|
مأساة الفلّوجة وملهاتها
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 5179 - 2016 / 5 / 31 - 21:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
على شفير التوتّرات السياسية التي عوّمت بعض مفاصل الدولة وعطّلت البرلمان واجتياح الجموع الغاضبة المنطقة الخضراء، بدأ الحديث عن معركة الفلّوجة، باعتبارها المعركة الرمزية الفاصلة في الطريق إلى تحرير الموصل، خصوصاً بعد تحرير الرمادي وهيت وكبيسة وحديثة والقائم، ومناطق أخرى من محافظة الأنبار، إضافة إلى تحرير محافظة صلاح الدين، وعاصمتها تكريت. وعلى الرغم من أن داعش لم يفقد المبادرة كلياً، بدليل هجومه الأخير على هيت، لكنه تعرّض إلى خسائر جسيمة مادياً ومعنوياً، ومع ذلك فمعركة الفلّوجة ستكون فيها ردود فعل كثيرة ومتناقضة: أولها – هو خشية أبناء هذه المناطق من دخول قوات الحشد الشعبي إلى المدينة، وهو الذي تأسس بمبادرة من السيد علي السيستاني بدعوته إلى "الجهاد الكفائي"، وسبق وأن وُجّهت إليه اتّهامات شديدة بارتكابات سافرة وصارخة في المناطق التي تمّ تحريرها، وخصوصاً في تكريت، حيث تمّ تدمير وحرق منازل ومحال تجارية. وثانيها – إن أجواء التوتّر والقلق والنّفور تُعاظم من خطر الفتنة الطائفية، حتى وإن اختفت أحياناً تحت الرماد أو توارت عن الأنظار، لكنها لا تزال قوية ومؤثرة، بحكم نظام الغنائمية المذهبية والزبائنية السياسية، الذي تأسّس وفقاً للمحاصصة الطائفية – الإثنية، الذي افتتحه بول بريمر في مجلس الحكم الانتقالي. وثالثها – إن الاهتمام بمعركة الفلّوجة قد يُراد منه تغطية الفشل في إدارة الدولة والعملية السياسية ككل، وتصويب الأنظار نحو داعش والحرب عليها، لكن ذلك لن ينهي المشاكل القائمة من حيث الصراع على مناطق النفوذ، سواء داخل البيت الشيعي الذي بين أركانه ما صنع الحدّاد – كما يُقال – أو بين المجاميع السنّية المتعارضة، من داخل العملية السياسية أو خارجها، أو مع بعضها البعض، ناهيك عن تفاقم الخلاف بين بغداد وإربيل وغير ذلك. ورابعها – أن تحرير الفلّوجة وحتى تحرير الموصل يطرح السؤال مجدّداً وماذا بعد؟ فالعملية السياسية وصلت إلى طريق مسدود، ولم يعد بالإمكان الاستمرار فيها، كما لن تنفع معها الترقيعات، ولولا زيارة أركان الإدارة الأمريكية إلى بغداد مؤخراً، لكانت العملية السياسية قد انهارت وأصبحت في مهبّ الرّيح، ومثلما سارعت الإدارة الأمريكية إلى إنقاذها لعبت إيران دوراً في انتشالها من السقوط. وفي شهر أبريل (نيسان) الماضي، وصل بغداد على نحو مفاجىء ودون إعلان وزير الخارجية جون كيري وأعقبه وزير الدفاع آشتون كارتر، ثم تبعهما نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، وكان قاسم سليماني مسؤول الملف العراقي ورئيس فيلق القدس، قريباً من الأحداث وينتقل من موقع إلى آخر وصولاً إلى مشارف الفلّوجة، حيث تم التقاط صور بوجوده مع قيادات من الحشد الشعبي. وكان الأمريكان والإيرانيون قد أعلنوا صراحة لجميع القوى أن التغيير في المعادلة القائمة مرفوض. وخامسها – إن معركة الفلّوجة تذكّر بما قام به داعش من جرائم في سبايكر وجبل سنجار، فلا عجب أن تتولد مشاعر بالتعصّب والكراهية والثأر، وهي موجودة أصلاً بسبب التطرّف والشحن الطائفي، الأمر الذي سيثير ردود فعل وشكوك ومخاوف، خصوصاً من عمليات التطهير والعزل، ولعلّ ما حصل في طوزخورماتو، من تداخل الصراعات القديمة – الجديدة بين التركمان والكرد والعرب، وقبل ذلك في ديالى من تطهير واحتراب وتفجير وإجلاء يؤشر إلى احتمالات أحلاها مرّ حتى بعد داعش. لقد نُكبت الفلّوجة من الاحتلال الأمريكي مباشرة، ومرّة أخرى في ربيع في العام 2004، حيث عوقبت بضراوة وشراسة