|
أقساط غير مريحة
أحمد هيهات
الحوار المتمدن-العدد: 5168 - 2016 / 5 / 20 - 02:34
المحور:
الادب والفن
أقساط غير مريحة غالَبَ بكثير من الصبر والجهد الأرقَ الذي لازمه هذه الأيام الأخيرة بسبب الشقاء الذي يحس به ، فكلما قارن نفسه بالناس ونظر إليهم وجد الابتسامة تعلو شفاههم والسعادة تُحلِّي أيامهم ، فيجد نفسه دائما محاصرا بالسؤال المؤرق : لماذا لا أستطيع أن أكون سعيدا ؟ لماذا لا تطاوعني عضلات وجهي المشدودة عندما أرغب في الابتسامة ؟ رغم أني أبذل في سبيل ذلك ما يفوق طاقتي ، فلا أجد أمامي إلا أن أراجع أرشيف ذكرياتي لعلي أستحضر بعض اللحظات السعيدة التي من شأنها أن تضخ في خزّان وجهي ما يكفي من الدم لتحريك عضلاته الكسولة التي لا تستجيب لرغباتي الواعية وإنما ترُدُّ بالتشدد الذي ينعكس تقطيبا على الجبين . وعندما يستبد به اليأس وتعوزه الحيلة وتعييه المحاولة يستسلم للتجهم القاتل من جديد قبل أن يتدخل النوم الذي يغشاه بالأمَنة والرحمة مدة غير مديدة ولكنها على كل حال تمنحه ما يشبه استراحة المحارب ، ثم يستيقظ فجأة وكأن هاتفا قريبا يناديه أن كفاك نوما وهربا إلى عالم الحلم الوردي الذي تتحكم فيه بإرادتك ، وتشكله كما يشكل الطفل الطموح عالمه البريء بالصورة التي يشاء والتي لا يشوبها الشقاء . فتح عينيه المنتفختين المحاطتين بهالة زرقاء من قلة النوم دونما عناء وكأنه لم يكن نائما ، فارتسمت في حدقتي عينيه صورة خزانة الملابس ذات اللون البني اللامع ، تلك الخزانة التي حرمته المرور من الطريق المختصرة التي كان يعبرها بسرعة كخائف مذعور يبحث لنفسه عن غيابات جب عميقة يتوارى فيها ، من أجل العودة إلى شقته الصغيرة التي لم يتمم بعد أداء أقساطها الشهرية ، فقد كان يتحمل طول المسافة وعناء المشي على أن يواجه صاحب متجر الأثاث الذي باعه الخزانة البنية بالتقسيط المريح لمدة سنة بكاملها ، والتي انقضت منذ ستة أشهر وهو لم يسدد بعد ثلث الأقساط التي في ذمته . فقد أصبح يكره رؤية صاحب المتجر الذي أصبح فجأة فظا غليظا بعد أن كان حليما سمحا متفهما ، كما تعب ومل سماع الأسطوانة التي لا يمل صاحب المتجر يعيدها ويكررها حول الثقة التي فقدها في صديقه القديم ،وإحساسه بالخديعة وتفكيره في اللجوء إلى القضاء لإنصافه وتقديم "الشيك" الذي استلمه من صاحبه أثناء معاملة البيع ، فكان عبد الكريم يكتفي بطأطأة رأسه كقطة حاولت سرقة قطعة لحم ، فنالت ضربة على رأسها فغضت بصرها وأمالت رأسها إلى الأرض غير متبرمة لأنها تدرك أنها قد نالت ما تستحق . استمر عبد الكريم ممددا على سريره منغمسا في تفكيره ، دون أن ينتبه إلى وجود زوجته إلى جانبه من عدمه ، ثم أمال رأسه إلى الجهة الأخرى لعله يتخلص من الأفكار المقلقة التي تلاحقه بسبب هذه الخزانة المشؤومة ، فاستقر بصره على مفتاح السيارة التي لطالما حلم بامتلاكها منذ صغره إلى جانب حلمه الآخر المتمثل في حصول الأسرة على تلفاز جديد كبير بالألوان للانعتاق من رحمة ذلك التلفاز الصغير بالأبيض والأسود والذي قضى أكثر من نصف مدة حياته الأخيرة معطلا بسبب طول المفاوضات بين الإخوة من أجل إقناع أصغرهم بتوسل الأب للمرة الخامسة أو السادسة خلال السنة من أجل إصلاح التلفاز مرة أخرى . دفعه حلمه بالحصول على السيارة في صغره إلى إدمان الجلوس على قارعة الطريق الرئيسية التي تمر قرب قريته التي نشأ وترعرع فيها ، فكان يقضي الساعات الطوال قرب قنوات السقي الاصطناعية بعد الاكتفاء من السباحة فيها ، وذلك من أجل التمتع بمراقبة السيارات الكثيرة التي تمر بسرعة أمام عينيه ، حتى عرف وحفظ أغلب أسماء ماركاتها وبدأ يفاضل بينها ، ومن يوم إلى آخر يتغير رأيه في السيارة التي تستحوذ على تفكيره وتستأثر باهتمامه فاليوم " Volkswagen" وغدا "Mercedes" وبعده "RONEU" دون أن يسقر على رأي نهائي . فجأة وجد نفسه قد امتلك سيارة من نوع "Fiat Uno" بعد أن اقترح عليه أخوه أن يبيعه إياها بالتقسيط المريح ، فيكفيه أن يقدم عشرة آلاف درهم ، والباقي على أقساط مريحة من اختياره ، على ألا تتجاوز مدة السداد السنتين ، اضطر إلى قبول الاقتراح تحت ضغط الأسرة والحلم القديم والمعاناة المادية والمعنوية التي يكابدها كلما اضطر إلى سفر قصير في اتجاه عائلته في الأعياد الدينية والمناسبات العائلية والحالات الطارئة ، فقد كان مضطرا إلى استقلال سيارة أجرة صغير للوصول إلى محطة سيارات الأجرة الكبيرة ، وبعد الوصول إلى تخوم القرية يجد نفسه مرغما على السير المتعب مئات الأمتار بسبب ثقل ما يحمله من واجب الزيارة أو بعض الهدايا البسيطة . وقد كانت المعاناة أكبر ووقعها أشد عندما يتعلق الأمر بالسفر الطويل لزيارة عائلة زوجته ، وذلك بسبب تضاعف ثقل أحمال السفر ، وجرأة عمال محطة الحافلات على إرغام المسافرين ذوي الأحمال الثقيلة على ركوب حافلات بعينها من خلال اختطاف الحقائب والعدو بها إلى صناديق الحافلات ، وجرأتهم على الكذب بخصوص ساعة السفر ووقت خروج الحافلات من المحطة ، فجوابهم واحد هو أن الحافلة ستخرج الآن أو بعد قليل وهم يعنون بذلك في غالب الأحيان بعد ساعة أو يزيد . أحس بالارتياح بعد امتلاك السيارة مدة قصيرة إذ تخلص من مجموعة من المشاكل ، ولكنه فوجئ قبل الموعد المنتظر بأخيه يستعجله في دفع ما تبقى في ذمته ، لأنه مضطر إلى دفع مبلغ كبير إلى أحد وسطاء الهجرة غير الشرعية إلى إحدى البلدان الأوروبية ، فطلب عبد الكريم من أخيه مهلة قصيرة من أجل تدبير المبلغ ، ولكنه أمام كثرة الأقساط التي في ذمته لم يستطع تأمين المبلغ المطلوب ، فبدأت تقل زياراته إلى عائلته ،كما بدأت تقصر ، خوفا من الحوارات التي قد تستدعي الحديث عن السيارة ومن خلاله الحديث عن القسط المتبقي . أعياه الانتقال من موضوع إلى آخر ، ومن فاتورة إلى أخرى دون أن يبدو له بصيص أمل في الخروج من متاهة الأقساط التي لم تعد مريحة بل أصبحت مرهقة ، فغطى رأسه وأحاط عينيه المفتوحتين بظلام دامس حتى لا يرى مؤشرا جديدا على فاتورة أخرى تنتظر دورها في السداد ،ثم وحاول من جديد العودة إلى النوم وركوب قطار الأحلام من أجل السفر إلى عالم يستطيع فيه تسديد الأقساط التي قصمت ظهره ونغصت عليه حياته ، والهروب من الكوابيس المخيفة للواقع الشائه الذي لا يهمل ولا يمهل . قصة قصيرة (19-05-2016) أحمد هيهات
#أحمد_هيهات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطائرة الحقيقية
-
من البيت الأحمر إلى البيت الابيض - البوصلة التائهة -
-
القلوب الباردة (قصة قصيرة)
-
مثلث البيتزا
-
كواليس الذاكرة
-
النساء أجمل وأكرم وأقوى
-
الشذوذ في الشعر العربي : انحراف أم ثورة ؟
-
إكسير السعادة
-
مكر النهايات
-
القطعة
-
الإبداع الفني بين الآلهة والشياطين
-
فائدة الإبداع بين أفلاطون وأرسطو
-
نظرات في فكر الكواكبي
-
عودة المجاهد -الارهابي- محمد بن عبد الكريم الخطابي
-
مظاهر الاحتفال بعاشوراء : محاولة في فهم وتفسير أصولها
-
النظام العلوي الأسدي من الشروق إلى المغيب
-
مأساة الحج بين الموقف الإنساني والتوظيف السياسي
-
التعليم المغربي في غرفة العمليات من جديد
-
أريد أن أصوت ولكن .. حلفت ألا أبيع الدين بالتين
-
الانتخابات المغربية : لا جديد يذكر
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|