|
إشكاليات المثقف النخبوي
كاظم الواسطي
الحوار المتمدن-العدد: 1393 - 2005 / 12 / 8 - 07:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تميز دور المثقف العربي ، في العهود السابقة ، بالاشتغال على مفاهيم ومقولات ومسبقات فكرية ، اختزلت وجوده كداعية ، وناطق باسم الحقيقة أو الأمة ، والمدافع الذي لا يقبل لومة لائم عن تراثها ، الذي أراد له ، هذا المثقف ، أن يبقى محفوظا كما هو في ذاكرته المغلقة ، وعن قيمها ، التي أراد لها أن تبقى (خالدة)في أحكام التاريخ ، وصالحة لكل الأزمنة والدهور . وقد أعطى هذا المثقف لنفسه الحق المطلق في تفسير تراث وتاريخ الأمة بالشكل الذي يجعل من حاضره منتفخا بالمنجز الجاهز ، الذي لم ولن يوجد نظيرا له في مساحات الأرض الأخرى . وبهذا الاحتفاء اليوتوبي المجرّد يُسعد المثقف النخبوي ذاته البائسة بنرجسية واهمة ، وزائفة . إن هذا الاحتفاء اليوتوبي ، يضخم عاطفة التعالي على الوقائع والمتغيرات التي تحدث من حوله ، والنظر إليها من عدسة أفكاره المضببة بصور الماضي ، وإنجاز الأسلاف . وهذا ما يجعل مفاهيمه ، ومقولاته التي يحاول فرض تداولها في المجتمع ، ذات تأثير سلبي على الفعالية الثقافية والفكرية ، التي تنمو وتتطور بالإبداع والابتكار، وتحديث سلوكيات الأفراد . إن الثقافة النخبوية تنتج مكوناتها الرمزية والمادية وسط شريحة أو فئة اجتماعية ،تتناغم مصالحها مع المفاهيم والأفكار التي تحافظ على خزائن الوهم في عقولها ، مادامها لا تضر بكنوز المال التي تتربع عليها . إن ثقافة معزولة ، لا تعمل على فكرة الانتشار والتبادل أو الاغتناء بمتغيرات الحدث ، ومواجهة مفاجآت ما سوف يحدث ، تُبقي المجتمع في دائرة المراوحة ، والتراجع المستمر إلى الحد الذي يكون فيه الانكفاء والعجز أو الفوضى والعنف من المكونات الأساسية لهذا المجتمع . إن المثقف النخبوي ، الذي تتعارض مفاهيمه الأحادية المغلقة ، وتعترض على أية قدرة أو محاولة لتوليد أدوات عمل وابتكار وسائل فكر جديدة تنشّط غرائز الحياة ، يمهد الطريق لتوالد خلايا الفكر الأصولي ، وتخصيب ثقافة النبذ والإقصاء للآخر ، وكراهية المختلف . لقد أنتجت تلك الثقافة دعاة وعقائديين وسياسيين ، يمتازون بنرجسية عالية ، وتعالٍ لا يسمح لهم بقبول النقد من الآخر ، ولا يسمح للآخر بالاختلاف عما يفكرون به . بل يقومون بمهاجمة الآخر ،من أية جهة كان، وتشويه صورته ، بكل الوسائل المتاحة والمبتكرة، إذا ما حاول النظر بزاوية مختلفة إلى مشاريعم وأفكارهم ، التي منحوها الحق المطلق بتمثيل الحقيقة ، وتجسيد طموحات الأمة التاريخية . وقد وجد سياسيو مجتمعاتنا العربية ، في تلك المشاريع والأفكار ، حاضنة لمنازعهم في التسلط الفردي ، والتعامل مع الجمهور بتراتبية تبيح تهم الجلوس على قمة الهرم الاجتماعي . بل اعتبروا الجمهور مجرّد (كتلة عمياء) يمكن التدخل بحرية في تكوينها بالشكل الذي يريدون . ووجدوا في عماء الفكر النخبوي ، وانغلاق الثقافة النخبوية على مجموعة من المسّلمات والأنساق المحفوظة في ذاكرة التراث ، حجة لقناعاتهم الكسولة بواقع الحال ، كما هو ، بدون رغبة في التغيير أو محاولة لتفهم ما يحدث من حولهم . لأن مثل هذا الأمر ، يتطلب جهدا مغايرا ، وزحزحة لتلك القناعات . ووصل الأمر إلى أن الكثير منا مازال خاضعا لسحر تلك الثقافة ، باعتبار العمل الجيد ، في أيّ حقل من حقول المعرفة أو السلوك الاجتماعي ، نخبويا بامتياز التعالي على غيره . لقد ساهم المثقف