|
قصص فلسفية – الحلقة الخامسة
نبيل عودة
كاتب وباحث
(Nabeel Oudeh)
الحوار المتمدن-العدد: 5128 - 2016 / 4 / 9 - 22:38
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
زوجة صّماء!!
حيرتني زوجتي.. سمعُها بات ثقيلاً.. لم تعد تفهمني، وتثرثر كلمات لا معنى لها. أقول لها ان كلامك غير معقول.. ما تقولينه ليس صحيحاً. ولكنها تعيد نفس الجمل بصوت مرتفع ظناً منها أن رفع صوتها سيجعلني أقتنع أخيراً بما تقوله. وللأسف عصبيتها تزداد حتى بات الحديث معها مستحيلاً. راقبتها أثناء عملها المنزلي. بالتأكيد لديها مشكلة عويصة.. أتحدث اليها ولا تسمعني، هل يكون السببَ مشكلةٌ في سمعها، ام أنها ترفض الحديث معي؟ قلت لها اننا يجب ان نذهب الى طبيب مختص لفحص سمعها. غضبت مني وثرثرت كلاماً لا رابط بين جمله. فهمت منه ومن إشاراتها انها تتهمني بأنني أريد أن أجعلها مريضة بالقوة، وأنني أنا مريض في رأسي.. وقد عافت نفسها من تصرفاتي. سامحها الله. صرت أقل من الكلام معها حتى لا أربكها.. ولكنها كلما مرّت بي تثرثر بدون صوت، أنظر اليها وأقول: "سامحك الله" وهذا يغضبها لسبب لا أدريه. ومرة لم أعد أصبر. قلت: - اذا كان لديك شيء ضدي قوليه لأسمعه. فانفجرت بالضحك. - لم أقل شيئا مضحاً؟ - .... - قولي بصوت مرتفع وواضح لأسمعك جيداً. - .... فأعطتني ظهرها مفضلة الصمت. شاورت أولادي حول حالة أمهم.. فضحكوا بشدة. سألت: "ما الداعي للضحك؟" ابني الصغير كان أوقحهم. قال بصوت قوي جداً مقرباً فمه من أذني: - المشكلة لديك يا أبي. - كدت تطرشني. لا تفعل هذا مرة أخرى. قال الابن البكر: - سنذهب لزيارة الطبيب.. سأحجز لك دوراً عنده. - احجز لأمك هي التي لا تسمع. - حسناً.. أمي ترفض.. سنشاور الطبيب عن طريقة لعلاجها. انت ستشرح له المشكلة. - فكرة جيدة في اليوم الموعود جاء ابني لمرافقتي. عبثاً حاولت إقناع زوجتي لمرافقتنا. ألحّت، فصرخت بأذني: - الله يساعدني عليك. - انت حرة.. نريد ان نساعدك ولا تريدين ان تساعدي نفسك. خرجت من المنزل مع ابني البكر الذي لم يتوقف عن الضحك، ربما بسبب عناد أمه ورفضها العلاج. استقبلنا الطبيب مبتسماً. شرح له ابني مشكلة أمه. ولكنه قرر فحصي. لا أعرف كيف سيساعد فحص الزوج في علاج الزوجة؟ أدخلني غرفة زجاج مغلقة، بعد ان أفهمني ابني بأن أرفع إصبعي كلما سمعت صوتاً. وهذا ما فعلته. عندما انتهى فحصي سألت الطبيب: - كيف سيساعد هذا الفحص زوجتي؟ ضحك وقال بصوت واضح: - سيساعدنا على تحديد المشكلة.. ولكن انت أيضاً لديك مشكلة في السمع. - ربما.. ولكن المشكلة الصعبة لدى زوجتي.. نادراً ما تسمعني!! نظر الطبيب مبتسماً الى ابني، وشاوره قليلاً، ثم قال لي بصوت واضح: - انت ستساعدنا على علاج زوجتك، بما انها ترفض المجيء للفحص، سنوكلك باجراء فحص لها. - حسنا... كيف أفعل ذلك؟ - عندما تكون منشغلة قف خلفها على بعد 6 أمتار. واسألها:" ماذا تفعلين؟". ثم اقتربْ لمسافة أربعة أمتار واسألْ نفس السؤال.. واذا لم تسمعك اقترب لمسافة متر واحد واسألها نفس السؤال وانتبه.. لا تغير قوة صوتك في الثلاث مرات.. ولنرَ النتيجة.. - فكرة جيدة.. في اليوم التالي كانت تحضّر صينية بطاطا بالدجاج، ومشغولة بإعداد الفطائر لأن أحفادنا سيحْضرون للغداء عندنا. وقفت على بعد ستة أمتار وسألتها: - ماذا تفعلين؟ لم تسمعني. اقتربت لمسافة أربعة أمتار وسألتها: - ماذا تفعلين؟ لم تسمعني. اقتربت لمسافة متر وراء ظهرها، وسألتها: - ماذا تفعلين؟ التفتت إليّ غاضبةً جداً.. وقد كاد الشرر يطير من عينيها، وصرخت بوجهي بقوة: - للمرة الثالثة أقول لك صينية بطاطا بالدجاج. انسحبت بهدوء.. غداً سأخبر الطبيب بنتيجة الفحص!! ******* ملاحظة: فكرة القصة تنطلق من مبدأ فلسفي يعتمد الإحساس ضمن نظرية المعرفة، اي ان المعرفة تنطلق من الاحساس الشخصي الموجود كله في فكرنا وان معلوماتنا الوحيدة عن عالمنا هي التي تصلنا عبر حواسنا. أهم فيلسوف لنظرية الإحساس (او فلسفة الإحساس) كان جورج براكلي الذي عاش في القرن الثامن عشر، وكان مطرانا مسيحيا أيضا. ********
حتى يجف من الماء
كثرت الأقاويل حول ابنة حارتنا جانيت، لوهلة تبدو فتاة جميلة الوجه، سمارها الداكن يعطيها جاذبية خاصة وشعرها الأسود الطويل المجدل بجدولين يضفي عليها مسحة جمالية تشد الأبصار. لكنها فتاة لا تحب عمل البيت وتجلس وحيدة معظم ساعات النهار. كنا صغارا نتفاجأ من وحدتها ومن عبوسها الدائم في وجوهنا. أهلنا نبهونا ان لا نتعرض لها لأن الله يحب كل ابنائه مهما كانوا مختلفين . لم نفهم مسألة حب الله لأبنائه رغم اختلافهم ، فنحن لم نطرح تساؤلات عن هذا الموضوع ولم نفهم بالتالي تخوف أهلنا من مضايقتنا لابنة حارتنا جانيت. في الحقيقة كنا نسخر منها ونحاول اثارة غضبها لتلحقنا بفردة حذائها وهي تنط مثل الجندب، هذا الأمر كان يملأنا ضحكا. في جيل المراهقة صرنا ننظر الى جانيت نظرات فيها شهوة غريبة لم نعرفها سابقا. كانت حين تحرك ساقيها لتغيير زاوية جلوسها ينكشف بعض فخذها فوق الركبة ، فنهلل بسعادة ونبدأ بإشارات لإثارتها وجعلها دائمة الحركة فوق كرسيها. كانت تمضي الأيام على شقونتنا وسؤال واحد يقلقنا ، لماذا لا تشارك جانيت بنات الحارة في العابهن؟ انها فتاة جميلة بل أجمل من الكثير من بنات الحارة، عاقلة جدا وصموتة جدا الا حين ننجح باخراجها من صمتها وهدوئها. قالوا لنا أنها مصابة بلطف الله، لم نفهم لطف الله الا بأنه أضفى عليها حسنة نفتقدها. في فجر أحد الأيام انفجر غضبها على أهلها.. علت شتائمها وطار الزبد من شفتيها، بصعوبة أمسكوا بها، كانت تقاوم بشراسة بكل قوتها، لم نكن نعرفها بهذه الشراسة والعدوانية. منذ ذلك اليوم غابت جانيت عن حارتنا وغابت عن كرسيها في زاوية بلكون بيتها وبدأنا ننسى جانيت ، حين كنا نسال عنها يقال انها في مصحة عقلية، بعضنا قال انها في العصفورية وتعلمنا ان العصفورية هي مصحة عقلية لمن يصابون بلطف الله وان لطف الله يعني الجنون وليس حسنة تضاف للشخص الذي يختاره الله للطفه. هل حقا كانت جانيت مجنونة ام انها جنت فجاة في فجر ذلك اليوم؟ نحن نعرف المجانين مشردين في الشوارع ، ثيابهم رثة ووسخة، يكلمون انفسهم، نلحقهم لنضحك على كلماتهم وحركاتهم ولكن جانيت كانت فتاة مرتبة الثياب ، يتدلى شعرها دائما بجدوليه على ظهرها طويلا جميلا تتمناه كل فتاة. كانت رغم شقوتنا ومحاولاتنا لاستفزازها قليلا ما تغضب وتلحقنا بشتائمها واذا فعلت تعود بعد دقائق الى مقعدها هادئة وكأن شيئا لم يحدث مما يجعلنا حقا نلوم انفسنا على ما سببناه لها ونتعهد ان لا نكرر فعلتنا، كثيرا ما وصلت شكاوي والدتها لأهلنا، فتعرضنا للعقاب الشديد بسبب تطاولنا على جانيت. الشيء الغريب في قصة جانيت انها كانت تحب السباحة وتجيدها كما تروي والدتها لأهل الحارة، في ايام الصيف تأخذها والدتها الى بركة السباحة ، حيث تسبح ولا تخرج من الماء الا بعد رجاء والدتها الطويل . ترى هل هي مجنونة حقا، ام بها مرض آخر ؟ لا تبدو مثل مجانين البلد بل منعزلة وهادئة فهل هذا يعتبر جنونا ام مرضا يعالج بسهولة؟ أصبحنا شبابا ومعظمنا تزوج وصار أبا لأولاد ، صارت جانيت نسيا منسيا من الماضي، توفيت والدتها وظل والدها العاجز حيا لفترة أطول قليلا ولكن أختها العانس ظلت في البيت، لم تكن جميلة بل بشعة الوجه بشكل لا يريح النظر لوجهها، كثيرا ما قالت والدتي لو ان الله عدل لأعطى وجه جانيت وشعرها الجميل لأختها ليرزقها الله بعريس وأعطى جانيت الهبلة وجه أختها. وكنت اسمع وقتها تعبير "الهبلة" لأول مرة وعرفت انه يعني "المجنونة". مضت سنوات كثيرة وغابت جانيت عن ذكرياتنا . حدثت مفاجأة... في فجر أحد الأيام سمعنا حركة سيارات قرب منزل جانيت، شاهدنا اختها تخرج راكضة لتعانق امراة تنزل من احدى السيارات ولولا شعرها المجدل الطويل لما عرفنا انها جانيت. جمالها لم يتغير، تعانقت الأختان. كانت الحارة تبصبص من وراء الشبابيك ومن البلاكين على هذا اللقاء الذي لم يتوقعه أحد. ترى هل عادت جانيت الى وعيها وعقلها؟ هذه الأسئلة ترددت كثيرا في الأيام الأخيرة. لم تعد جانيت تجلس على كرسيها في البلكون. كانت تتحرك داخل البيت، أحيانا نراها تكنس أو تمسح الأرض واحيانا تنشر بعض الغسيل. ترى هل اكتمل علاجها؟ هل أعفاها الله من لطفه ؟! بدأت تتجمع الحكايات عن جانيت، قالوا أن تحريرها جاء بعد أن أثبتت أنها امرأة عاقلة ومسئولة. كيف جرى ذلك؟ يقال ان احد المرضى في نفس العصفورية سقط في بركة مياه عميقة بعد ان تسلق حاجزأ يفصل ساحة المستشفى عن البركة ، قام ضجيج وصراخ قوي من الممرضات المرعوبات وبعض المرضى، فما كان من جانيت إلا أن ركضت وقفزت فوق الحاجز ، قفزت داخل البركة وغاصت وراء المريض إلى قعر البركة وسحبته إلى سطح البركة وأنقذته من الموت غرقا.. وعليه قرر الأطباء أنها فتاة عاقلة تستطيع أن تعيش وسط الناس بدون مشاكل. بما اننا أقرب الجيران فقد دعونا جانيت وأختها للعشاء في أحدى الأمسيات. بصراحة تصرفت جانيت بشكل طبيعي ، شكرتنا على الوجبة الشهية، عندما عرضنا عليها فنجان قهوة اعتذرت بقولها انها لا تشرب الا الشاي فاعدت لها والدتي فنجان شاي. كانت صموتة وترد على التساؤلات بكلمات مقتضبة. حدثتنا اختها بفخر كبير عن جانيت كيف أنقذت شابا من الغرق الأمر الذي حدا بأطباء المستشفى أن يحرروها إلى بيتها وها هي حقا هادئة تتجاوب مع الناس، لا يبدو عليها أمر غريب ، أو غير عادي عن أي شخص لم يصيبه الله بلطفه. سالتها ونحن نجلس في الصالون بعد العشاء: - هل ما زلت تحبين السباحة يا جانيت؟ - السباحة أجمل ما في الحياة - لم تخافي من الغرق عندما قفزت لإنقاذ زميلك المريض؟ هزت رأسها مبتسمة: - لماذا أخاف ، أنا سباحة ماهرة .. - وزميلك هل تحسنت حالته ؟ - للأسف لا قالتها بحزن شديد. - هل مات متأثرا من غرقه؟ - مات معلقا من رقبته في الحمام؟ - هل انتحر؟ - لا لم ينتحر - لماذا شنق نفسه في الحمام؟ - لم يشنق نفسه ... أنا علقته ليجف من الماء !! ملاحظة: جاءت الفلسفة بمضمونها لتشكيل مضمون للحياة وتفحص القيم التي تؤثر على الإنسان والمجتمع وعلى اتخاذ القرار. هنا وضعت الفلسفة يدها على جوهر الاختلاف بين القرار الواعي (الفعال) والقرار المنفعل الذي لا وعي أو منطق فيه. هل القرار المنفعل هو الجنون؟ أو نوع من الجنون الطارئ؟ [email protected]
#نبيل_عودة (هاشتاغ)
Nabeel_Oudeh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص فلسفية – الحلقة الرابعة
-
عيد البشارة عيد كل النصراويين
-
علي سلام شريك بالمؤامرة الصهيونية..!!
-
حجج صبيانية وراء التصويت ضد ميزانية بلدية الناصرة
-
قصص فلسفية - الحلقة الثالثة
-
من يخدم قرار إضراب يوم الأرض?
-
قصص فلسفية – الحلقة الثانية
-
إذاعة الشمس والإعلام العربي في كتاب للمعهد الإسرائيلي للديمق
...
-
صفحات من تراثنا الفلسطيني
-
وداعا للفنان، الرسام والمسرحي سهيل ابو نوارة
-
بمناسبة عيد الأم: ستبقين أمي...
-
فلسفة مبسطة: أمباتيا، اباتيا واتاراكسيا ..
-
قصص فلسفية - الحلقة الأولى
-
فلسفة مبسطة: علم المنطق
-
8 ﺁﺫﺍﺭ 2016 في ظل القمع للمرأة ف
...
-
فلسفة مبسطة: طالبوا الإله ..
-
فلسفة مبسطة: الصراع الطبقي .. من ستالين حتى زينب!!
-
تجربتي والتباس الوعي القصصي عند البعض
-
الثورة العلمية التكنولوجية أنتجت واقعا اقتصاديا- اجتماعيا جد
...
-
وداعا للأديب الفلسطيني سلمان ناطور
المزيد.....
-
العثور على مركبة تحمل بقايا بشرية في بحيرة قد يحل لغز قضية ب
...
-
وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان يدخل حيّز التنفيذ وعشرات
...
-
احتفال غريب.. عيد الشكر في شيكاغو.. حديقة حيوانات تحيي الذكر
...
-
طهران تعلن موقفها من اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنا
...
-
الجيش اللبناني يدعو المواطنين للتريّث في العودة إلى الجنوب
-
بندقية جديدة للقوات الروسية الخاصة (فيديو)
-
Neuralink المملوكة لماسك تبدأ تجربة جديدة لجهاز دماغي لمرضى
...
-
بيان وزير الدفاع الأمريكي حول وقف إطلاق النار بين إسرائيل ول
...
-
إسرائيل.. إعادة افتتاح مدارس في الجليل الأعلى حتى جنوب صفد
-
روسيا.. نجاح اختبار منظومة للحماية من ضربات الطائرات المسيرة
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|