ودموية، مثلما تعرّضت في أواخر العام ذاته إلى أعمال انتقامية على يد الحكومة العراقية بمعاونة أمريكية، ونُكبت خلال الصدامات الداخلية للصحوات وما في حُكمها، ولكن نكبتها الكبيرة كانت بعد احتلال داعش التي اختطفتْ المدينة في 2 يناير (كانون الثاني) العام 2014، أي قبل احتلال داعش للموصل بنحو ستة أشهر، ونكبة الفلّوجة من داعش مستمرّة، باستمرار نزوح نحو 400 – 500 ألف من سكانها إلى مناطق عديدة، قسم منهم إلى كردستان حيث يعيشون في مخيمات ويعانون من ضنك العيش، في ظروف لا تتوفّر فيها أبسط مستلزمات الحياة، مثلما يعانون من عدم وصول الرواتب أو تأخرها للعاملين في الدولة، إضافة إلى مشاكل إدارية وأخرى تتعلّق بالصحة والتعليم، ناهيك عن البيئة الجديدة واللغة وغيرها. أما الذين اتّجهوا نحو بغداد، فإنهم كانوا عرضة للابتزاز، خصوصاً عند مشارفها، حين يطلب منهم، تقديم كفلاء لتزكيتهم وكفالتهم، كي لا يكون داعش الذي هربوا منه، قد تسرّب من خلالهم، وتلك إحدى السخريات الحزينة. لقد استخدم داعش جميع أساليب القهر والقسوة لإذلال المدينة، وقام بعملية غسل الأدمغة وإنزال أقسى العقوبات بمن يخالف تعليماته، بل وشكّل فرقاً لاغتيال المخالفين، أو العوائل التي اضطرّت للهرب من ظلمه، حسب تقرير للأمم المتحدة. ومع تصاعد غبار المعارك والحديث عن الانتصارات، يبدو الوجه الآخر لصورة الفلّوجة أكثر سخرية وحزناً من مأساتها، فالمشهد يرسم صورة قيادات من الكتل الشيعية، وهي ترتدي ملابس الكاكي (الزيتونية) التي تذكّر بأيام الحرب العراقية – الإيرانية وما بعدها حرب غزو الكويت، حيث كان المسؤولون جميعاً يرتدون الكاكي بأوامر عليا. نقول مع الغبار المتطاير ينسى الجميع نحو 40 – 50 ألف إنسان موجودين في الفلّوجة، وهم مختطفون من داعش الذي يستخدمهم كدروع بشرية، بل ويلغّم بعضهم، الأمر الذي يحتاج إلى بذل أقصى الجهود لتأمين ممرات آمنة لخروجهم وحماية حياتهم والحفاظ على سلامتهم، وأي تهاون على هذا الصعيد يعرّض المسؤولين عنه للمساءلة القانونية، وفقاً لقوانين الحرب وقواعد القانون الدولي المعاصر، والقانون الإنساني الدولي، وبشكل خاص لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية. ولا بدّ من العمل من جانب الجميع، القوات النظامية العراقية بمختلف فروعها وقوات التحالف الدولي، والقوى المتطوّعة غير النظامية على إبعاد السكان المدنيين من دائرة الاستهداف وتجنيبهم مخاطر الصدام وفقاً لما تقتضيه قوانين الحرب. وإضافة إلى ما ستتركه مثل هذه الأعمال على أهالي المنطقة من تأثيرات نفسية، فإنها ستزيد من تأجيج نار الطائفية وريحها التي تهبّ على نحو شديد مجدّداً في العراق. ورمزية الفلّوجة تختلف من طرف سياسي عن آخر، فالمدينة حسب بعض وجهات النظر، هي رمز مقاومة المحتل وإلحاق خسائر به وإجباره على الانسحاب، وهي مدينة المساجد التي تفخر بها، ولذلك أريد إذلالها طيلة السنوات الثلاثة عشر الماضية، في حين أنها من وجهة نظر أخرى "رأس الأفعى" حسب توصيف رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وبالتالي لا بدّ من تطويعها لكي لا تكون بؤرة للإرهاب، حسب هذه المبرّرات. ولكي تعيش الفلّوجة في سلام وأمان، فلا بدّ من اجتثاث داعش ابنة القاعدة الشرعية، وخصوصاً على المستوى السياسي، وذلك بالمصالحة الحقيقية وإصدار عفو عام وفتح صفحة جديدة لتجاوز الماضي وإعادة جميع المفصولين إلى وظائفيهم وتعويضهم عمّا لحق بهم من غبن وأضرار. واقتصادياً بالتنمية وإعادة الإعمار وبناء ما خربته الحرب، واجتماعياً بلحمة العلاقات وتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة، وقانونياً بترسيخ التآخي الوطني في إطار حكم القانون وعدم التمييز، ودينياً بنشر قيم التسامح واللاّعنف، ولا سيّما عبر التربية والتعليم، وبالتالي تجفيف المنابع الأساسية للإرهاب، لا سيّما المالية والثقافية. وكلّما تعزّزت المواطنة وتم إيجاد فرص عمل للعاطلين وتوفير الخدمات الضرورية، كلّما أصبح من الصعب بمكان على القوى الإرهابية تنفيذ مخططاتها الإجرامية. لكن السؤال الكبير الذي يظل يحوم، وماذا بعد الفلّوجة؟ وكيف ستدار هذه المناطق؟ وأين نضع ذلك على خريطة السياسة العراقية الجديدة؟ ودائماً كانت الخشية هل سيبقى العراق موحّداً؟ وهو سؤال سبق لغراهام فولر المقرّب من الـCIA أن طرحه في إطار تقرير موسّع إلى مؤسسة (راند – Rand)، وذلك بعد الحرب الأمريكية على العراق في العام 1991، وبعد فرض الحصار والعمل على تفتيت الدولة من داخلها، جاء الغزو الأمريكي ليؤسّس لعملية سياسية شوهاء على أساس مذهبي وإثني، قادت إلى صراعات ومناخات محمومة، فظهر مشروع جو بايدن الذي قسّم العراق إلى ثلاث فيدراليات ووضع حدود وهويّات أقرب إلى جوازات سفر بينها، أي قرّبها من "دويلات" توشك على الانفصال، حتى وإن بقي العراق شكلياً موحّداً، ويجري الحديث اليوم، وخصوصاً ما بعد داعش عن المشروع في إطار إعادة التركيب. من ينتصر في الفلّوجة إذاً؟ إذا هُزم داعش وانتصر التقسيم، فسيكون داعش منتصراً أيضاً، وإذا هزم داعش وانتصرت الطائفية، فسيكون داعش منتصراً، وإذا هُزم داعش وانتصر التمايز الإثني، أي ذيول الحرب على داعش في ديالى وكركوك وحزام بغداد والموصل، سيكون داعش هو المنتصر. وإذا هُزم داعش واستمر حال العراق على ما هو عليه نصفه للأمريكان ونصفه الآخر للإيرانيين، سيكون داعش ومشروعه التدميري التكفيري التقسيمي هو المنتصر، وتلك هي الكأس المرّة التي يُراد للشعب العراقي تجرّعها وتكريس ما هو قائم، بجعل الأمر الواقع "واقعاً"!!
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطفولة المعذبة في العراق: إلى أين؟؟
-
حوار مع مجلة كولان الكردية
-
كوابح التغيير في العراق
-
عدوى التعصب الديني
-
اتفاقية سايكس بيكو: الاتفاقية الحرام
-
أسئلة ودلالات لحكايات النزوح العراقي
-
عن فكرة الانتماء والهوية العراقية
-
استراتيجية واشنطن وأولويات بغداد
-
متى يعاد الاعتبار للسياسة عراقياً؟
-
العراق.. تدوير الزوايا ومعادلات القوة
-
الزبائنية وما في حكمها!!
-
العربي أبو سلطان -محمد الهباهبه-: حالم لم يفارقه حلمه
-
الماراثون العراقي والعودة إلى المربع الأول
-
اللحظة اليابانية.. ال«هُنا» و«الآن»
-
الفلوجة وسريالية السياسة العراقية
-
محمد السمّاك :الشاب الثمانيني الذي يسيل من يراعه عطر الفلسفة
-
«غوانتانامو» وتسييس العدالة
-
وليد جمعة : كان يشرب من دمه كأنه النبيذ!
-
«وثائق بنما» وتبييض الأموال
-
ثلاثة سيناريوهات محتملة في العراق - حوار مع جريدة الزوراء
المزيد.....
-
ماذا فعلت الصين لمعرفة ما إذا كانت أمريكا تراقب -تجسسها-؟ شا
...
-
السعودية.. الأمن العام يعلن القبض على مواطن ويمنيين في الريا
...
-
-صدمة عميقة-.. شاهد ما قاله نتنياهو بعد العثور على جثة الحاخ
...
-
بعد مقتل إسرائيلي بالدولة.. أنور قرقاش: الإمارات ستبقى دار ا
...
-
مصر.. تحرك رسمي ضد صفحات المسؤولين والمشاهير المزيفة بمواقع
...
-
إيران: سنجري محادثات نووية وإقليمية مع فرنسا وألمانيا وبريطا
...
-
مصر.. السيسي يؤكد فتح صفحة جديدة بعد شطب 716 شخصا من قوائم ا
...
-
من هم الغرباء في أعمال منال الضويان في بينالي فينيسيا ؟
-
غارة إسرائيلية على بلدة شمسطار تحصد أرواح 17 لبنانيا بينهم أ
...
-
طهران تعلن إجراء محادثات نووية مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|