|
امرأة تسعى إلى موتها راغبة هانئة
محمود ماضي
الحوار المتمدن-العدد: 1395 - 2005 / 12 / 10 - 11:26
المحور:
الادب والفن
«دوائر أختي الناقصة» قصة للقاص زياد خدّاش منشورة في مجموعته القصصية الأخيرة «خذيني إلى موتي»‚ القصة باختصار منال في أواخر العقد الثاني من عمرها‚ غير قادرة على التواصل لغة مع الآخرين‚ لكنها تضحك معهم وتبكي حين يبكون على لقطة من مسلسل عربي حزين‚ موهبتها تكمن في رسم دوائر ناقصة على الورق‚ وفي أحد أيام منع التجول‚ بعد جفاف حبر اقلامها‚ احضر لها اخوها «سطل فحم» وأشار لها على الجدار فراحت «ترسم دوائرها المجنونةهناك بخط اسود كبير وثقيل» ‚‚ دوائر منال ناقصة‚ دائماهناك ثغرة في محيط الدائرة!
وتنتهي القصة بأن يدخل الى غرفة منال‚ اخوها‚ بعد ليلة ارق ‚‚ ويحاول ايقاظها لكنها لا تستيقظ‚ والمدهش ان جدران الغرفة الاربعة‚ تحضن دوائر عملاقة خطوطها متعرجة دوائر عملاقة مكتملة تماما وأخته منال لا تستيقظ‚
قصة أخرى من أحد الأفلام الاجنبية‚ المكان مستشفى للدعم النفسي! توجد فتيات كثيرات مصابات بأمراض نفسية مختلفة‚ تهرب فتاتان من مستشفى الامراض العصبية وتذهبان الى بيت صديقة غادرت المستشفى قبل فترة قريبة‚ إحدى الهاربتين تكتشف جروحا في يد صاحبة البيت‚ فتصارح الضيفة صاحبة البيت بأنها تعرف كثيرا من التفاصيل‚ مثل انها تستلذ بتعذيب نفسها‚ وانها تتعامل مع حبة الدواء المسكن كرجل تلتهمه‚ وأنها حين لا تأكل الا مما يطبخه والدها فهل تفعل ذلك بشكل رمزي‚ اي انها لن تقيم علاقة مع اي رجل الا والدها‚ وان تعذيبها لجسدها من الخارج‚ هو نافذتها الوحيدة لتعذيب داخلها في اقامة علاقة مع ابيها‚
بعد هذا الحوار‚ تستأذن صاحبة البيت وتصعد الى غرفتها في الطابق الاعلى وتكتشف الضيفتان صباحا ان صاحبة البيت قد انتحرت!
لماذا ماتت «منال» في قصة زياد خداش‚ ولماذا انتحرت فتاة الفيلم؟
منال‚ بالرغم من ان القصة تقول ان ملامح وجهها مشروع ملغي او غير مكتمل لجمال خاص‚ ليتوهم القارئ أن دوائرها «غير المكتملة» انعكاس لجمالها الخاص‚ وبشكل آخر ان «منال» حين وصلت الى جمالها المكتمل‚ «غابت عن الدنيا»‚
والجمال المكتمل / المطلق هو بالتأكيد عند زياد خداش يرادف (الموت)‚ وهذا واضح من عنوان مجموعته القصصية «خذيني الى موتي»‚ ويمكن ملاحظة مدى الراحة والبساطة في فعل الامر (خذيني) المتناقض مع (الموت)‚ لكن الموت‚ باعتقادي‚ هو منطقة جمالية ومختلفة عند زياد خداش‚ وهذا ليس تشاؤما ‚‚! لأن الموت ليس منطقة خلاص‚ بل منطقة بحث جمالي مطلق‚ لذلك يكون الموت‚ غالبا‚ بسيطا فهو يقول لها في قصة اخرى «تعالي اذن نموت معا ‚‚ قفي على الهاوية‚ حافية وراكضة بلا جدران‚ بلارجال بلا ذاكرة وبلا مسائك الاخير‚ لا تخافي فالهاوية طيبة وثقيلة ومتفهمة‚ ولا تثرثر كثيرا‚ ثمة فرصة للضحك ‚‚»‚ ويمكن ملاحظة دعوة الموت‚ أو «الهاوية» وارتباطها بالتالي (حافية‚ راكضة‚ طيبة‚ متفهمة‚ لا تثرثر كثيرا‚ ضاحكة)!
