|
سيرَة أُخرى 27
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5138 - 2016 / 4 / 20 - 01:22
المحور:
الادب والفن
1 " إعدادية ابن العميد "، ترتبط في ذاكرتي بأيام الدراسة والمراهقة. إنها تقوم في موقع مميّز بالحيّ، في منتصف شارع ابن النفيس، وتقابل أحد أجمل مساجد الشام؛ المُكنى على اسم السلطان صلاح الدين. بين المدرسة والمسجد، كان الشارعُ يتحوّل إلى ساحةٍ لألعابنا ولهونا ومعاركنا. كذلك، كنا نصرف نقودنا عند صاحب عربة الفول المدمس أو لدى بائع حلوى الحبوب. إلا أنّ أكثر مشاورينا إثارةً، لم يكن سوى تعقّب طالبات " إعدادية السادسة "، الكائنة على مفرق ساحة شمدين. مدير مدرستنا، عبد الوهاب كيكي، كان من رعيل التربويين ذوي العقلية القديمة. إلا أن قسوته لم تكن مجانية، أو لئيمة. كما أنه كان صارماً مع الأساتذة المهملين. ومع ذلك، استحقّ الرجل من التلامذة لقَبَ " أبي جهل ". عشيّة عيد النوروز، اتفقتُ مع زملاء آخرين على القدوم للمدرسة باللباس الكرديّ. وبما أنّ تدبير اللباس كان مُتعذراً، فإنّ كلاً منا اكتفى بالعمامة. والدي، تعهّدَ تعليمي الطريقة الكردية للفّ الشماخ على الرأس. ما لم يكن بحسباننا، في صباح اليوم التالي، هوَ أنّ المديرَ قد كَمِنَ بنفسه للتلامذة عند مدخل كريدور المدرسة كي يُعاين ملابسهم وأشكالهم. أول الواصلين من شلتنا المُعيّدة، كان ابن فرّان الزقاق. فما أن وقعَ نظرُ " أبي جهل " عليه، إلا ولبث يحدّق به في كثير من الدهشة والاستنكار. " أأنتَ طالب أم بائع مازوت؟ "، صرخَ المديرُ بزميلنا وهوَ ينتزعُ لفةَ رأسه ويرميها على الأرض.
2 جادة أسد الدين، تُستهلّ بالقرب من جامع سعيد باشا، مروراً بمدخل زقاقنا، وتنتهي في ساحة شمدين. عندما غادرتُ البلد، لم يكن ثمة سوى أبنية حديثة معدودة على أصابع اليد الواحدة. المسافة الهيّنة من الجادة، الفاصلة بين مدخل الزقاق والمسجد، كانت تطلّ عليها البيوت العربية والمحلات التجارية. المدرسة الابتدائية، " أميمة الغفارية "، كانت مديرتها هيَ إحدى بنات العمومة. كانت هذه المدرسة بيتاً عربياً كبيراً، استأجرته الدولة من أصحابه؛ وهم من آل " عرب ". العديد من شخصيات الحارة، المعروفة بطرافتها، كانت مستأجرة محلاتٍ تجارية هنا. أهم دكان سمانة ( لصاحبه أبي خالد متيني )، كان يقوم بمدخل الزقاق ولا يلبث ليلاً أن يتحوّل إلى صالة للعب طاولة الزهر. الجهة الأخرى من المدخل، كانت تضمّ صالون حلاقة يملكه أخوة من أقاربنا؛ أطرفهم ذاك المعروف بلقب " جحا ". أبو حمو، صاحب دكان السمانة المجاور، كان يتبادل على الدوام التعليقات الظريفة مع أبي صلاح آيدين؛ الرجل شبه المُقعد، الذي كان يقيم أوده ببسطة صغيرة للسكاكر. بائع الخضرة العجوز، علي كَوشتو، استحق شهرته من كرشه العظيمة وشاربه المفتول وشرواله. أبو حاتم، كان يقدّم للحارة أشهى خبز تنور مملّحاً بلذعاته، المألوفة. ثمّ تتوالى المحلات، وكلّ من أصحابها مُعَرّفٌ بلقب طريف أو اسم ذائع؛ محل فايز الحداد، دكان كَرّي، دكان جروس، دكان عزو، دكان قادريكي، بوظة فيصل، فلافل أبو عكاش، دكان علي بطة.
