أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - تحت شرفة عبد الوهاب … كَم تُرتكب من جرائم!















المزيد.....

تحت شرفة عبد الوهاب … كَم تُرتكب من جرائم!


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5155 - 2016 / 5 / 7 - 11:58
المحور: الادب والفن
    


هذه "ليزا". كلبتي الصغيرة يوركشاير، تحمل قلبَها الوفي، يتخفى بين خصلاتِ كثيفِ شعرِها الأسود والذهبي. وتحمل عينيها السوداوين الجميلتين الشاهدتين على الحكاية. عيناها البريئتان من الآثام، شاهدتان على عشقي لهذا الرجل. ذلك العشقُ الذي منحني البهجةَ، وأورثني الألم. ليزا وأنا نسير في شارع الفردوس بالزمالك، تجري حولي دون طوق ولا مِقوَد. ما حاجتي لطَوق ومقود وما حاجتها؛ وهي صديقتي الشاهدة على قصتي مع عبد الوهاب ومع أشباهه. على اليمين منّا عمارةٌ قديمة من خمسينيات القرن الماضي، وعلى اليسار نيلُ مصر العظيم. أتوقف عند العمارة، فتقفُ ليزا جواري وترفعُ بصرَها إلىّ ثم تنهض على قدميها وترفع كفّيها نحو ساقيّ فأعرف أنها تريدني أن أحملها. أنحني وأرفعها نحوي قلبي. تتجه عيوننا نحو الأعلى. الدور الثاني من البناية رقم (1) في هذا الشارع الصغير الذي يواجه النيل. تُرى مَن يسكن اليوم هذا المنزل الذي نقفُ تحت شرفته، بعدما غادره العصفورُ وطار قبل ربع قرن؟ ترفعُ ليزا بصرها وتقول: “هل كان يسكن هنا الرجل الذي أوجعك؟" فأقول لها: “هنا كان يسكن العظيمُ الذي منح البشرَ أعظم هدايا الإنسان. القدرة على الحب. فالموسيقى هي صوت العشّاق حين يتناجون. من دون موسيقى لا هوى ولا جوى ولا نجوى ولا مناجاة.” لا يروق كلامي للصغيرة فوق ذراعي، فتشيحُ بوجهها عن وجهي وتهمس: “لكنني شهدتُ دموعَك غزيرة. كلما غنّى هذا الرجل يقطرُ من عينيكِ الدمعُ. فكيف يُبكي أحدٌ أحدًا بعد موته بربع قرن؟!” أجيبُها: “في دنيا الإنسان يا صغيرتي، حيث لا نعرفُ وفاءكم ونقاءكم أنتم معشر الكلاب النبيل، كَم من جرائم تُرتكب باسم أقدس الأشياء! فمثلما الديانات نزلت حتى يتوّحد الناسُ على الفضيلة والجمال والعدل والترقّي، فتُرتكَب باسمه أبشعُ الجرائم والحروب والاقتتالات، كذلك الموسيقى التي ابتكرها الإنسانُ لكي يلتقي العشّاقُ على وقعِها وإيقاعِها فيعشقون، سوى أن جرائمَ وخداعًا ومكائدَ وأضاليلَ ومواجعَ وآلامًا تُرتكَب على إيقاع النهاوند الرقيق والصَّبا الشجيّ والبياتي الصبور والرَّست الشرقي الوقور. تعلو مشاعرُنا بالهوى إلى حيث عنان السماء مع "جواب" الصعود، ثم نسقط من علياء الغرام نحو قاع الخيانة مع "قرار" اللصوصية والكذب.” تُطرق ليزا وتنظر نحو الأرض وتقول: “لا أفهم في الموسيقى، إلا أن أميل على وقعِها وأرقصُ كما ترقصين على نغمها حين يضربُك الهوى، لكنني أعرف أن هذا الرجل الذي تقفين الآن تحت شرفته تناجيه، هو سبب شقائك ودموعك. فهو في محكمتي العادلة: مجرم.” أربِّتُ على رأسها وأمشّطُ شعرَها الغزير بأناملي وأقول: “ذلك الأنيق الوسيمُ الذي نقف عند عتبة بيته ليس مجرمًا، إنما باسمِه تُرتكب الجرائم. حين نسمع صوتًا يشبه صوتَه، نظّنُ أن مَن يحاكيه أنيقُ الروح مثلما كان عبد الوهاب أنيقَ الروح، فنقع في هواه برهةً، ثم سرعان ما نُفيق على الحقيقة الموجعة، ونرى الوجوه الشوهاء فنتعلّم أن التقليدَ لا يشبه الأصل. وأن الزائفَ لا يمكن أن يكون حقيقيًّا، وأن الزمّارَ الكذوبَ، لا يمكن أن يكون موسيقارًا.”
في مثل هذه الأيام، 4 مايو 1991، طار عصفورٌ إلى السماء ولم يعد. ترك عالمنا وراح يشدو في فردوس الأبد بين يدي الصالحين فيكون الجزاءُ الطيّب وفاقَ ما قدّمت أيادهم البيضاء في الدنيا من فضائلَ وطيّبات. حين كان بيننا، راح خلال عقود ينثر النغمَ الرفيع في حيّنا المصري وفي كافة أنحاء الأرض. وقفَ عند ناصية القصيدة، قابضًا على عصا المايسترو. يرفعُ العصا فينهمر النغمُ في جوابات صادحاتٍ من حناجر العود والقانون والتشيلو والناي والبيانو والكمان، يهبط بالعصا فتتساقطُ النغماتُ نحو قرارات خافتاتٍ تنظر نحوه إلى حيث يقف قائلة: أيها السيد، أعدْ إلينا الروح، فإنّا نحتضر. فيرقُّ الأستاذُ للنغمات الكسيرة ويرفع من جديد عصاه، فتنبعثُ الموسيقى من رقدتها وتُحلّق في السموات العلا.
حدث أن طلبتْ مجلة "الكواكب" عام 1950، من الموسيقار الأنيق أن يكتب شهادةً عن نفسه، فماذا قال يا تُرى؟ "محمد عبد الوهاب فنانٌ عبقريّ، لو أنَّ اللهَ خلقَه في أيِّ عصر، أو أيّ مكانٍ، لكان مخلوقًا فذًّا. يؤمنُ تمامًا بأن مكانَه الطبيعيّ بين صفوف الزعماء. استطاعَ بفضل فنّه أنْ يكتبَ اسمَه بحروفٍ كبيرة في التاريخ." فأخذت د. رتيبة الحفني تلك الكلمة "الطاووسية" وصّدرت بها كتابَها الجميل: "عبد الوهاب، حياتُه وفنُّه". وقبل أن تتهموا الأستاذَ بالنرجسية وتضخّم الأنا، دعوني أقرأ بين يديكم عريضة دفاعي عن طاووسيته من خلال فلسفة أؤمن بها.
في تقديري، أن كلُّ مبدعٍ لابد أن يحملَ قدرًا من النرجسية، هي في الواقع التي تجعلُه يُبدع. وإن زعم المبدعُ شيئًا من التواضع، فهو تكتيكٌ ديبلوماسيّ مُفْتَعَلٌ، حتى يضع كلماتِ التقدير على لسان الآخر. فيكون الحقُّ ما شهدَ به الآخرون.

