بإمعان ما سجَّله القائد الفلسطيني"محمد عودة"( أبو داود) في كتابه"فلسطين من القدس إلى ميونيخ"،وكذا مذكرات"أبي أياد"( فلسطيني بلا هُوية)؛ليعرف ما فعله وصفي التل ب"أبي علي أياد"،وكيف عذَّبه وقتله،وما صنعه بشعبه الفلسطيني من مذابح وتجويع وإبادة؛بهدف ضبط رجال المقاومة الفلسطينية،ومنع عملياتهم العسكرية ضد الكِيان الصهيوني،وإعادة حق التفاوض على مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وغزة إلى العرش الهاشمي.وهنا يبرع"صلاح والي"في الربط بين ما جرى في الأردن،وما حدث في"مخيم تل الزعتر"أطول معارك الحرب الأهلية اللبنانية،على يد ميليشيات كميل شمعون وبيار الجُميِّل،طَوال أشهرٍ خمسة خلت،من حصار وتجويع وحرمان من الماء وقتل؛من أجل أن تكون الحدود الشمالية لإسرائيل هي نهر الليطاني،وحدودها الجنوبية هي شرق الأردن،بعد التخلص من فلسطينيي لبنان والأردن.ثم ما تمَّ بعد ذلك في"اتفاق أوسلو"؛ليكتمل المخطَّط فصولًا؛إثر دعمه أسرلة العرب في إسرائيل،وفصم العلائق بين فلسطينيي الشتات وفلسطينيي الداخل،وترك كيان الحكم الذاتي المنقوص بلا سلطة ولا سيادة. لذا لجأ"صلاح والي"إلى تقنية الصورة التي ترفد الوقائع بنبض إنساني حيّ يشحذ جدل الجزئي والكلي؛لتعميق رهانات اللحظة الفلسطينية وعلائقها.فواجه الروائي القدير عمليات الحجب والنفي للوجود الإنساني الفلسطيني،بسردية رحبة ترى الواقع في علاقاته المتعددة،وممارساته السياسية الفاعلة،وموقفه الواضح من خريطة صراعاته الطبقية التي زاوجت الماضي بالحاضر،والحكاية بالتاريخ.عندئذ تبدت المخيمات الفلسطينية في عجلون والبقعة للراوي سؤالًا مترامي الأبعاد،ينفتح على ذاكرة المجتمع العربي،في اشتباكها مع اللحظة الموضوعية العامة،صانعة"كمية كبيرة من الفرح"ص 32،مُضيفًا:"هذه المخيمات المُقامة من تنكات الألمونيوم والصفيح،استطاع أبناء الأرض الفلسطينية أن ينتقوا الألوان في تجاورها؛لترسم أعينهم بناء جماليًّا..صارت المخيمات بيوتًا،والجدران لوحات جدارية تُغرقك في كَمٍّ كبير من الفرح وعشق الحياة،فقلتُ:هذا شعب مُنتصر".ص ص 32،33.فعلى الرغم مما تشكو منه المخيمات الفلسطينية من بؤس وتدنٍ في الخدمات،وتردٍّ في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية،فإنها لعبت دورًا كبيرًا في الحفاظ على الشخصية والهُوية الفلسطينيتيْن،وإحياء العادات والتقاليد،رافضة عمليات الإفناء والتذويب التي تُمارس بحق أهلنا الفلسطينيين،وهو ما عبَّر عنه الراوي بشاعرية مرهفة بقوله:"تُحسُّ وسط هذه المخيمات برائحة الشهوة والأمل وحب الحياة،وتُنادي على الأحلام وتُوصيها بألَّا تتأخر.هي تسبق الفرح والمستقبل،وتزرع شتلات الصبر بجوار أشجار الحياة،وتُحوِّل الموت لحادث يومي يدفع إلى الأمام بالزغاريد والرقص"،ص33.بينما أحسَّ الراوي في شوارع عمَّان في الأحياء المسمَّاة بالراقية؛أحسَّ"بالوحشة،وبخلوها من الروح،وبالخوف الذي يُطلُّ من عيون الجنود شاكي السلاح دائمًا،وبأن أطراف السناكي مُدببة في وسط الحجر،وهم يقفون خلف السور"،كما كانت"لأوراق الأشجار عيون تَبصُّ عليك بالقَوي،وتُطلُّ عليك من فوق السور العالي لتُحذِّرك من المرور،وتُنبهك إلى الخطر الكامن أسفلها"،ص33.وبذلك عاش الراوي المفارقة التي حملها الواقع إلى وعيه بين المخيمات والڨيلات ومملكة داود،مُفتشًا عن واقع جديد يقوم على الرفض وتغيير السائد الرديء؛حتى يصل إلى دلالة مغايرة للزمن الذي يُسطّره الكفاح المسلح،مُدركًا منطق التاريخ،مُشيرًا إلى المستقبل،مُنتقلًا من صورة الضحيَّة،إلى صورة المناضل الوطني صاحب الأرض والموقف والقضية؛لذا أبصر ماوراء تمدُّد"المخيمات في أفغانستان والمغرب وموريتانيا ودارفور وكوريا،حتى صارت مَعْلمًا من مكونات الأرض"ص34،رائيًا ما تُخبئه المخيمات الفلسطينية تحت جلدها من آلام واضطهاد وموت"أخاف أن أمسح يدي عليها فيخرَّ دم من تحت الطلاء الأبيض،أو تُمسك قدمي وأنا واقف بجوار الحائط يدُ شهيد،تخرج من تحت الأرض طالبة مني أن أُزيح هذا الجدار قليلًا عن صدره"،ص 34؛فتوقف عند ما تكشفه"السلطة القاهرة للڨيلات بمكياجها الثقيل ورائحتها النتنة،بينما الضحية عارية أو بملابس قصيرة مبتهجة وواضحة كالفضيحة،وسعيدة وتُمارس حياتها وموتها وكل طقوس اليومي والمعتاد،وهي تلفّ حولها الفراشات وترقص لها الزهور والزعتر الجبلي،وتتفتح لها الأرض بالنبت البري من كل شيء،وحولها الرائحة الحلوة التي تُريح القلب"،ص34.
