أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السيد عبد الله سالم - يوم أن مات أبي














المزيد.....


يوم أن مات أبي


السيد عبد الله سالم

الحوار المتمدن-العدد: 5178 - 2016 / 5 / 30 - 11:27
المحور: الادب والفن
    


يوم أن مات أبي

جلستُ أتأملُ أنفاسهُ السريعة المتلاحقة، وحشرجةُ الموتِ قد غطَّتْ فضاءَ الغرفة؛ التي ينامُ فيها والدي، لقد بذلتُ كلَّ ما في وسعي لأخفِّفَ عنهُ علَّتَهُ بلا فائدةٍ، فقد أصابهُ داء الكلي وتوقفت تمامًا عن العمل، وأضحت رئتَهُ اليمنى فريسةً لالتهابٍ شديدٍ، أكل معظم فصوصها، ولا يستجيب لأيٍّ من المضادات الحيوية المعروفة بفاعليتها في مثل هذه الالتهابات، فارتفعتْ حرارته، وصار يفقد الوعيَ رويدًا، رويدًا، حتى دخل في غيبوبة عميقة، لا يستجيب لأي مثير خارجي.

كان الأنبوبُ الأنفيُّ الذي يمده بالأوكسجين يُضايقهُ، رغم حاجتهِ الشديدة إليهِ، وضرورة استمراره على أنفهِ، ليُعالجَ نقصَ الأوكسجين في دمهِ، وكلما وضعتُ الأنبوبَ لهُ؛ جذبهُ بعيدًا، وطوَّحهُ عن وجههِ، يفتحُ عينيه وكأنهُ يلوموني على ما أحاوله معهُ، وأتخيل حشرجةَ صوتهِ تقول لي:
- قد أزفَ الرَّحيل، فلا تحاول!.

أتظاهرُ أنَّي أُصلح جهازَ المحلول الواصل من حاملٍ حديديٍّ بجوار سريرهِ، إلى ذراعهِ الأيمن، الممدودِ إلى جوارهِ، أحسبُ عدد القطراتِ التي تمر في الجهازِ كل دقيقةٍ، أحيانًا أُزيدُ من سرعتها، وأحيانًا لا.

كانَ اليوم هو الخميس، عندما دخلتْ ندى إلى حجرةِ جدها، وقفتْ بجوارِ سريره، تنظرُ إليهِ، لم يداعبها كعادتهِ، وضعت يدها على يدهِ، لم يلتفت لها، قفزت الدموع من عينيها، ورأيتُ الألمَ يعتصرُ روحها، وهمستْ بصوتها العذبِ:
- ألف سلامة عليك يا جدي.

كانت نبراتُ صوتها، وطريقتها في تقطيع الكلمة إلى حروفٍ، يشعل في قلبي حريقًا، خرجتْ ندى من الحجرة، تبعتها إلى الصالةِ، وطلبتُ من أخي أن يُحضرَ طبيبًا آخر، لرؤية والدنا، ومناظرة حالتهِ.

بعد قليلٍ عاد أخي وفي رفقتهِ طبيب أبيض البشرة، طويل القامة ونحيفٌ جدًا، يرتدي نظَّارةً طبيةً أنيقة، ويحمل حقيبته في خفَّةٍ ورشاقة، جلس إلى جوار والدي، وراح يفحصهُ فحصًا دقيقًا، ثمَّ أخبرني:
- لابد من نقلهِ إلى العناية المركزة.

سألتهُ:
- ما نسبة الشفاء؟

أشاح بوجهه عنِّي:
- الأعمارُ بيد الله!.

فهمتُ ما يقصدهُ، فقلتُ لهُ:
- اكتبْ كلَّ ما يحتاجهُ والدي، وسوف أوفرهُ لهُ في المنزل.

كتبَ الطبيبُ وصفتهُ الطبية، كانتْ أطول من المعتادِ، فقد احتوتْ على أكثر من عشرة أصنافٍ من الأدوية، وخطَّ لائحةً طويلةً من الفحوصاتِ والأشعاتِ، سلَّمني إياها، وهو يقولُ:
- يوم السبت إنشاء الله، نعمل الفحوصات والتحاليل.

شكرتُهُ على أمانتهِ معي، وأثناء وداعي لهُ، لمحتُ ندى بجوار الباب، تتلصص علينا، وتنصتُ للكلامِ بكل اهتمام، وقد تغيَّرَ لونها، فشحبتْ شحوبًا شديدًا، وهرعتْ إلى حجرةِ جدها، وفي هدوءٍ أقبلتْ على يدهِ تُقبِّلُها، وتبلِّلُها بدموعها الغزيرة، وتقولُ:
- ألف سلامة عليك يا جدي.

لم أتمالك نفسي أمام بكاء ندى، ندى بنتُ الخامسة، تتحرك كأنها فتاةً ناضجةً، تعي ما يدورُ، وتفهم ما خلف الكلمات المبهمة والإشارات اللفظيةِ المؤلمةِ من معنى، أمسكتها من يدها، وأخرجتها من الحجرةِ، وأنا أقول:
- ادخلي غرفتك يا ندى.