طاووسيةُ الفنّان؛ التي تجعله يرى نفسَه مختلفًا وجميلا، هي ضرورةٌ لكي يصنعَ الجمالَ. فلو أنه قَبِلَ أن يرى نفسَه عاديًّا، لقَبِل، بالتالي، أن يُنتجَ شيئًا عاديًّا. وهذا، بظني، أحدُ أسبابِ انهيار الجمال في مصر الآن. لأن كثيرًا من فنانينا الحاليين يرون أنفسَهم عاديين، لأنهم عاديون، فأنتجوا لنا العاديَّ، فهبط الفنُّ، وانحطّتِ الذائقةُ، إذْ أصبحنا نقبلُ العاديَّ باعتباره فنًّا! لكنْ مَن يرى نفسَه جميلا، يعيشُ في رعبٍ دائم على هذا الجمال؛ ويخشى زوالَه خشيتَه الموتَ، فيأبى إلا أن يُقدّمَ المدهشَ. ونحن نقبلُ ذلك الاعتدادَ بالنفس من المبدع، لأنه أداةُ إبداعِه، ومن ثم سببُ مُتعتنا. لذلك أحببنا نرجسيةَ المُغادِر الجميل محمود درويش حينما كان يختالُ ويتدلّلُ ويفرّ من الصحافة ويهرب من المعجبين، وفتنتنا طاووسيةُ أحمد عبد المعطي حجازي وهو يلقي قصائدَه مثل مايسترو؛ عصاهُ يدُه؛ تُطوّعُ الحرفَ نَبْرًا وقَطْعًا وحركةً وسُكونًا وإدغامًا وإشباعًا، فيخرجُ الحرفُ مشحونًا بالغناء. تماما مثلما ابتسمنا بمحبة لقول المتنبي، عن نفسه، لسيف الدولة: "سيعلمُ الجمعُ مِمَن ضمَّ مجلِسُنا/ بأنني خيرُ مَنْ تسعى به قدمُ/ أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبيْ/ وأسمعتْ كلماتيْ من به صَمَمُ/. كَمْ تطلبونَ لنا عيبًا فيُعجِزُكم/ ويكرهُ اللهُ ما تأتون والكرمُ/ ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ عن شرفي/ أنا الثريا وذان الشيبُ والهِرَمُ." لذلك نقبلُ ونثمّنُ ما قاله عبد الوهاب عن نفسه، مادام ملأ حياتَنا جمالا ورُقيًّا، وطالما يظلُّ لنا أبدًا مُلهمًا لا يخبو.
ترفعُ ليزا عينيها نحو عيني وتقول: “أراكِ سامحتِه وقد حَزَّ قلبَك وترٌ من أوتاره فشطره نصفين!” فأجيبُها: “انتظري حتى أُكمل مرافعتي.”
أيها العظيم، محمد عبد الوهاب، كم بسببِك تهشمتْ قلوبٌ نبيلة. حين ارتزق الأدعياءُ الأقزامُ على فُتات مائدتك، ليسرقوا قلوب العذراوات من سلال الخوص. أيها الأستاذ، كم باسمك تُرتَكبُ من جرائم!



