ثامر عباس
الحوار المتمدن-العدد: 5165 - 2016 / 5 / 17 - 18:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
غربلة الذاكرة التاريخية : قيود الماضي .. وحدود المستقبل
(( في المجتمعات القديمة المسماة (تاريخية) والتي أركست في مضمار التطور الحضاري ، غالبا"ما يؤطر الماضي معطيات الحاضر ، مثلما يؤثر في توقعات المستقبل ، بحيث يصبح الأول رجع صدى مجيش ، ويصبح الثاني أفق مدى مشوش ))
نحن لا نتحدث هنا عن (الذاكرة التاريخية) للشعوب بالمطلق ، كما لا نعني بالماضي أو المستقبل ذاك الذي يعود لجميع الأمم بلا تعيين . انما المقصود في موضوعنا هنا هي الذاكرة (العراقية) تحديدا"، مثلما ان المستهدف بالماضي والمستقبل هما ماض المجتمع العراقي ومستقبله على وجه الخصوص . ولعل سبب هذا التخصيص والتحديد نابع من حقيقة مفادها هي ؛انه لا يوجد بين مجتامعات المعمورة قاطبة من يضارع أو يضاهي المجتمع العراقي ، ليس فقط لجهة تحكم ماضيه - بغثه وسمينه - بحاضره وما تمخض عن هذه الاشكالية من مآس وفواجع قائمة فحسب ، وانما احكام قبضته على آفاق مستقبله وما يمكن أن ينجم عنه من ويلات متوقعة أيضا". لاسيما وان للأساطير الدينية اليد الطولى في كينونة ذاكرته ، وان للخرافات الطائفية المقام المعلى في صيرورة وعيه .
والحال ليس هناك في الواقع وصفة سحرية يمكن اعتمادها والمراهنة عليها لانقاذ العراقيين من تناسل مآزقهم وتوالد محنهم ، فضلا"عن كونها تضع امامهم فرص الافلات من دومات الدمار الاجتماعي والاندثار الحضاري التي تتربص بكيانهم في كل حين . ولكن برغم ذلك فان هاذا لا يمنع البتة من استئناف المحاولات والشروع بالمبادرات ، التي من خلالها يمكن تلمس بعض الخطوات الجادة والاهتداء الى بعض السبل الواقعية ، تلك القمينة بزحزحة وتحريف مجرى هذه الأمور وتغيير مسارها باتجاهات أخرى أقل تعرجا"وأكثر انسيابية .
ولعل من ألح المهام التي يقترحها هذاالمقال ويؤكد على ضرورتها الشديدة ، هي ان يعمد جميع الأكاديميين والباحثين والكتاب العراقيين (حصرا") ، ممن لديهم بقايا شعور بالانتماء وشظايا احساس بالولاء لهذا البلد _ أرضا"وشعبا"- بان يشرعوا بتجريد حملة (تفكيكية) و(نقدية) كبرى تحت مسمى (غربلة الذاكرة التاريخية) العراقية بصورة جذرية وشاملة ، بحيث تكون حصيلتها بمثابة المرجع / الأساس الذي تبني عليه الأجيال القادمة أطر علاقاتها وأنماط تصوراتها وآفاق خياراتها . أي بمعنى ان هدف هذه الحملة لن يكون على غرار ما جاء بالحملات السابقة المسماة (اعادة كتابة التاريخ) ، والتي غالبا"ما جرت تحت رعاية الدولة وبأشراف مباشر من السلطة ووفقا"لأهواء الحاكم ،حيث يتم الحذف هنا والاضافة هناك ، والتقديم هنا والتأخير هناك ، والتحوير هنا والتغيير هناك ، التلميع هنا والترقيع هناك ، والتبخيس هنا والتدليس هناك . علما"ان كل ما جرى كان من ذات المادة التاريخية التقليدية المفبركة التي سبق حفظها وتداولها على مدى قرون من التجهيل والتضليل . هذا بينما المطلوب من عملية (الغربلة) المقترحة ليس فقط الاكتفاء بطرح منظومات الوعي وأنماط المخيال وبنيات الذاكرة ، أمام موضوعية النقد ونزاهة المساءلة من خلال تفكيك عناصرها وتشريح مكوناتها وتحليل دينامياتها ؛ لاستئصال الأوهام العالقة فيها ، واستبعاد الأساطير المتشبثة بها ، وازاحة الخرافات المتطفلة عليها فحسب ، بل وكذلك العمل على ترميم الصدوع في الذهنيات ، ورتق التمزق في العلاقت ، ومعالجة الندوب في الذاكرات ، وتجسير التقطع في التمثلات ، وملئ الفراغ في السرديات ، التي طالما حفلت بها النصوص التراثية وأكدت عليها المقررات المدرسية - التعليمية .