جلستُ قبالةَ والدي وسكرةُ الموتِ قد اشتدَّتْ عليهِ، شعرتُ بالضآلةِ والهزيمةِ وقلة الحيلة، وسألتُ نفسي:
- ماذا أفعل؟!

لم يمهلني الموتُ الوقتَ طويلاً، فقد زفر والدي زفرتهُ الأخيرة، وأسلمت روحهُ نفسها لبارئها.

أخبرتُ أخي بالأمرِ، وأغلقتُ بابَ الحجرةِ على والدي، ورحنا نستعد لتجهيزه للدفن.

كُنا نسابقُ الزمنَ، ليُدفنَ بعد صلاةِ الجمعةِ، وبعد أن رتَّبنا كلَّ الإجراءات، وجهزنا كل ما يلزمنا لمراسم الدفن من تجهيزاتٍ، دخلتُ إلى حجرتي، أستعيدُ ذكرياتي مع والدي، فهاج بيَ الشوقُ وهاجمني ألمُ الفراقِ، فأجهشتُ بالبكاءِ، ولم ألاحظ دخول ندى عليَّ، وضعتْ نفسها أمام ناظريَّ فجأةً، وسألتني:
- هل ماتَ جدي؟، هل ستضعهُ تحت الترابِ؟

لمْ ألحظ اللهجةَ العدائية في كلامها، ولم أشعر بنبرة الاتهام في سؤالها، فقد كنتُ مشغولاً بذكرياتي وهمومي، فأجبتها بعفوية:
- نعم، سندفنهُ غدًا بعد صلاةِ الجمعة.

ضربتني على رأسي بيدها الصغيرة وهربتْ من أمامي، انتظرتُ قليلاً حتى تملَّكتُ نفسي وحكمتُ بكائي، فخرجتُ أبحثُ عنها في البيتِ، فوجدتها في حجرة المعيشةِ، قد جلستْ على المقعدِ، وقد رفعتْ ساقيها إلى صدرها، ووضعتْ مرفقيها على ركبتيها، وحملتْ رأسها بين يديها، وقميصها الأزرق يتدلى على جنبيها، وخلف المقعدِ على الحائطِ وراءها، كانتْ صورةً في بروازها الخشبيِّ، لرجلٍ قد جاوز الخمسين، مقصوص الشارب، حليق الذقن، لهُ عينان سوداوان، كانت صورة والدي منذ ثلاثين عامًا.

وقفتُ أمام ندى في حيرةٍ وارتباك، وصوتُ أنينها يدهس قلبي، ويمحو ذاكرتي، كحبَّاتٍ من المطرِ سقطت على زجاجٍ متربٍ، فتركتهُ نظيفًا، نظيفا.

تحسَّستُ يدها بيديَّ، وسألتها:
- ما بكِ يا ندى؟

جاءني صوتها بعيدًا، كأنهُ يخرجُ من بئرٍ عميقٍ، أو كأنهُ يأتي من خارجِ الزمنِ:
- لماذا يا أبي؟....لماذا قتلتَ جدي؟.




السيد عبد الله سالم
المنوفية – مصر
12 أغسطس 2015



#السيد_عبد_الله_سالم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سبع ليال
- أقنعة الأشباح في آخر الممر
- تلك قصيدة ماريانا
- ناحت اليمامات
- الحرف مشكاة
- وحدنا كنا
- حدثتني بالذي كانت
- هون عليك
- تخدير
- فرَّتْ أرقامُ الصفحاتِ
- معجم الفروق اللغوية
- سهل الطينة
- الطيف الذي كان
- الفاتحة أول الغيث الكريم
- لقصيدتنا وطن وشعور
- حينها كنا
- مرجان البحر
- خصيان القصر
- عصفور تحت الكاب
- الخطوط السوداء تبتكر طريقًا في عتمة النهر


المزيد.....




- وصف مصر: كنز نابليون العلمي الذي كشف أسرار الفراعنة
- سوريا.. انتفاضة طلابية و-جلسة سرية- في المعهد العالي للفنون ...
- العراق.. نقابة الفنانين تتخذ عدة إجراءات ضد فنانة شهيرة بينه ...
- إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025 ...
- بينالي الفنون الإسلامية : مخطوطات نادرة في منتدى المدار
- ذكريات عمّان على الجدران.. أكثر من ألف -آرمة- تؤرخ نشأة مجتم ...
- سباق سيارات بين صخور العلا بالسعودية؟ فنانة تتخيل كيف سيبدو ...
- معرض 1-54 في مراكش: منصة عالمية للفنانين الأفارقة
- الكويتية نجمة إدريس تفوز بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربي ...
- -نيويورك تايمز-: تغير موقف الولايات المتحدة تجاه أوروبا يشبه ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السيد عبد الله سالم - يوم أن مات أبي