حينئذ قرَّ في وعيه ما بين الوطني والطبقي من علائق،وما بين جدل اليومي والسياسي من دلالات،تُنتج دينامية تاريخية مترامية متشابكة الظلال والألوان.
وبذلك تَربط رواية"ذكريات المستقبل"بين الإنسان وشرائط وجوده؛مؤسِّسة وعيًا مُتحرِّرًا من الوهم والشعار والإيديولوجيا،مُنتقلة من الضرورة إلى الحرية.لذا أضحت حياة"الراوي اللامسمى""تعمل مع الضوء في حركة بندولية بين المستقبل ولحظة الانطلاق..هي أقرب إلى الحلم"؛إذ"إن الذي يحلم أو يتذكر المستقبل في التصوُّر البنَّاء،يَثبت في الحياة على اللحظة التي ينطلق منها،بينما يتقدَّم مع الزمن داخل الرؤيا"،ص 46.
لهذا وجد الراوي في تجربته الكفاحية ما يمنح لحياته معناها،ويَشحن فاعليته الإنسانية بطاقة لا حصرَ لها من قوة الحياة؛فمارس حلمه بالوطن من وحي علاقته بالبندقيَّة،بعد أن"اختار بإرادته أن يهزم الموت ولا ينتظره؛حتى لا يبقى أسيرًا،ثم يمرّ من بين يديْه ليجيء بالوطن،أو يُمهِّد الطريق للحالمين والفتية الجنود"،ص68.وبذلك تتحرر فلسطين من الأعداء،وممن أبرموا"اتفاق أوسلو"،ويتخلص الوطن من معضلاته في"التربية والسلوك ومن الكذب،ويُصبح قادرًا على مواجهة الأمر الواقع،وأن يتعامل مع المشكلات بالعقل"،ثم تابعَ:"وقع منه على الأرض دم وآهات،ولكنه لم يجدْ وطنًا يحوي قبرًا له ليدفنها فيه؛فدفنها في قلبه،وعاش بلا عواطف.
-بلا عواطف؟مقابل؟
- مقابل ألَّا يحزن،وألَّا يُساوم؛خوفًا من أن يذهب كل شيء بلا مقابل.وها هو قد ذهب،وهل كان بمقابل أن تنفد بجلدك من الموت مقابل الصمت؟وإذا شئنا فسنذكرك في مجمل الوقت،وعندما نحتاجك"،ص150.
غير أن التناص في رواية"ذكريات المستقبل"من القرآن الكريم،ومن شعر الأخويْن رحباني،وفيلمون وهبي،وبشارة الخوري،وحكاية هارون الرشيد مع البنت العربية،ومن أبي العلاء المعري،وعنترة بن شدَّاد،وشعر قديم لأعرابي مع هارون الرشيد،ومن أبي منصور الحلَّاج،جاء التناص ليمنح البنية الروائية طابعًا دراميًّا،وقوَّة تماسك بنائية بين عناصرها،مُشدِّدًا على دلالات الحركة عبر التعددية والصيرورة.
أجلْ..إن رواية "ذكريات المستقبل"ل"صلاح والي"رواية مكثفة..مشحونة..غنيَّة بالرؤى وبصدقها الفني،وبلغتها الشاعرية الإنسانية الرفيعة.



#أسامة_عرابي (هاشتاغ)       Osama_Shehata_Orabi_Mahmoud#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثلاثية جلبيري..سؤال التاريخ والذات الكاتبة
- البطالة وسياسات الصندوق والبنك الدوليين


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة عرابي - ذكريات المستقبل وتفكيك شبكات الوجود