ولعل عبء هذه المهمة الجسيمة سيقع - بالتأكيد - على هاكل الجيل الحالي من المؤرخين والانثروبولوجيين والسوسيولوجيين والسيكولوجيين ، الذين لحسن حظهم - أم لعله من سوءه لا أدري ! - انهم لم يصطدموا بسلطة قمعية تفرض عليهم خيارات معرفية ومنهجية معينة تتفق والخطوط العامة لسياسات الدولة وتوجهاتها . خلا تلك التي ألزموا أنفسهم بمراعاتها تحت بنود الانتماءات القومية / الاثنية ، أو الولاءات الدينية / الطائفية ، أو الالتزامات السياسية / الايديولوجية كما يمكن لنا رصده وتشخيصه لدى بعض الأتباع من (الأكاديميين) الذين آثروا الانغماس بالصراعات الحزبية والانخراط بالتكتلات القبلية ، على حساب مكانتهم العلمية وسمعتهم الأخلاقية وتوجهاتهم الوطنية .
والحقيقة ان عملية (الغربلة) هذه لا تتطلب فقط من المكلفين بها والقائمين عليها؛ التجرد من نوازع أصولهم التحتية ، والتحرر من خلفياتهم الثقافية الفرعية ، والزهد بمنافع اصطفافاتهم الفئوية الهامشية ، لضمان نزاهة المواقف وموضوعية التحليلات فحسب ، وانما - وهو المهم - التحلي بروح الشجاعة العلمية والجرأة المعرفية ، ليس فقط لأجل قول ما يرى انه صحيح وكتابة ما يعتقد انه واقعي فحسب ، بل وكذلك لكشف المستور عن كل ما يشك انه محرمات دينية / مذهبية حتى وان قاربت الهرطقة (وهنا يحضرنا نموذج المفكر الاسلامي العراقي أحمد القبانجي) ، واماطة اللثام عن جميع عن جميع ما كان يظن انه ممنوعات تاريخية / اجتماعية حتى وان شارفت على الفضيحة ( وهنا يحضرنا نموذج العالم الاجتماعي العراقي الراحل علي الوردي) .
وكما هو الحال دائما"مع كل فكرة أو مبادرة جديدة تقترب من المناطق الرخوة والحساسة في المخيال الجمعي ، فالمتوقع ان الدعوة الى (الغربلة) ستواجه بعاصفة من (الاعتراضات) على جبهة الرؤى المعرفية - وهذا دليل عافية - من جهة ، و(الاتهامات) على جبهة التصورات الايديولوجية - وهذا مؤشر سقم - من جهة أخرى . على اعتبار ان عمل من هذا النوع قمين بتعريض موروثنا التاريخي والديني الى التبخيس في الحالة الأولى والى التدنيس في الحالة الثانية ، لاسيما وان تاريخ الفكر العربي والاسلامي يشهد على امتداد ألف وأربعمائة سنة ، لا يعدو أن يكون اختصارا"وتكثيفا"لقضايا الصراع الأزلي بين تيارات التجديد الديني والاجتهاد العقلي من جهة ، وبين تيارات التقليد المذهبي والمحافظة الذهنية من جهة أخرى .
