حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 5164 - 2016 / 5 / 16 - 03:30
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفلسفة و العلوم حقل معرفي واحد. فالفلسفة كالعلوم تهدف إلى تحليل الكون لمعرفة مما يتكوّن. من هنا , يربط هذا المقال بين فلسفة الميتافيزياء و العلوم المعاصرة بغرض إيضاح التنوع في النظريات الفلسفية و العلمية و هادفا ً إلى تفسير الاختلاف الفلسفي و العلمي.
ظواهر الكون و علاقاته السببية
الميتافيزياء حقل فلسفي يدرس قضايا عديدة منها مما يتكوّن الكون و كيفية تحليل العلاقات السببية. فمثلا ً , من الممكن تحليل ظواهر الكون على أنها تتشكّل من صفات كما يفعل الفيلسوف ديفيد لويس. أما النظرية المنافسة لهذه النظرية فهي أن الكون مجموعة أحداث بدلا ً من أن يكون مجموعة صفات. من منطلق النظرية الأولى , من الممكن وصف هذه الشجرة أو تلك على أنها تتكوّن من صفات كصفة الاخضرار و صفة النمو. بالنسبة إلى هذه النظرية , الشجرة ليست سوى صفات فالشجرة مختزلة إلى صفات معينة. لكن من منظور النظرية الفلسفية الثانية , الشجرة مجموعة أحداث كحدث أنها وُلِدت و أنها تنمو على هذا النحو أو ذاك. و بذلك يتم اختزال الشجرة إلى أحداث معينة بدلا ً من صفات. و الفيلسوف دونالد ديفدسون يدافع عن هذا الموقف الفلسفي و يعتبر أن الأحداث بنيات الكون الأساسية.
( E. J. Lowe: A Survey of Metaphysics. 2002. Oxford University Press ).
كما يختلف الفلاسفة حول كيفية تحليل الكون يختلفون أيضا ً حول كيفية تحليل العلاقات السببية. فمن الممكن تحليل العلاقة السببية على أنها علاقة شرطية كما يفعل الفيلسوف ديفيد لويس. بالنسبة إلى هذه النظرية , توجد علاقة سببية بين "أ" و "ب" بحيث "أ" يسبب "ب" إذا و فقط إذا توجد علاقة شرطية بينهما بحيث إذا لم يوجد "أ" ما كان ليوجد "ب". هنا العلاقات السببية مختزلة إلى علاقات شرطية. أما نظرية منافسة لهذه النظرية فتعرِّف العلاقة السببية من خلال الاتفاق المنتظم كما يفعل الفيلسوف ديفيد هيوم. بالنسبة إلى هيوم , العلاقة السببية هي اتفاق و انتظام و معية بحيث حين توجد الأسباب توجد بعدها النتائج. و هذا مجرد تتابع للأحداث و ليس في هذا التتابع أو الانتظام أية ضرورة طبيعية فالأسباب لا تحتم وجود نتائجها ( المرجع السابق). هذا الخلاف نفسه موجود في الفلسفة الاسلامية. فبينما يؤكد الفيلسوف الغزالي في كتابه " تهافت الفلاسفة " على أن العلاقات السببية ليست حتمية , يقول الفيلسوف إبن رشد في كتابه " تهافت التهافت " إن العلاقات السببية حتمية بحيث أن الأسباب تحتم وجود نتائجها و إلا لن نتمكن من الحصول على المعرفة المعتمدة على العلاقات السببية و سنخسر معاني المفاهيم اللغوية المتشكِّلة على ضوء دلالاتها على العلاقات السببية. فإبن رشد يؤكد على أننا نعرف النتائج من خلال الأسباب المؤدية إليها و نعلم أن هذا قلم و معنى مفهوم " قلم " بفضل دوره السببي الذي يمكننا من استخدامه كأداة للكتابة. و لذلك إذا رفضنا حتمية العلاقات السببية فسنخسر المعرفة و المعاني. لكن بالنسبة إلى الغزالي , نحن لا نرى سوى ظهور أحداث بعد وجود أحداث أخرى و لذلك لا نستطيع بحق أن نستنتج أن الأحداث الأولى نتائج حتمية لوجود أحداث أخرى قبلها. في فلسفة الغزالي , الله يمكن الأسباب من أن تؤدي إلى نتائجها و بذلك الله يخلق المعرفة فينا متى تحققت شروط تحقق المعرفة كشرط الاعتقاد الصادق و المُبرهَن عليه و المُسبَّب من قبل الحقائق بفضل الله.