النخبوي ، بمشاريعه النظرية المجرّدة ومقولاته العقائدية المغلقة ، في خلق الفجوات الاجتماعية ، والتباين الثقافي في المجتمع ،عبر عزل النشاطات الأخرى واعتبارها دون مستوى مشروعه اليوتوبي الوحيد ، الصالح لكل أزمنة التاريخ وفئات المجتمع . إن أغلب المشاريع الثقافية العربية ، لم تستطع تجاوز حدود هذا المشروع . وظلت ، رغم تباين أشكالها وتفاوت أزمنتها ، امتدادا له ، وإحياء لجوهره الخالص ، الذي لا غبار على نقاوته الحضارية . كما لو أن العالم كله قد خرج من محارتنا الذهبية ، وليس لأحد الحق ، بعد ذلك ، في أن يدعي له ثقافة أو حضارة تميزه ، أو يمكن أن تكون مفيدة لنا ، نحن المصنوعين من ماء الذهب ، المحفوظ في الأبدية . فكيف يكون ، والحال هذه بالنسبة للعالم ، موقف المثقف التخبوي من الجمهور المحلي ، أفرادا وجماعات، الذي لا يتوافق مع أفكاره ومفاهيمه . إن تجسيدات الثقافة النخبوية ، متمثلة بدعاة الفكر الرسالي ، من قوميين (علمانيين ) وسلفيين يدعون تمثيل الإسلام الأول ، قد بينت لنا بوضوح تام ، من خلال برامجهم السياسية وممارساتهم اليومية في السلطة – تجربة البعث في العراق وحكم طالبان في أفغانستان- مدى الخطر الذي تشكله نتاجات هذه الثقافة ، التي تعتمد الأصول والنصوص أو المقولات والعقائد ، مدخلا وحيدا للتعامل مع الوقائع والأحداث وتقييم ثقافة الآخر . لقد تعاملت النخب السلطوية ، في العراق وأفغانستان ، مع الجمهور المحلي كما لو أنه موجود فقط ككتلة طيّعة ، تتكون حسب ما تريده أو تدعوا إليه تلك النخب. وفي الحالات التي يظهر فيها البعض اعتراضا أو مجرد اختلاف في الرأي ، تباشر سلطة العقيدة العمياء ،فورا ،باجتثاثه وتدميره . وبهذا المعنى ، فان الجمهور في ذهن النخب الأصولية ، هو جزء من الفكرة المجرّدة التي تتماها معها ، وتتماثل حد التطابق والانصهار . إن المتغيرات السريعة ، في أدوات العمل والفكر ، التي أنتجتها ثورة المعلومات والاتصالات والإعلام ، وانتشارها الأثيري الواسع في كل بقاع الأرض ، واختراقها لسلطة الدول وحدود الجغرافيا ، قد وضعت المثقف النخبوي ، ومشروعه الثقافي اليوتوبي في خانق ضيق ، وطريق مسدود . وجعلت من دعاة ومروجي هذا المشروع الفاشلين ، مجرّد أشباح عمياء ، تتسلل بأدوات القتل لتدمير كل شيء من حولها . لأنهم يعرفون ، بحس العاجز والقاصر ، فشل ما يفكرون به واتساع الفجوة التي تفصلهم عن أشكال الحياة الجديدة . وقد يقول قائل ، كيف تفسر ، بعد كل هذا الذي قلته ، وجود الكثير من المهندسين والأطباء ومتعلمين في اختصاصات مختلفة أخرى، وممن يعيشون في الدول الغربية ، يمارسون ، ضمن مجموعات أصولية ، دور أشباح القتل أيضا . إن المفارقة الغريبة التي يعيشها هؤلاء ، بين الاستخدام اليومي لأدوات وسلع ومناهج الآخر وبين الكراهية التي يعلنوها ويثقفون بها في دعواتهم وخطاباتهم ضد هذا الآخر ، إنما تدلل على طبيعة المفاهيم والأفكار التي يحملونها ، وصيرورتها النسقية في عقولهم ، وفي ذاكرتهم الاجتماعية . إن البيئات التي اقتلعوا منها ، بسبب ضغوطات اقتصادية أو سياسية ، استمرت رموزها الاجتماعية والأخلاقية والدينية ، على حالها ، بل أشّد كثافة وعمقا في تكوين شخصياتهم داخل الأمكنة الجديدة . إن الإشكاليات الفكرية والاجتماعية التي ظهرت في حياة الأجيال الجديدة لأولئك المقتلعين من بيئاتهم الأصلية ، والتناقضات الحادة بين ثقافة عوائلهم ، التي ازدادت انغلاقا ،في بيئات شبه معزولة ، والبيئات الجديدة التي