واذا كان من الضروري الحديث عن الهزائم التي يمكن أن يمنى بها (التاريخ) المؤمثل والخسائر التي يتوقع أن يتحمل عواقبها (الدين) المؤسطر ، جراء مثل هذا المسعى النقدي التفكيكي ، فان الهزيمة أو الخسارة الوحيدة المنتظرة والمتوقعة ، التي يمكن أن تستدر مشاعر السخط المصطنع ومظاهر التباكي الكاذب ، ما هي في حقيقة الأمر سوى ؛ الانعتاق من قيود الماضي الذهنية والرمزية التي لم تبرح تكبل ارادة الانسان العراقي وتغل وعيه وتعطل قدرته ، حيال تطلعه نحو آفاق المستقبل الذي طالما اشرأب اليه دون أمل في الخلاص من ملابسات التاريخ أو رجاء في النجاة من صراعات الدين .
وعلى هذا الأساس فان مشكلة المجتمع العراقي لا تكمن فقط في عنف السياسة وتخلف الاقتصاد - رغم المصائب التي نجمت عنهما وترتبت عليهما - انما تكمن أكثر في انحراف التاريخ وتطرف الدين . بمعنى آخر ان محنة العراقيين لا تتعلق فقط في (الواقع المعاش) وما يجري على مسرحه من انقسامات اجتماعية / طبقية ، وصراعات سياسية / حزبية ، واستقطابات جغرافية / مناطقية ، وتكتلات قبلية / عشائرية فحسب . بل وكذلك ما يتصل (بالمخيال المجيش) وما يمور في داخله من تهويمات وتبيحات خرافية ، تتمثل بما تراكم في بنى (الوعي) من وقائع وأحداث مفبركة وترسب في طمى (اللاوعي) من قصص وروايات مختلقة . ولذلك فان أية محاولة اصلاحية لا تستهدف مقدما"(الأسس) الانثروبولوجية للمكونات العراقية سيكون مصيرها الفشل ، طالما يتجنب أصحابها الخوض في غمار هذا المغطس العميق والمظلم ، من منطلق تمسكهم بالاعتقاد القاضي بان الواقع السياسيو الاجتماعي هو الذي يحدد الدافع النفسي والرمزي ويؤسس لهما . دون أن يفطنوا - ولو لمرة واحدة - الى الطبيعة المفارقة للديناميات السيوسيولوجية العراقية التي تمتاز بالفرادة والخصوصية ، لجهة ان الماضي هو الذي يحكم لحاضر ويتحكم بالمستقبل وليس العكس ، وان الأسطورة والخرافة هما من يمسك بتلابيب التاريخ ويوجهانه وليس العكس ، وان المخيال والذاكرة هما من يغذيان الوعي الجمعي ويمنحانه شهادة الشرعية وليس العكس . وهكذا كما ترى فان الجدليات السوسيولوجية - في اطار المجتمع العراقي - تعمل بشكل يكاد أن يكون مقلوبا"رأسا"على عقب ، بحيث يصعب على الباحث تتبع الاسباب واستخلاص النتائج بالاعتماد فقط على المعطيات الظاهرة والوقائع الملموسة . وهو الأمر الذي يتطلب انتهاج مقاربات معرفية مختلفة مسالك منهجية مغايرة ، تتيح لمن يروم البحث والتنقيب في رواسب ومخلفات الشخصية العراقية الرابضة في القاع السيكولوجي ، العثور على الكثير مما لم يكن بالحسبان من الكنوز المادية والرمزية التي تجلي الغموض وتفسر المبهم في تلك الشخصية الملغزة . اما اذا استمر الحال على ما هو عليه من الترقيع للعيوب تارة والتلميع للمثالب تارة ثانية ، مكتفين بردود الفعل السلبية حيال ما يطرحه الواقع الاجتماعي من اشكاليات وملابسات ، فتأكدوا اذن ان ظواهر التطرف في الذهنيات والعنف في السلوكيات والتخلف في الأخلاقيات ، ستبقى تنخر الأساسات البنيوية لهذا المجتمع المأزوم الى أن تحيله الى مجرد أطلال وخرائب .
#ثامر_عباس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