سامي العباس
الحوار المتمدن-العدد: 1387 - 2005 / 11 / 23 - 10:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"لا تطرح الإنسانية على نفسها قط سوى مسائل قادرة على حلها "
تضيء هذه المقولة الماركسية عطبا جوهريا في الوعي الذي تشكل على هامش عملية المثاقفة مع الغرب عموما ,ومع المعسكر الاشتراكي على وجه الخصوص .
ذلك أن النخب التي انقسمت على خلفية المصالح الطبقية ذات التخوم الغائمة بفعل الانتقال المتأخر إلى الرأسمالية, انقسمت أيضا حول الأسئلة التي تطرحها بنية اقتصادية ـاجتماعية تعيش شرطا مختلفا. ولذلك فإن المثاقفة قد سربت إلى وعي النخب العالم ثالثية ما يلزم وما قد لا يلزم لجهة الشرط التاريخي .
وإذا كان ما يميز الوعي المطابق عن الوعي الزائف هو قدرة الأول على التقاط الأسئلة الجوهرية التي يطرحها الشرط التاريخي ,فإن ما يميز الوعي الزائف هو أيضا قدرته على إغماض العين عن الأسئلة الجوهرية ,والهرب باتجاه الأسئلة الثانوية في حركة متعجلة هي أشبه بمحاولة تقشيرالبيض قبل سلقه. إنه الوعي الذي يلهث وراء آخر الصرعات الفكرية الوافدة دون التوقف لالتقاط الأنفاس ومحاولة للهضم والتمثل.
ولقد تحول الاستبداد الذي يعيد إنتاج نفسه في الحوض التركي ـ العربي طيلة ألف عام من ظاهرة فكرية - سياسية إلى ظاهرة سيكولوجية . وتقلصت المساحة التي تتحرك فيها ميول البشر النقدية إلى الحديقة الداخلية للحواس . ذلك أن الحاكم والمحكوم والفرد والمجتمع ,والعقل ومعتقداته قد أمسكوا بخناق بعضهم البعض بطريقة يصعب فيها الانفكاك ولو للتنفس ...
إن التنوع الذي ولدّته حركة المثاقفة مع الغرب , لم يبني جسورا للحوار بل حفر خنادق للتمترس ,فتحولت على سبيل المثال :اللينينية والتروتسكية والماوية في إطار الأيديولوجية الماركسية التي تظلل الجميع إلى مذاهب تتقاذف تهمة الهرطقة بكفاءة أعلى مما مارسته الديانات الإبراهيمية الثلاث بحق بعضها البعض . بهذه العقلية القادرة على تجفيف نضارة وحيوية كل ما يرد إليها بكفاءة تدعو للحسد, تتسلح نخبنا الثقافية لمواجهة المهام الإضافية التي رتبتها على عاتقها عملية الانتقال المتأخر إلى الرأسمالية كما يلمّح إلى ذلك المفكر عبد الله العروي "إن الانتقال المتأخر إلى الرأسمالية يتم تحت راية القيادة الواعية للمفكرين والفلاسفة ,لا تحت القيادة العمياء للمحامين ورجال الأعمال"(1)
من أين يأتي كل هذا اليباس العقلي ؟
سؤال يطرح نفسه بعد نصف قرن من ترنح خطابنا الأيديولوجي على حافة المدارس الفكرية ـالسياسية الوافدة ( الليبرالية /الماركسية /والقومية الاشتراكية )
ولعل الإجابة على هذا السؤال تقتضي الغوص بالتحليل إلى عدة مستويات وهي على الترتيب :
المستوى السياسي - فالمستوى الأيديولوجي - فالمستوى الاقتصادي ,مع ملاحظة أن الأبواب مفتوحة بالاتجاهين بين هذه المستويات الثلاث لجهة علاقة التحدد والتحديد, بحسب مفهوم المفكر الراحل مهدي عامل التي تربط المستويات الثلاثة بعضها ببعض.(2)
إن العجز مثلا عن إنتاج السياسية كظاهرة مستمرة في التاريخ العربي تغوص جذوره في المستويين : الأيديولوجي
"الإسلام كدين يحصر حركة العقل في إطار النص المقدس الموحى به ".وفي المستوى الاقتصادي :"نمط الإنتاج الخراجي المستمر بتنويعات مختلفة ,والذي يعطي لمؤسسة العنف مفاتيح التحكم بالثروة الاجتماعية".