النظريات العلمية
تتنوع النظريات العلمية و تتصارع رغم نجاحاتها في تحليل الكون و الوجود تماما ً كما تتنوع النظريات الفلسفية. فمثلا ً , يقدِّم الفيزيائي ماكس تغمارك نموذجا ً علميا ً فريدا ً في كيفية وصف الكون و تفسيره فيقول إن الكون المادي ليس موجودا ً بالفعل بل الكون بنية رياضية مجردة. هكذا يختفي العالم المادي ليحل مكانه عالم الرياضيات المجرَّد. يطرح تغمارك السؤال التالي: لماذا الرياضيات ناجحة في وصف عالمنا؟ و يجيب قائلا ً إن الرياضيات ناجحة في وصف الكون لأن الواقع الفيزيائي ليس سوى بنية رياضية. أما برهانه على صدق فرضيته العلمية فهو التالي: كل الصفات الفيزيائية لأي جُسيم كالإلكترون من الممكن بحق وصفها رياضيا ً. و بذلك أي جُسيم فيزيائي هو في الحقيقة بنية رياضية. من هنا, كل الكون ليس سوى بنية رياضية. لكن البنية الرياضية هي مجموعة عناصر مجردة ترتبط فيما بينها بعلاقات مجردة كعلاقات الجمع و الضرب. هكذا يختزل تغمارك العالم المادي إلى عالم رياضي فتزول المادة و يسيطر الكون المجرد.
( Max Tegmark : Our Mathematical Universe. 2014. Knopf )
هذا النموذج العلمي ليس سوى فرضية علمية أخرى تضاف إلى النماذج العلمية الناجحة في وصف الكون و تفسيره. بالنسبة إلى النموذج العلمي الأول ألا و هو النموذج الكلاسيكي , العالم يتكوّن من مواد و طاقاتها ؛ فالكون ذرات مادية تتشكّل من جُسيمات كالإلكترونات و العلاقات فيما بينها. أما نموذج علمي ثان ٍ فيصر على أن العالم أوتار و أنغامها. فالمواد و طاقاتها تختلف مع اختلاف تذبذب الأوتار , و بذلك الكون سيمفونية موسيقية. و من منطلق نموذج علمي ثالث , العالم مجموعة معلومات فكل المواد و الأحداث و العلاقات فيما بينها مُختزَلة إلى معلومات و عمليات تبادل للمعلومات كما يؤكد الفيزيائي بول ديفيز.
(Paul Davies and Niels Gregersen (Editors): Information and the Nature of Reality. 2010. Cambridge University Press)
لكن من منظور نموذج علمي رابع , الكون كمبيوتر متطور يحسب المعلومات المتجلية في الموجودات كافة كما يؤكد عالِم الهندسة الكمية سيث لويد. من جهة أخرى , يعتبر نموذج علمي خامس أن العالم مجرد وهم ؛ فمعلومات الكون موجودة على سطح العالم بدلا ً من أن تكون موزّعة داخله ما يشير إلى وهمية ما نراه من وجود. و هذا ما يصر عليه الفيزيائي ليونارد سسكيند. أما الفرضية الرياضية فهي نموذج علمي سادس يرى أن الكون بنيات رياضية مجردة. هكذا من الممكن الانطلاق من عالم مادي إلى عالم أكثر تجريداً يتصف بأنه موسيقى أو معلومات حتى نصل إلى عالم محض مجرد ألا و هو الكون كبنية رياضية لكي نصل أخيرا ً إلى عالم وهمي فتكتمل عملية تصاعد التجريد العلمي.
(Seth Lloyd: Programming the Universe: 2007. Vintage Books. & Leonard Susskind: The Black Hole War. 2009. Little, Brown and Company)
تفسير الاختلاف و حل الخلاف
هذا التنوع في النظريات الفلسفية و العلمية يدل على أن الكون غير مُحدَّد كما تؤكد فلسفة السوبر حداثة. فبما أنه من الممكن بنجاح وصف الكون و تفسيره من خلال نظريات فلسفية و علمية مختلفة كالنظريات السابقة, إذن الكون غير مُحدَّد ما هو. لو كان الكون مُحدَّداً حينها لنجحت نظرية واحدة في وصفه و تفسيره. من هنا, لامحددية الكون تفسِّر لماذا تنجح النماذج العلمية و الفلسفية المتنوعة و المتنافسة في وصف عالمنا. فبما أن الكون غير مُحدَّد , إذن من الطبيعي أن ننجح في وصفه من خلال نظريات علمية و فلسفية مختلفة. و لذلك كل النماذج المعرفية في العلم و الفلسفة تصبح مقبولة رغم اختلافها لكونها ناجحة في وصف و تفسير وجه من وجوه الحقيقة الواحدة. و بذلك ننجح في حل الخلاف المعرفي. فكل حقيقة تتكوّن من حقائق عديدة. لذا من الممكن بحق وصف الحقيقة ذاتها بطُرُق متنوعة. لذلك من غير المستغرب أن تنجح النماذج العلمية و الفلسفية المختلفة في تفسير عالمنا و وصفه.
من منظور السوبر حداثة , الكون بكافة ظواهره غير مُحدَّد ما هو , و لذا من المتوقع نجاح وصفه و تفسيره على أنه مادي أو معلوماتي أو سمفونية موسيقية أو بنية رياضية أو مجرد وهم مخادع كما تفعل النظريات العلمية. هكذا تفسِّر السوبر حداثة نجاح النظريات العلمية رغم اختلافها. من المنظور نفسه , بما أن الكون غير مُحدَّد , إذن من الطبيعي نجاح وصفه و تفسيره على أنه مجموعة صفات أو مجموعة أحداث كما من المتوقع نجاح تحليل العلاقات السببية على أنها علاقات شرطية أو على أنها مجرد انتظام و اتفاق و معية. هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير لماذا النظريات الفلسفية المختلفة لديها نجاحاتها رغم الاختلاف فيما بينها. فكل نظرية فلسفية تملك نجاحها الخاص رغم تعارضها مع النظريات الفلسفية الأخرى لأن الكون في حد ذاته غير مُحدَّد ما هو ما يمكننا من وصفه و تفسيره من خلال نظريات فلسفية مختلفة. من المنطلق نفسه , تعتبر السوبر حداثة أنه من غير المُحدَّد ما هي العلاقات السببية و لذا ننجح في تحليلها بطرُق مختلفة. فمثلا ً بالنسبة إلى النظرية النسبية لأينشتاين , الأسباب تحتم نتائجها بينما بالنسبة إلى ميكانيكا الكم الأسباب لا تحتم نتائجها بل العلاقة بين الأسباب و النتائج علاقة احتمالية. لكن نظرية أينشتاين و ميكانيكا الكم نظريتان ناجحتان في وصف و تحليل العلاقات السببية بسبب نجاحهما في وصف و تفسير الكون رغم تعارضهما. من هنا من غير المُحدَّد ما هي العلاقات السببية تماما ً كما أنه من غير المُحدَّد ما إذا كانت الأسباب تحتم نتائجها أم لا و إلا لنجحت نظرية واحدة منهما بدلا ً من النظريتين معا ً.
بالنسبة إلى السوبر حداثة , رغم أن الكون غير مُحدَّد من الممكن معرفته. فلا محددية الكون تمكننا مثلا ً من تفسير لماذا تنجح النظريات الفلسفية و العلمية في وصف و تفسير الكون رغم التعارض فيما بينها. و بذلك لا محددية الكون تمكننا من الحصول على المعرفة كمعرفة لماذا تنجح النظريات رغم اختلافها. هكذا تجمع السوبر حداثة بين لا محددية الكون و إمكانية معرفته فتتخطى الحداثة التي تؤكد على محددية الكون و إمكانية معرفته كما تتخطى ما بعد الحداثة التي تصر على لا محددية الكون و عدم إمكانية معرفته.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