|
حتى لا تصاب الفلسفة بالزهايمر
أحمد الفرحان
الحوار المتمدن-العدد: 5183 - 2016 / 6 / 4 - 20:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حتى لا تصاب الفلسفة بالزهايمر
من المهام الحضارية الرّاهنة التي ينبغي للفلسفة أن تشتغل عليها في عصر الثّورة التِّكنولوجيّة هي: إعادة التّمييز بين هويّة الأشياء وهويّة الأشخاص؛ هذا التمييز الذي سيشكِّل مدخلاً أساسيّاً لفهم المعنى الخاص بوجود الإنسان في العالم. إنّ التّساؤل القلق والملحّ عن معنى التصاعد والتنامي الهمجي للعنف والتطرّف والقتل المقدّس والاستغلال والاستعباد والإقصاء باسم قيم الحريّة والفضيلة والكرامة والعدالة والرّحمة، يكشف لنا أنّ علاقة الإنسان المعاصر بالعالم الجسيمي المادِّي ليست علاقة معنى ولكنها علاقة نسيان المعنى. ومن مظاهر النِّسيان ضياع المعنى في عصر ينتج الكثير من التّفسيرات والحقائق عن أنفسنا وعالمنا مَشوبة بالكثير من الشّكوك والظّنون في مصداقيّة أدواتها العلميّة وموضوعيّة نتائجها، حتى صرنا نحن أهل الفلسفة نرى في الشّك والظّن والارتياب مذهباً جديداً في فهم وجودنا في العالم، وصرنا إلى التّقويض والتّفكيك حتّى تفكّكت أنساقنا وتهاوت إشكالاتنا وأعدمنا وجودنا بقتل وعينا وتأليل قِيمنا ومسرحة تاريخنا وتسليع أجسامنا، وتناسينا في إعجاب كبير بما صنعت أيدينا أنّ العلوم لم تكن يوماً تقوم مقام الدّليل على الفلسفة بقدر ما كانت تقوم في الفلسفة مقام التمثيل على قدرة "هذا الإنسان ! " ركبنا الهول لمّا ادّعت مناهج العلوم العصبيّة والفيزيائيّة قدرتها الخلاّقة في تفسير كلّ أنظمة الفكر الإنساني تفسيراً مادِّيّاً وتجريبيّاً، فاختزلتنا إلى مجرّد وظائف حيويّة لجهاز عضوي معقّد خاضعِ لنظام من نقط اشتباك عصبيّة تحدُّ كلَّ سلوك أو قرار فينا، ثمّ أصبحت ترى أنّ السّبيل إلى تهذيبنا وتقويمنا هو فكّ شيفرة النِّظام العصبوني لجسمنا وإعادة برمجته تكنولوجيّاً كشكل من أشكال التربيّة الذكيّة !؟ وتناسينا لغتنا الفلسفيّة في فحص هذه الأطروحات العلميّة التي لم تقو، في نظرنا، على التّمييز بين التّفسير المادِّي لأنظمة الفكر الإنساني وبين التّأويل العملي للحياة الفكريّة الإنسانيّة، فاختلطت عليها المفاهيم بين الاستعمال والتّداول التي بها يتم تأويل الحياة الفكريّة للوجود الإنساني وبين التّوظيف والتّآلل التي بها يتم تفسير أنظمة الفكر الإنساني. تحتاج الفلسفة اليوم، كما كانت دائما في الحاجة، إلى تصويب الرّؤية واستعادة البوصلة، أمام الإغراءات الكثيرة لتعدّد المنهجيّات وحذاقة التقنيّات في الاستقصاء والبحث. وبوصلتها كانت دائما وماتزال اقتناص الإشكالات ومساءلة اليقينيّات وكشف زيف الادعاءات عن طريق "التّهكّم" على كلّ من يرى في المفارقات حقائق العمل، وفي المغالطات دقائق القول. إنّ فهم نمط وجود الإنسان في العالم يقتضي منّا المواكبة العلميّة المجتهدة بما تأتي به العلوم المعرفيّة والعصبيّة من نتائج مذهلة في فهم آليات الاشتغال الذهني، في كلِّ المجالات المعرفيّة والدِّينيّة والثقافيّة والسيّاسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والجماليّة، وإعادة قراءة وامتلاك هذه الآليات في ضوء آليات الاستدلال الفلسفي، التي انحدرت إلينا عبر تاريخ المذاهب الفلسفيّة الكبرى، قراءة مبدعة ومنتجة ترتبط بالشروط التاريخيّة التي تحكم أسئلتنا الرّاهنة وآفاق انتظاراتنا. وهذا هو السّبيل الممكن، في نظرنا، لتخليص الرّوح الفلسفيّة للوجود الإنساني من هيمنة وقبضة العلوم المعرفيّة والعصبيّة التي غزت الحقول الفلسفيّة الكبرى بأدوات منهجيّة فائقة الذّكاء. ينبغي لطريق الفلسفة، في عصرنا هذا، أن يأخذ مجرىً آخر هو: أولويّة الموضوع على المنهج وليس العكس...لأنّ الفلسفة الآن، في نظرنا، في حاجة إلى الموضوع... أمّا المنهج فهو مسألة اجتهاديّة يتعزّز ويتطوّر ويتطعّم بالاحتكاك السِّجالي القوي المتبادل بين الرّوح النّقديّة التّهكّميّة للفلسفة والمناهج العلميّة والأدبيّة والجماليّة التي تقارب الموضوع ذاته من جهات عدّة. وفي الختام، على الفلسفة أن تعمل على تأميم مواضيعها بعدما تخوصصت علميّاً وتكنولوجيّاً، وإعادة تشغيل الأدوات المنهجيّة للعلوم التجريبيّة والإنسانيّة ضمن أفق فلسفي إشكالي يتّخذ من موضوع "الفهم العملي للوجود الإنساني" موضوعاً لتساؤلاته وكشوفاته، لأنّ "الفهم العملي للوجود الإنساني" يعدّ شرطاً ضروريّاً لفهم علاقة الإنسان بالوجود، ومقوِّماً للعلاقة البينيّة بين الرغبة في الحياة الكريمة والقدرة على التصرف وفق "الحكمة العمليّة". ومنه فإنّ الإنسان يختصّ عن باقي الكائنات بإمكانيَّة عملية تمكِّنه من تدبير علاقاته مع نفسه ومع الآخرين؛ وهذه "الإمكانية العملية" (الفرونيزيس) هي أصل القدرات التي تجنِّد الذّات على تعبئة واستثمار مواردها التّاريخيّة والسّيّاسيّة والعلميّة والأدبية والفنِّيّة لتدبير وجودها التراجيدي في العالم.
#أحمد_الفرحان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقترحات من أجل إصلاح التّربيّة الدِّينيّة في المغرب
-
المهام التّارخيّة للفلسفة السيّاسيّة بالمغرب، من السّلطة إلى
...
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|