غسان ابو العلا
الحوار المتمدن-العدد: 5118 - 2016 / 3 / 30 - 00:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمتد جذور الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي عميقاً في غياهب التاريخ المنسيّ غالباً والمكتوب أحياناً والمؤسطر المرفوع إلى مقام الآلهة الذين ساهموا بدورهم في تأجيج هذا الصراع وترسيخه في الوعي الجمعي عبر الحضّ عليه في الكتب المنزلة من السماء وتأليب شعوبهم المختارة بعضاً على بعض والوعد بتخصيص القتلى من الطرفين بأسمى وأبجل المراتب في الحياة الآخرة. إذ شهد هذا الصراع العديد من التحوّلات في مراحل تاريخيّة عديدة فتقلّب بين صراعٍ قبليٍّ فدينيٍّ فإثنيّ أو قوميّ. فرغم أن اليهود نظريّاً هم من أهل الذمّة في الإسلام, أي أصحاب الكتب السماويّة المعترف بها, ويشاركون أتباع الدين المسيحي في هذه الصفة التي تجعلهم بمقام المسلمين عدا عن إلزامهم بدفع الجزيّة للدولة الإسلاميّة مقابل حماية أمنهم الإجتماعي والإقتصادي إلّا أن الصيرورة التاريخيّة وسياقاتها السياسيّة والإجتماعية نهجت منهجاً لم يعكس يوماً هذه المهادنة المفترضة.
يعود تاريخ الصدام الأول بين القبائل البدويّة الإسرائيليّة ونظيراتها الكنعانيّة إلى أواخر القرن الثاني عشر ق.م أو أوائل القرن الحادي عشر ق.م عندما توجّه بنو إسرائيل إلى أرض الكنعانيّين, أبناء عمّهم الذين سبقوهم في الهجرة إليها من جنوب غرب شبه الجزيرة العربيّة قبل نحو 1500 عاما, قادمين من مصر التي استعبدهم فراعنتها لما يقارب الأربعمئة عام قبل ان يخرجوا هاربين بقيادة نبيّهم موسى ويتجّهون نحو أرض فلسطين بعد تيهٍ دام 40 عاما في صحراء سيناء حسب الرواية التوراتيّة. ويشكّك الكثير من الباحثين في هذه الرواية ويميلون إلى اعتبارها من نسج الخيال وقد اخترعها الفكر الديني اليهودي زمن السبي البابلي خصوصاً أن أسطورة انتشال موسى من الماء وتربيته في القصر تتشابه مع اسطورة سرجون الأكادي مؤسس السلالة الأكاديّة في النصف الثاني من القرن الرابع والعشرن ق.م, كذلك الأساطير الأخرى كالطوفان وأهل الكهف وما شابه وإن كان بعض الباحثين يتمسكّون بتاريخيّة موسى لإنعدام إمكانية فهم التاريخ الإسرائيلي في حالة نفيها ونفي الخروج من مصر.
رغم شيوع مصطلح "الساميّين" الذي سكّه العالم النمساوي شلوتسر عام 1781م مستعيراً الإسم من الإسطورة التوراتيّة التي قسّمت البشريّة في سفر التكوين إلى ثلاثة أقسام جاءت جميعها من صلب أبناء نوح الثلاثة, سام وحام ويافث, إلّا ان المعني بهذا المصطلح حقيقةً هو العرب. إذ أن جميع الشعوب الساميّة التي استوطنت بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين تشكّلت من هجراتٍ متتاليةٍ من قبائل شبه الجزيرة العربية, وهو ما يراه عددٌ من المستشرقين بينهم المؤرّخ لويس سبرنجر. ومن الشعوب العربيّة التي استوطنت فلسطين في فتراتٍ متعاقبة, إضافة إلى الكنعانيّين والإسرائيليّين كان هناك العماليق الذين تمدّدوا من مصر عبر سيناء حتى وصلوها, والمعينيّون الذين أقاموا مملكتهم في اليمن (1300-630 ق.م) وامتدت عبر شمال الحجاز لتصل إلى جنوب فلسطين. وكذلك الميديانيون وقبائل قيدار وجثم والأنباط الذين أقاموا دولتهم في القرن الخامس ق.م على التخوم الشرقيّة لنهر الأردن وكانت عاصمتها البتراء وكذلك الفلستيّون, وإن كان الآخيرون مختلفاً عليهم.