فمن الخلفاء في العهد الراشدي والأموي والعباسي الأول ,إلى مختلف أنواع السلاطين الذين ارتقوا من داخل مؤسسة العنف التي بدلت عصبياتها بالمفهوم الخلدوني :العربية ,فالفارسية فالتركية ـ بدءا من القرن العاشر وحتى القرن العشرين ـ ظلت الثروة الاجتماعية بين يدي من يمسك بمؤسسة العنف . وكان الخراج هو الشكل الذي تتخذه عملية تمركز الثروة . فمن الحرفيين إلى التجار إلى عبيد الأرض ظلل الخراج الجميع بظله الثقيل. وكان النهب يصل في كثير من المنعطفات التي يصنعها المناخ تارة ,أو تبدل طرق التجارة الدولية,أو انفراط طويل الأمد لمؤسسة العنف إلى مؤسسات متطاحنة ,كان النهب يصل أحيانا إلى قتل الدجاجة التي تبيض ذهبا . ويفتح الباب على المجاعات والأوبئة وانكماش مذهل لقوى الإنتاج . (سورية في العهد البيزنطي والأموي والعباسي تعدا ربعة ملايين.تنحدر في العهد المملوكي,فالعثماني بشكل خاص الى المليون )(3)
وإنه لأمر ذي دلالة ,أن محاولات الإصلاح الأولى في العالم العثماني ,سواء في مركز السلطنة العثمانية زمن السلطان محمود الثاني ,أو في أطرافها ( مصر محمد علي باشا ) قد اصطدمت بهذا التحالف الطويل الأمد في العالم الإسلامي بين مؤسسة العنف من جهة (الإنكشاريون في السلطنة ,والمماليك في مصر) ,وبين الأكليروس الديني الذي يجتر بتمهل ومهابة ديانة تقلصت وظائفها إلى وظيفة وحيدة :هي تبرير وتسويغ إعادة إنتاج الغلبة كصيغة وحيدة لممارسة السياسة.(4)
على هاتين الأرضيتين :الأيديولوجية والاقتصادية يثَبت الاستبداد الشرقي قدميه مواجها كل رياح التغيير القادمة من مجتمعات أعادت ترتيب بيتها الداخلي في مجرى تحولها إلى نمط الإنتاج البورجوازي .
و..عند هذه النقطة من التحليل يثور السؤال التالي :
إذا كان الإستبداد هو شكل ممارسة السياسة في التشكيلة الاقتصادية ـالاجتماعية ( الخراجية),وإذا كان التحول نحو الرأسمالية كنمط إنتاج أرقى قد قطع شوطا حاسما في حقل البنية الاقتصادية,فلماذا تأخر إنجاز هذه التحولات في البنيتين الأيديولوجية والسياسية للحالة العربية ؟
أظن أن الجواب على هذا السؤال يكمن في طبيعة الانتقال المتأخر إلى الرأسمالية.
ذلك أن احتلال الوعي مركزا متقدما في هذه العملية التاريخية هو في لب هذا الميل إلى الاستبداد. فمن الوعي إلى الهيمنة هناك طريق باتجاه واحد وبلا تفرعات جانبية . يبرهن على ذلك ـ باستثناءات نادرةـ تلازم الانتقال المتأخر إلى الرأسمالية مع ظهور الديكتاتورية والفاشية بدأ من أوروبا (ألمانيا ـ إيطاليا ـ أسبانيا ) مرورا إلى أمريكا اللاتينية و وصولا إلى الحوض الإسلامي والبوذي والمسيحي في آسيا وأفريقيا .
قد يثار حول هذا الاستنتاج مجموعة من الأسئلة حول علاقة الاستيلاد القائمة على التوالي بين الوعي والهيمنة . ذلك أن مفهوم الوعي قد تم تنقيته في الاستخدام النظري من السلب . ولذلك فإن هذه الإشكالية قد قادت المشتغلين بالعلوم الاجتماعية إلى استيلاد عائلة متفاوتة القرابة بالمفهوم تساعد على توسيع رقعة استخدامه. على سبيل المثال : الوعي /الوعي الزائف / الوعي المطابق / الوعي المفوت ...الخ .
* * *
بالعودة إلى المدخل الرئيسي حول التقاط المهام التي أنضجها الشرط التاريخي, ووضعها في موضع التنفيذ من قبل أنتلجنسيا البلدان التي تأخر فيها الانتقال إلى الرأسمالية .
يمكن القول أن مفهوم المهام المركبة الذي هيمن منذ نصف قرن على الخطاب الأيديولوجي للجناح اليساري من الانتلجنسيا العربية بشقيه(الشيوعي,و القومي ـالاشتراكي ). إن هذا المفهوم قد جرى نحته تحت ضغط الأوهام التي تتولد من جدلية :الوعي /الإرادة المتفلتة من محددات الشرط الموضوعي .
