|
رحلة غابوية : رجوع إلى الذات
عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 5143 - 2016 / 4 / 25 - 01:15
المحور:
الادب والفن
إلى كل أساتذتي من علموني حرفا أقف إجلالا واحتراما لهم . إلى الأستاذة نادية بوقلال صاحبة هذه الطريقة في الكتابة . في يوم 07 من أبريل 2016، انطلاقا من الساعة العاشرة إلا الربع صباحا قمت برحلة غابوية، كان منزلنا الريفي هو نقطة البداية، ثم صعدت عبر عقبة طويلة مارا بغابة الجامعي حيث وصلت إلى صخرة مومن 1، واهتديت بعد ذلك إلى فدان " ضبعة" 2، وبعد مسيرة طويلة أكون قد وصلت إلى صخرة شاهقة تسمى بصخرة " بروان"، هناك انحدرت عميقا نحو وادي نهر النفيفيخ . في ذلك الصباح، كان الجو ربيعيا زاهيا، كانت تحيط بمنزلنا الريفي زهور صفراء، وعلى حواشي أرضنا التي انبث فيها المنزل كانت ترعى قطعان من الأغنام والأبقار، منزلنا كان صامتا ينصت لأغاني الطبيعة، عصافير وطيور الدوري لم تتوقف عن الزقزقة والغناء، في حوالي الساعة التاسعة وخمسين دقيقة حملت مذكرتي وقلمي وكتابين لسغموند فرويد، إضافة إلى هاتفي، وبينما أكون قد اقتربت من الغابة صفعتني هبة ناعمة، استقبلتها بحبور مثلما استقبلت أذني صياح الديكة وصفير "الزرزور"، وعويل الرعاة، الأرض التي خضت فيها هذه الرحلة هي أرض كرزاز تتموقع جغرافيا شرق المحمدية وجنوب غرب بنسليمان، الأهالي يشكلون خصوما لبعضهم البعض كأسلاك الكهرباء، إنهم يطبقون سياسة " الاحتراز "3، فبمجرد ما تجتاز شاة أرض الآخر حتى يتم النداء بأتفه العبارات، قبل أن أصل إلى الغابة اجتزت ركاما من نبات الدوم، ولاحت طيور الحجل، ومخابىء الأرانب والسلاحف، وما إن مرت دقيقة أكون قد اجتزت عقبة منتهيا إلى مدخل الغابة، هناك جلست أستريح مدونا ملاحظاتي الأولى . في حوالي الساعة العاشرة وعشر دقائق، تعمقت في الغابة، لاحت أوراق متساقطة، أعشاب ناتئة تجاور أشجار الكالبتوس، إضافة إلى صخور متراكمة هنا وهناك، ومن حين لآخر تظهر بعض الوزغات الهاربة صوب جحورها، ما لفتني أيضا بقايا حيوانات ميتة، بعد هنيهة اجتزت مسافة طويلة في الغابة، فبدت فسحة واسعة، لقد تم قطع أشجار كثيرة من أجل غرس أشجار أخرى، هنا لاحظت مجموعة من الحراس والعمال، فغيرت وجهتي نحو مسار آخر، فسلكت طريق "فدان ضبعة" من أجل الوصول إلى الوادي. يبدو لي أن هذا المسار هو مسار عمر، المنزل الريفي يحيل إلى الطفولة المزركشة بأحلام وردية والغابة المجاورة تحيل إلى المغامرة، أما "فدان ضبعة" فهو أرض خلاء تفيد المخاطر المحدقة بالحياة والمفضية إلى الموت، في حين الوادي هو العمر كله الذي ينتهي بمصب، هناك يمكن معانقة الأبدية. الغابة التي اجتزت كان يلفها صمت موحش تتخلله من حين لآخر أصوات الطيور، بالقرب من صخرة "العوينات" 4، بدت طيور النغاف رابضة فوق الأبقار من أجل التنقيب عن القراد، وبينما أنا ماض في طريقي تسللت إلى أذناي هبة ريح، فأكون قد خرجت من الغابة واستقبلني حائط مومن بشمسه الحارقة، بعض الفراشات النادرة تتطاير بين الدوم، طائر القبرة " القوبع" يراوح بين الصعود والهبوط، بينما طائر العقاب الذي يلقبه الأهالي "بالسيف" لا يتوقف عن التحليق، سرت على هذا المنوال حتى وصلت إلى صخرة مومن، ولاح ركام من الأحجار يحمل لونا أصفر قاتما، يعلوها السواد المحمر، هكذا توغلت بين الأحجار المتراكمة والورود المتناثرة إلى أن جلست تحت شجرة " الجبوج"، فدونت ملاحظاتي الثانية. في العاشرة وأربعين دقيقة، نهضت من مكاني، ووجهت عيوني صوب أغصان الشجرة، ولاحظت رجل شاة معلقة بحبل مربوط بغصن، كان يحيط بها الذباب، لست أعلم الداعي وراء ذلك ! كنا في طفولتنا يقولون لنا أن الجن تسكن أشجار " الجبوج"، أ يكون شخص ربط هذا الرجل قربانا لجن تحقيقا لأمنية تضر أو تنفع أشخاصا آخرين؟ هل من الممكن أن تكون هذه الرجل قربانا للإله من أجل أن يمطر الأرض ؟ غادرت مكاني، وسرت عبر الطرف العلوي لفدان ضبعة، هناك صادفت نبات دوم قزمي، وأحجار متراكمة ونبات لاصق بالأرض ينهشه قطيع من الأغنام المتناثر بين نبات السدر الأجرد، اقتربت من عمود كهربائي بني حديثا وقرأت :"جمعية ريفر ممنوع الصيد"، عرفت في الآونة الأخيرة أن شخصين نافذين أسسا جمعية للصيد وسوف يحتكران الصيد وحدهما، مع العلم أن جزءاً شاسعا من الغابة هو من أراضي الدولة التي تم استردادها عام 1973م، لقد كتب العديد من الصيادين والرعاة عرائض إلى الجهات المسؤولة، فلم يجدوا إلا أسلوب التسويف والمماطلة، ربما الآن الأهالي محرومون من اجتياز الغابة، لقد راجت أخبار أن هناك ذئابا ضارية تم استقدامها لتخويف الرعاة، الأهالي نظرا لجهلهم ركنوا إلى الصمت، اللهم قلة قليلة من الغيورين . بعد لحظات من المسير تفتقت صخرة " بروان" 5 في البعيد، صخرة قديمة و متآكلة، يلفها اللون الأصفر والبرتقالي، وبينما أقترب منها شيئا فشيئاً ظهر تحطم لركام من مكان شاهق، فتفتقت تاركة حمرة على بساط الأرض . صخرة "بروان" كصخرة مومن، كلتاهما تنسبان إلى أحد أجداد فخذة ولاد مومن، صارتا الآن مكانا يجلس فيه الرعاة والطيور الجارحة. في القديم كانت أرضا للانتجاع خلال فصل الربيع، ومهجورة أثناء الصيف نظرا للظروف القاحلة . الصعود إلى الصخرة ليس هينا، كانت الشمس حارقة، لم أسمع سوى طائر يردد "طكوك"6، جلست في قمة الصخرة لاح الوادي والمقبرة التي يسميها الأهالي "بالروضة" . جحافل من الأبقار تعدو بسرعة رافعة ذيولها إلى عنان السماء، يتاخم وادي النفيفيخ المقبرة، يتلوى كالثعبان، ها هو يطفو صغيرا بين جبال " الثلاثاء الزيايدة "، سرعان ما يتمدد في أرض هشة في دوار " البيض "، لكن ها هو يعاني الأمرين قرب "الشقيقات " أسفل صخرة "بروان "، يحمل في ثناياه زمهرير مياه المتدفقة تغري بالمشاهدة، لا يسعني سوى أشاهد مسار الوادي مسار الحياة . -------------------------------------- 1 تنسب إلى أحد أجداد فخذة ولاد مومن . 2 أرض شاسعة جرداء تشكل غابة من السدر، تزعم الرواية الشفهية المحلية أنها كانت مأوى الضباع قبل استقرار الأهالي. والضبع كما الأسد ظل موجودا في غابة بنسليمان، فهناك صخرة تدعى " النمرة"، وليون الأفريقي في كتابه وصف افريقيا أقر بوجود سباع في المغرب خلال ق 16، حتى السبعينات من ق 20 لاحظ الأهالي مرور ضباع قرب منزلهم. والمتجول في المقبرة يلاحظ قبور مهشمة ليس بعيدا أن تكون الضباع كانت تنقب عن الجثث . 3 الاحتراز ظاهرة معروفة عند الأهالي . وهي عدم سماح الرعاة لرعاة آخرين للرعي في حقولهم . 4 صخرة كان ينبع من باطنها عيون شتى، لكن مع توالي الجفاف تلاشى كل شيء . بقي الاسم واختفت العيون . 5 صخرة تنسب لأحد أجداد فخذة ولاد مومن . 6 تؤكد الرواية الشفهية المحلية أن " طكوك" هو طائر يظهر في فصل الربيع يخبر باكتمال هذا الفصل ويخرج الأبقار عن عقالها ويقودها فارة نحو الحظيرة بعد صباح رعوي . وبعد انقضاء الفصل يموت . حقيقة لقد قضيت سنوات طويلة في أرض ورديغة وتادلة والجنوب المغربي لم أسمع صوت هذا الطائر إلا في أرض الشاوية. -------------------------------------- ع ع / بني ملال 17 أبريل 2016/ وسط المغرب .
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل حاولنا أن نولد مرة واحدة وانتهت؟
-
مدينة تارتروس *
-
رثاء أيقونة
-
التنوع السوسيومجالي : ظاهرة الأفارقة جنوب الصحراء (تأطير الب
...
-
التنشئة الهدرية : مدخل نظري لتفكيك الأصنام الكبرى (الله، الن
...
-
مريم الشيخ (1) : النساء المكتريات : جرأة في الطرح وتواضع في
...
-
أيام عصيبة بالقسم الداخلي (2)
-
من هم الأشخاص دون سكن قار (SDF) ؟
-
أيام عصيبة بالقسم الداخلي (1)
-
منزلنا الريفي (98)
-
منزلنا الريفي (99)
-
منزلنا الريفي (100)
-
شبح الجفاف
-
منزلنا الريفي (96)
-
منزلنا الريفي (95)
-
منزلنا الريفي (94)
-
منزلنا الريفي (93)
-
منزلنا الريفي (91)
-
منزلنا الريفي (92)
-
منزلنا الريفي (89)
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|