يكاد أغلب الباحثين يجمعون على أن الفلستيّين هم من شعوب البحر المقاتلة التي قطنت جزر بحر إيجة وخصوصاً جزيرة كريت قادمةً من اليونان وأواسط أوروبا. احتلت هذه القبائل سواحل سوريا أواخر القرن الثامن عشر وانطلقت منها لتهاجم مصر في عهد رعمسيس الثاني لكن الأخير تمكّن من صدّهم في معركة بحرية عام 1191 فانكفأوا إلى ساحل جنوب فلسطين حيث أسسوا مدناً خمسة هي غزة وعسقلان وجت وعقرون وأسدود. ولقد ذابت هذه القبائل تدريجيّاً في القبائل الكنعانيّة التي غزّتها فتبنّت آلهتها ولغتها ثم اصبحت جزءاً لا يتجزّء منها.
على أن باحثين آخرين يرجعون أصل الفلستيّين, ومعهم الإسرائيليّين إلى منطقة عسير شمال غرب شبه الجزيرة العربيّة. ويؤكّد جورج صليبي في كتابه "التوارة جاءت من جزيرة العرب" على أن الفلستيّين هم قبائل سكنت ساحل عسير وكانوا يتكلمون نفس لغة العبرانيين كما تشير أسمائهم, ابيمالك واحزّات بمعنى الآخذ, وتشير لهم التوراة بطريقة خاص على أنهم الغلف اي غير المختونين . وكان لهم إلههم الخاص داجون (من دجن أي حنطة أو طحن) وهنا تلاحظ ظاهرة قلب حرفي الحاء والخاء تماما مثل ظاهرة التبادل المعتادة بين حرفي الشين والسين أو العين والغين أو الصاد والظاء. ولا يزال يوجد إلى الآن قرية تدعى الفلسة (ويقابلها بالعبرية فلشة) تقع في حوض وادي بيشة في عسير إلى الشمال من قرية القرارة. ويفسّر صليبي تحريف الإسم بقوله "لو أطلق الإسم العبري على سكانها (قرية الفلسة) لسمّوا فلشتيم وهو جمع النسبة بالعبرية. ويضيف بأن الفلستيّين قد أطلقوا على مدنهم أسماء هي في الأصل أسماءٌ لأماكن في غرب شبه الجزيرة التي جاؤوا منها مثل غزّة وعسقلان. ويرى أيضاً ان الأسماء الساميّة لآلهتهم مثل داجون , الذي يعني الحنطة بالعبريّة مردّها إلى كونهم ساميّين عرب وليس إلى اعتناقهم الديانة الكنعانيّة لاحقا. لكن مسألة إشارة التوراة إلى الفلستيّين بكونهم الغلف التي أوردها صليبي تنقض نظريته دون أن ينتبه إلى ذلك, إذ أن الختان هو تقليدٌ تتّبعه كافة القبائل العربيّة ولا يختصّ باليهود فقط كما تذكر التوراة. وقد يكون هذا التقليد قد انتقل إلى شبه الجزيرة قادماً من أفريقيا وبالتحديد من القرن الإفريقي عبر البحر الأحمر. ولربما أن الهجرات العربيّة إلى مصر وشمال إفريقية هي التي حملت نفس التقليد إلى الأراضي المصريّة وإن كان لا يوجد ما يؤكّد هذا الأمر أو ينفيه.