يظن المثقف الثوري أن تحويله فكرته النظرية إلى أيديولوجية ذات طابع جماهيري ,يكفي للقفز فوق الشرط الموضوعي. ولذلك فإن النزعة الإرادوية كانت النزعة المهيمنة على كامل الخطاب السياسي ـ الاجتماعي لليسار العربي طيلة نصف القرن المنصرم . إلا أن الانزلاق نحو الإرادوية لم تكن فقط تطرح مهاما مستحيلة ,بل وأيضا في خلفية الإنزلاق نحو الاستبداد ,إذ أصبح هذا الأخير هو القاسم المشترك التي تجمع عليه الأمةبحكامها ومحكوميها بآكلي الكعكة,والمتطلعين إلى المشاركة .
هكذا يصبح الاستبداد كائنا عضويا لا يعش عائما على السطح السياسي ,بل تنغرس لوا قطه في المستويين الأيديولوجي والاقتصادي .
إن رأسمالية الدولة سواء بصباغها الاشتراكي ,أو القومي ـ الاشتراكي هي على قرابة روحية بنمط الإنتاج الخراجي لجهة الكيفية التي يتم فيها انتزاع فضل القيمة ومركزة الثروة. وهذه القرابة هي القاع الاقتصادي لظاهرة الاستبداد .
* * *
هوامش : 1- العرب والفكر التاريخي – عبد الله العروي
2- في التناقض – مهدي عامل
3- كارلو شيبولا-التاريخ الاقتصادي لسكان العالم-ترجمة الياس مرقص
4-( كان الحديث المنسوب للخليفة الثالث : عثمان بن عفان " يزع السلطان ما لايزعه القرآن " في أساس هذا التوازن الذي أفضى إليه الجدل بين المشروع النظري للنبي محمد و الشرط التاريخي "البيئة الإقتصادية – الإجتماعية لمجتمع الجزيرة العربية " لقد تحول الإسلام في الممارسة تحت ضغط الشرط الإجتماعي – الإقتصادي عن كثير من وعوده الطوباوية , وليرسي في القرن الأول الهجري قواعد امبراطورية تتكئ على ما يسميه محمد جابر الأنصاري بالإتحاد المرن للقبائل الرعوية العربية . ولم يكن ما جرى في القرون التالية سوى تعديل بسيط على هذه الصيغة الإمبراطورية , لجهة استبدال العصبية العربية , بالفارسية , فالتركية على التوالي في سيرورة تحَول العصبيات الرعوية إلى الإستقرار , فالتحضر , فالضعف . غير أن حصة القرآن في الوزع قد تقلصت بالتدريج
لصالح حصة السلطان )
ملاحظة..تشبه العبارة اعلاه (يزع...) كفتي ميزان ,تحتوي الكفة الاولى القرآن ’ وهو في التجربة الاسلامية محاولة لتقنين استخدام العنف وتجريده ورفعه الى السماء , في اطار المسيرة العامة للتجريد العقلي التي باشرها الدماغ عند نقطة نجهل احداثياتها حتى الآن بين الرئيسيات , تفرع منها الكائن البشري ..وتحتوي الكفة الثانيه :السلطان كرمز أرضي للقوة التي يلجأ اليها اليشر لفض نزاعاتهم ..والقرآن من هذه الزاوية مساحة اوسع للحرية الفردية ينتزعها المسلم من فضاء الاكراهات التي تحيط بها الجماعة الفرد..ولعل لب التصوف الاسلامي في القرون التالية قد تشكل حول موضعة الردع داخل مفهوم الله (القرآني) عند نقطة مشتركة بين الخالق والمخلوق..وفي هذا السياق يندرج الحديث المنسوب الى الرسول محمد ((أفت قلبك)) اللذي يفوح برائحة التصوف ..ففي المعركة المفتوحة حتى الآن والتي اندلعت بعيد وفات محمد للهيمنة على المقدس وإحلاله مكان السياسة في إدارة الاختلاف ,استخدم ويستخدم المتنافسون الأحاديث المنسوبة للرسول عدة حرب ,سيما والاحاديث المنسوبة تحتل مكانتها في مقدمة طابور لم ينتهي من التفاسير للنص القرآني..كانت محاولة المتصوفة لتقليص وظائف المقدس في الممارسة الاسلامية,وحصرها في علاقة شفافة بين المؤمن وربه هي محاولة لانتشال الاسلام كدين من الاستعمال المبتذل اللذي وضعه في معظم الاحيان في مواجهة مع وظيفته الرئيسية:التي حددها الرسول محمد في الحديث المنسوب اليه 0(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)..إلا أن الاسلام في التاريخ لم يخرج عن المصير البائس لكل طفرة في المعنى,إذ سرعان ما تتلقفها إرادات الهيمنة المتعشقة مع جدلية المصالح التي تحكم الاجتماع البشري لتعيد توظيفها في الجدلية الأعم التي تصنع هذا المسار اللولبي للأنسنة
#سامي_العباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