3 في حديقة منزلنا، كان هناك شجرتا دراق. الثمار، كان يصبح منظرها شهياً في بداية الصيف. ومع أنّ الوالد كان هو من يعتني بالحديقة أشجاراً وأزهاراً، إلا أنه كان نادراً ما يحظى بإحدى ثمار الدراق أو غيرها من الفواكه. فقد كان منزلنا، على حدّ تعبير والدتي، " وكالة من غير بوّاب ". أطفال الزقاق، وخصوصاً الأقارب، كان لا يحلوا لهم اللعب إلا في حديقتنا وذلك بغية نهب أشجارها. ذات مرة، وكان الوقت ربيعاً، نبهتُ صديقي ( وهو ابن جيراننا آل كرّي عيشة ) بأنّ الوالد قد قام حديثاً برش شجر الدراق. إلا أنه لم يَرْعَوِ، واندفع يقطف دراقة غير ناضجة. بعد قليل، شعرَ صديقنا بالدوار والغثيان. فما أن وصل إلى فسحة دهليز منزلهم، حتى هوى على وجهه صارخاً: " تسممت، تسممت! سأموت! ". أقاربنا من آل قربينة، كان بيتهم مضرب المثل بالرثاثة. والدتهم، وكانت صالحانية، اشتهرت أيضاً بالخصاصة والتقتير. كانت تسقي أشجار المنزل بالماء الوسخ، المتبقي قي طشت الغسيل. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ شجرة التوت الشامي كانت متألقة بثمارها الكبيرة والشهية. كذلك الأمر، فيما يتعلق بدالية العنب، التي كانت تُغَذّى بقمامة المنزل. ومع أنني كنتُ في صغري ومراهقتي أزورهم باستمرار، فإنني لا أذكر مرة قط أنني تذوقت حبّة توت أو عنب. اللهمّ إلا في أحد أيام الصيف الحارة، وكنتُ جالساً في أرض الديار بظلال شجرة التوت الوارفة. وإذا بثمرة تسقط من الشجرة، فمددتُ يدي فتناولتها. هنا، التفتت نحوي امرأة العم ورشقتني بنظرة جمّدت فمي. ثمّ راحت تفنفن، بأنّ الثمار لم تنضج بعد.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيرَة أُخرى 26
-
نافخ البوق
-
أجنحة
-
أقوال غير مأثورة 4
-
سيرَة أُخرى 25
-
سيرَة أُخرى 24
-
سيرَة أُخرى 23
-
سيرَة أُخرى 22
-
القيدُ الحديديّ
-
خنجرٌ نحاسيّ
-
طبيب
-
حافظةُ الحظ
-
معلّم
-
أعمى
-
فنانة
-
قصة صداقة
-
في المتحف
-
سيرَة أُخرى 21
-
أمثولة وحكاية
-
أقوال غير مأثورة 3
المزيد.....
-
وصف مصر: كنز نابليون العلمي الذي كشف أسرار الفراعنة
-
سوريا.. انتفاضة طلابية و-جلسة سرية- في المعهد العالي للفنون
...
-
العراق.. نقابة الفنانين تتخذ عدة إجراءات ضد فنانة شهيرة بينه
...
-
إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025
...
-
بينالي الفنون الإسلامية : مخطوطات نادرة في منتدى المدار
-
ذكريات عمّان على الجدران.. أكثر من ألف -آرمة- تؤرخ نشأة مجتم
...
-
سباق سيارات بين صخور العلا بالسعودية؟ فنانة تتخيل كيف سيبدو
...
-
معرض 1-54 في مراكش: منصة عالمية للفنانين الأفارقة
-
الكويتية نجمة إدريس تفوز بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربي
...
-
-نيويورك تايمز-: تغير موقف الولايات المتحدة تجاه أوروبا يشبه
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|