إثر موجة الهجرة الكنعانيّة/الأموريّة استوطن الأموريّون في جنوب وشرق بلاد الشام فيما حلّ الكنعانيّون في ساحلها وجنوبها الغربي أي ما يعرف اليوم باسم فلسطين. وقد ارتحل لاحقاً جزءٌ من أموريّي الداخل الشامي نحو العراق وشكّلوا فيها السلالة البابليّة وكان ذلك حوالي القرن التاسع عشر ق.م. ورغم أن الصدام الحربي الأول بين الإسرائيليّين والكنعانيّين (ومعهم الفلستيّين) قد حدث أواخر القرن الثاني عشر أو أوائل القرن الحادي عشر ق.م إلّا أن بعض الباحثين يرجعون تاريخ استيطان بني إسرائيل السلميّ لأرض كنعان إلى أواخر القرن التاسع عشر ق.م وينسبونهم إلى العرب الأموريّين, مما يرجّح عندي الميل إلى فرضيّة ان الإسرائيليّين ما هم إلّا قبيلة كنعانيّة أساساً, اضطرتها ظروف القحط في أرض كنعان إلى الهجرة نحو مصر, إذ ان الكنعانيّين هم أنفسهم الأمّوريون وكذلك الفينيقيون وقد اكتسبوا اسماءهم المختلفة إما من مناطق سكناهم أو من تسمياتهم من قبل مختلف الحضارات المجاورة لهم. وإذا صحّت قصة الإستعباد التوراتيّة فإن أربعة قرونٍ كانت كافيةً لجعل قبيلة بني إسرائيل تتخّذ لنفسها كياناً خاصاً بها وتنفصل عن جذورها التي طواها النسيان, خصوصاً ان الإختلاط أو على الأقل التماس الثقافي والإجتماعي مع المصريّين لا بدّ قد عدّل جوهريّاً في عادات وتقاليد وحتى ديانة هذه القبيلة المهاجرة ثم المستعبَدة ثم الهاربة إلى أرض الميعاد.
إن موجة الهجرة الكنعانية /الأموريّة من جنوب غرب شبه الجزيرة العربية نحو بلاد الشام التي حدثت أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد لم تكن الوحيدة بهذا الإتجاه فقد سبقتها وتبعتها العديد من الهجرات الساميّة العربيّة. ويرجّح ان اول هذه الموجات هي تلك التي حدثت حوالي العام 3500 ق.م ونزلت في أرض مصر واختلطت مع سكانها الأفارقة وهذا الخليط هو الذي كوّن الشعب المصري الذي نعرفهم في التاريخ. وكذلك تعرّضت بلاد الشام لموجة نزوحٍ جديدة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد هي الموجة الآرامية التي ضمّت أيضاً قبائل المؤابيّين والعمونيّين والأدوميّين, فاستوطن الآراميّون وسط وشمال سوريا وأسّسوا دولاً/مدناً حضريّة بينها دولة مدينة دمشق وتأثروا بالحضارة الكنعانية/الأموريّة التي سبقتهم إلى المنطقة, بينما سكّن المؤابيّين والعمّونيّون والأدوميّون جنوب سوريا بمحاذاة نهر الأردن في المساحة الممتدّة من شمال البحر الميّت إلى منطقة خليج العقبة. ومن أهم الهجرات العربية التي لعبت دوراً في تاريخ بلاد الشام هي الموجة التي حدثت في القرن الخامس ق.م وشهدت نزول العرب الأنباط في جنوب الشام وتبعهم لاحقاً اللخميّيون والغساسنة. وجاءت موجة الهجرة الساميّة الأكبر في تاريخ تلك المنطقة في القرن السابع للميلاد حين اجتاحها العرب المسلمون مع ما اجتاحوه من مناطق أخرى شملت فارس وأجزاء من آسيا الوسطى وأيضاً شمال إفريقيا ثم أجزاء من القارّة الأوروبيّة.
غسان أبو العلا
#غسان_ابو_العلا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