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السير يعقوب وليلى ابنة الفقراء
- الإمارات تكسر شرانقهم |الأسبوع العالمي للتوّحد
- تعالوا نمشيها نكت
- حُلم | قصيدة للشاعرة فاطمة ناعوت
- دعاء خصم فاطمة ناعوت | كيف ندعو على ظالمينا؟
- أجدلُ السعفَ لأنني أحبُّ
- ما الهزيمة؟
- القطة .... التي كسرت عنقي
- العصفورُ المتوحّد
- أولاد الوزّة
- سامحيني يا سمراء | أم الشهيدة والأرنب المغدور
- أيها الشعراء غنّوا وأُسجنوا!1
- قفص العيب
- مَن هُم خصومُنا؟
- اسمُها زَها حديد
- ثغرة في قانون ازدراء الأديان
- كنتي سيبيه يمسكها يا فوزية!
- توب الفرح يا توب
- لماذا اسمها -آنجيل-؟
- لماذا هرب الجمل؟


المزيد.....




- حكاية الشتاء.. خريف عمر الروائي بول أوستر
- فنان عراقي هاجر وطنه المسرح وجد وطنه في مسرح ستوكهولم
- بالسينمات.. فيلم ولاد رزق 3 القاضية بطولة أحمد رزق وآسر ياسي ...
- فعالية أيام الثقافة الإماراتية تقام في العاصمة الروسية موسكو
- الدورة الـ19 من مهرجان موازين.. نجوم الغناء يتألقون بالمغرب ...
- ألف مبروك: خطوات الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2024 في ...
- توقيع ديوان - رفيق الروح - للشاعرة أفنان جولاني في القدس
- من -سقط الزند- إلى -اللزوميات-.. أبو العلاء المعري فيلسوف ال ...
- “احــداث قوية” مسلسل صلاح الدين الجزء الثاني الحلقات كاملة م ...
- فيلم -ثلاثة عمالقة- يتصدر إيرادات شباك التذاكر الروسي


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - تحت شرفة عبد الوهاب … كَم تُرتكب من جرائم!