هي إذن ليست دعوة للانتحار‚ بل دعوة لفهم الذات والبحث عن جمالها الخاص‚
ما الذي قتل منال؟ الذي قتلها برأيي هذه الجملة ‚‚ (خرجت من الغرفة باتجاه المطبخ‚ باحثا عن حجة كاذبة لأرقي أو سبب‚ مررت على غرفة منال‚ قلت في نفسي: لم لا أوقظها؟ سنرسم معا دوائرنا)‚
هذه الجملة يتبعها فتح للباب واكتشاف ان منال نائمة‚ وان دوائرها عملاقة ومرتبكة ومكتملة في آن وحين يحاول ايقاظها لا تستيقظ‚
(سنرسم معا دوائرنا) ‚‚
الأخ الذي كان محايدا في البداية ويتأمل الدوائر الناقصة‚ ويحلم بها‚ أصبح بعيدا عن منطقة المشاهدة‚ وقريبا الى الانغماس في «ممارسة الفعل»‚ يريد ان يكون فاعلا بالاشتراك معها‚ لذلك فالفاعل لفعل (نرسم)‚ هو ضمير غائب تقديره «نحن»‚ ومعا تفيد المشاركة‚ والأخطر برأيي هو إسناد «دوائر» إلى «نا» الفاعلين‚ قبل ذلك‚ كانت الدوائر الناقصةمسندة فقط الى اخته (دوائر أختي)‚
«منال» لا ترفض المشاركة‚ لأن أخاها‚ يقول «وضعت يدي فوق يدها‚ ومشيتُ بيدها في منحنيات دائرة كبيرة‚‚» اي انهما اشتركا في انجاز فعل سابق لكنها ترفض ان تكون المشاركة مزاجية ومبنيةعلى شروط مسبقة من أخيها‚ فالأخ الذي يبحث «عن حجة كاذبة لأرقه» حاول ان يروّح عن نفسه بالمشاركة مع أخته‚
ولأن شرط الموافقة والمشاركة في «رسم الدوائر» وإسناد الناتج لهما معا‚ نابع عن «أرق» الأخ فقط‚ فقد قررت «منال» ان تموت‚
ربما كان موت الأخت «قبل» التفكير «بجملة القتل» (سنرسم معا دوائرنا)‚
لكن زمن القصص عند زياد خداش مفتوح ومتداخل لذلك أرى ان منال البنت التي «كانت ستصير امرأة سمراء وطويلة‚ جميلة ومثقفة»‚ قررت ان تموت باختيارها الحر‚ حين رأت ان احدهم قرر «في لحظة ملل» ان يشاركها منجزها الجمالي‚
اما الفتاة المريضة المنتحرة‚ فلم تقدم على الانتحار لأن «صديقتها» أهانتها‚ وأخبرتها بحقيقتها الماسوشية‚ او انها تمارس الجنس مع والدها‚ هذا آخر ما كانت تفكر فيه الفتاة حين وضعت رأسها في الحبل المربوط في السقف‚
برأيي‚ كانت تشعر انها فارغة‚ ولا تملك سرا خاصا بها لذلك حين انتهت «صديقتها» من كلامها شعرت ان داخلها يطابق خارجها‚ وأن أسرارها التي تحتفظ بها عميقا في داخلها قد انتقلت لجسد صديقتها‚ وهذا خطير الى درجة الشعور باللاجدوى‚ ان تكون فارغا من اي شيء‚ وأن تكون شفافا الى درجة ان يسمع الواقف امامك الافكار الباطنية في عقلك‚
لذلك كان الموت هو العلاج وانتهت مرحلة علاج الخارج ليرتاح الداخل» الى قتل الخارج والداخل معا‚ لأنهما متشابهان امام الآخر‚
أتحدث عن منطقة خاصة‚ سرية هذه المنطقة تحتوي على تفسير حب الانسان للكتاب هذا‚ وعدم اهتمامه بالآنسة فلان‚
تحتوي على أسباب الوجود‚
وإذا ما تم الكشف عن هذه «المنطقة الخاصة» من قبل الآخرين‚ فبالتأكيد سيتم توقع افعال الانسان التالية‚ وبذلك فلا جدوى من اي فعل لا يستطيع إدهاش الآخرين‚ فما بالك بكل أفعاله التالية المكشوفة مسبقا‚
هذه الفتاة كانت تستطيع ان تغادر المدينة التي تسكنها‚ او تقوم بقتل «صديقتها»‚ وفي الحالتين تبقى «منطقتها السرية» بعيدة عن أنظار الاخرين‚ لكنها لم تهاجر لأن وجود من يستطيع التنبؤ بأفعالها‚ حتى ولو كان في مكان آخر‚ وجوده يقتل المتعة في الفعل والممارسة الآنية‚
ولم تقتل «صديقتها» لأنها لا تضمن أن صديقتها احتفظت بكلامها لنفسها‚ ولا تضمن كذلك ان يأتي لها الزمان بإنسان يشبه صديقتها‚ ويستطيع الولوج الى «منطقتها السرية الخاصة» وكشفها‚ لذلك كان الاجدر بها ان تزيل نفسها عن الوجود فانتحرت‚
الموت لدى الشخصيتين السابقتين‚ لم ينتج عن قمع وعنف مادي يمكن رصده‚ هو نتاج عنف معنوي خلخل اتزان الفتاة مع واقعها المعاش‚ ومسَّ أفكارها وقناعتها وأجبرها على البقاء رهينة واقع مغاير ترفضه ولا تشعر براحة معه‚ لا يهم هنا جنس المعنف‚ رجلا كان أو امرأة بل الأهم هو النظر الى ناتج عملية العنف‚ ومصير العنف المرأة هنا تسعى‚ بشكل خطير‚ الى موتها راغبة وهانئة!
#محمود_ماضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|