يتطلب الوجود فيها ، التكيّف ، بمواهب التبادل والمشاركة والتفاهم ، والتعاطي مع الثقافة الجديدة ، بروحية المثاقفة والاستعداد للعمل بأدوات فكرية مختلفة . وبدون ذلك ، وفي ظل سيطرة رموز ومفاهيم تغلق منافذ التفاهم مع الآخر على أرضه ، لن يكون للشهادات الجامعية ، والاختصاصات العلمية التي يحصلون عليها ، دور حاسم في تكيفهم الإيجابي مع الواقع . وإن الكثير منهم ، يجعل من تلك الشهادات والاختصاصات ، امتدادا لنرجسيتهم ، ولذواتهم الباحثة عن توازناتٍ يعيشون اختلالها اليومي . وحالما تحين لهم الفرصة ، لا يتوانون عن استخدامها في تقوية عناصر الكراهية ، أو الانتقام من الآخر وثقافته ، بنفس الأدوات التي ينتجها ، وهذا ما نراه اليوم بوضوح ، في عمل الجماعات الأصولية والإرهابية عبر استخدامها الواسع للانترنيت ، ووسائل الإعلام والاتصال الحديثة بمضامين متوحشة ، تدعوا للانتقام والقتل لكل من يختلف مع المكّون الذهني اليوتوبي لهذه الجماعات الخارجة من أنقاض التاريخ . إن الصور البشعة لعمليات الخطف والتفجير وذبح الرهائن ، التي يقوم بها الإرهابيون السلفيون في العراق ، تجسّد طبيعة الأفكار والمفاهيم التي تعشش في أذهانهم ، في ظل غياب أيّ برنامج سياسي أو اجتماعي لهم ، غير برنامج تدمير الآخر وتقويض أو تخريب أيّ محاولة لبناء حياة مستقرة وآمنة . إن أحداث 11 سبتمبر 2001 في أميركا وما حصل في أفغانستان والعراق، وما يحصل الآن من أعمال إرهابية مروّعة على صعيد عالمي ، يكشف عن الجذور الحقيقية لثقافة لم تسطع الخروج من وهمها العقائدي ، وتعالي سنابل أفكارها الفارغة . وتبين لنا وقائع الحياة في عصرنا الحالي حجم التغيرات الهائلة التي حصلت في قواه الإنتاجية والتسويقية وطرائق تبادل المعلومات وانتشارها ، بسرعة الضوء ، بين القارات . وأن مثل هذه التغيرات تعطّل أدوات ثقافة تصر على البقاء في أحكام نصوصها ، ولا تخرج إلى فضاء الحياة الجديدة ، الذي سيغني خصوصيتها المنفتحة ، مثلما يغتني بها . ولن يحصل مثل هذا الانفتاح إلا إذا تم كسر القشرة الصلبة ، ترس الثقافة ، التي بناها النخبويون حول أنفسهم ، وحول جمهور لازال قسم كبير منه متكلّس الرؤية بتلك القشور ، وميت الضمير بمفاهيم عمياء . وسيكون للنشاطات الفكرية المتحررة من سلطة الشعارات ، والفعاليات الإعلامية والفنية المتنوعة ، والدور الإيجابي للفاعلين فيها بالانتشار الأفقي داخل المجتمع ، لبناء ثقافة تفاهم إنساني لا تستطيع فئة أو مجموعة احتكارها لنفسها ، سيكون ذلك بمثابة المعول لقرميد ثقافة النخبة، والغصن الأخضر لشجرة الثقافة الحيّة .
#كاظم_الواسطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف يستعد الجنود من المتحولين جنسيًا لمواجهة ترامب بإعادة تش
...
-
الصين تحتفل ببداية عام الأفعى وسط طقوس تقليدية وأجواء احتفال
...
-
توجيه إسرائيلي لمعلمي التاريخ بشأن حرب أكتوبر مع مصر
-
الجزائر تسلم الرباط 29 شابا مغربيا كانوا محتجزين لديها
-
تنصيب أحمد الشرع رئيسا انتقاليا لسـوريا
-
منتقدا الاحتياطي الفيدرالي ورئيسه.. ترامب يطلق العنان لمبادر
...
-
أمريكا.. السجن 11 عاما للسيناتور السابق مينينديز جراء إدانته
...
-
الرئيس السوري أحمد الشرع يطلب من روسيا تسليم الأسد
-
إصابة 24 شخصا بغارتين إسرائيليتين على النبطية.. -لم يستطيعوا
...
-
إعلام: المراحل المقبلة من وقف إطلاق النار في غزة تواجه عقبات
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|