|
باريس تشتعل مرة اخرى
يعقوب بن افرات
الحوار المتمدن-العدد: 1384 - 2005 / 11 / 20 - 10:14
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
فرنسا باريس تشتعل مرة اخرى
في حين كانت باريس تشتعل، كانت الاطفائيات تخمد الحرائق في العاصمة الارجنتينية بوينس ايرس. وجاء ذلك ضمن مظاهرات احتجاجية ضد الرئيس بوش الذي كان يزور البلاد للمشاركة في قمة الامريكتين. لقد فشل المؤتمر لان شعوب المنطقة ترفض السياسة الامريكية التي ادت في معظم دول امريكا اللاتينية الى بطالة تصل 40% بين الشباب، المشكلة ذاتها التي يعانيها شباب ضاحية كليشي في باريس. يعقوب بن افرات
مدينة الانوار تضيئها في الايام الاخيرة مئات السيارات المشتعلة غضبا. العالم كله يقف مذهولا، باحثا عن الاسباب التي ادت الى اكبر ازمة تمر بها الجمهورية الفرنسية منذ احداث 1968. التفسير الرائج للاحداث هو فشل نموذج الدمج الفرنسي، الذي لا يعترف بوجود اقليات من سود ومغاربة وآخرين، بل يعتبر الجميع متساوين، الجميع ابناء الجمهورية الفرنسية، وذلك حسب دستور ومبادئ الجمهورية التي تأسست عام 1793.
غير ان عدم الاعتراف بالاقليات لم يكن تعبيرا عن روح المساواة والاخاء، بقدر ما كان تعبيرا عن تجاهل ورفض الحكومة للاعتراف بالوضع الاجتماعي والاقتصادي الخاص الذي يعانيه مواطنوها من الاصول الافريقية والشمال افريقية. وهو الوضع نفسه الذي تعامل به الولايات المتحدة مواطنيها من الاصول الامريكية اللاتينية او الافريقية. وكذلك تتعامل بريطانيا مع مواطنيها الهنود والباكستانيي الاصل.
ورغم ان فرنسا تعرّف نفسها بانها ام الكل و"دولة الجميع"، ولكن مضى وقت طويل منذ كان الدين المسيحي واللون الابيض يوحد مواطنيها ويغطي على الفوارق الطبقية بينهم. ومع انتشار اسماء مثل محمود وزين الدين زيدان، اكتشفت الجمهورية انها تفضل اسماء مثل بيير وجاك. واكتشف المغاربة ايضا انهم اذا ارادوا الاندماج في الجمهورية والارتقاء في السلم الاجتماعي، فلا يكفي ان يولدوا في الوطن الفرنسي، بل عليهم تغيير اسمائهم، وحتى هذا لن يكفي.
مشكلة طبقية قديمة
المشكلة لا تقتصر على الفوارق العرقية او الدينية، بل هي طبقية من الدرجة الاولى. ان كلمة الصعاليك (scum) التي وصف بها وزير الداخلية، نيكولاي ساركوزي، شباب الاحياء الفقيرة تكررت اكثر من مرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية. في الجمهوريات الاربع السابقة ايضا كان صعاليك، ولكن في كل مرة كانوا من نوع آخر. ماركس وصف الجمهورية التي عاصرها بانها "دكتاتورية البرجوازية" وذلك لاستيلائها على مقاليد الحكم حفاظا على مصالحها الاقتصادية الخاصة.
"الصعاليك" الاوائل كانوا العمال الذين شاركوا في الاطاحة بالملكية الدستورية عام 1848، لصالح بناء النظام الديموقراطي. ولكن عندما طالب هؤلاء بحق الاقتراع والعمل، اتُّهموا بإحداث اعمال شغب وفوضى. وكان ذلك مقدمة لقيام البرجوازية بذبح 3000 عامل حملوا اسماء مثل بيير وجاك، وليس محمود وعبد الله. لقد سقط هؤلاء العمال دفاعا عن حقهم الديموقراطي، تحت وابل من رصاص النظام الحاكم، ولم يتمكنوا من رفع رؤوسهم الا بعد اكثر من 20 عاما عندما تكون في باريس اول نظام عمالي (كومونة باريس) عام 1871.
الجمهورية البرجوازية الفرنسية، كسائر الجمهوريات الرأسمالية، لم تفشل فقط في دمج الاعراق المختلفة، بل فشلت في دمج عمالها من نفس العرق. فهي لم تضمن لهم حتى الحق الاساسي الذي يطالبون به منذ 150 عاما: الحق بالعمل. وبغض النظر عن عِرق او دين الشباب المنتفضين، فما يميزهم هو كونهم عاطلين عن العمل دون هوية ومستقبل. انهم مستعدون ان يحرقوا الاخضر واليابس من منطلق شعور بالغضب وعدم ايمان بصدق شعار الجمهورية "حرية، مساواة، اخاء".
ان جذور المشكلة لا تكمن في قرار الرئيس بومبيدو مطلع السبعينات استيراد ايدي عاملة رخيصة من المغرب العربي، بل تعود الى ما قبل 200 عام، عندما استولت النخبة الرأسمالية على الجمهورية منذ اليوم الاول لتأسيسها.
بين فرنسا وامريكا
وأكثر من ذلك. الفشل لم يكن مصير النموذج الفرنسي بل الرأسمالي بشكل عام. فقبل فترة وجيزة شهدنا كيف تصرفت الولايات المتحدة نفسها مع مواطنيها الفقراء في نيو اورليانز. فالولايات المتحدة تعتبر اول جمهورية في التاريخ المعاصر، اذ تأسست عام 1776 اي قبل الثورة الفرنسية ب13 عاما. ومع ان دستورها يتحدث عن المساواة، فقد غرق مواطنوها الفقراء في اعصار كاترينا في حين نجا الاغنياء. العاطلون عن العمل الامريكيون، مثل الفرنسيين، مهمشون ومحبطون، ولذا ينفجرون بين الحين والآخر ليذكّروا المجتمع بوجودهم.
ولتأكيد هذه النقطة بالضبط، لا بد من التطرق الى حادثة مهمة جدا تضع الاحداث في فرنسا في سياقها الصحيح. ففي حين كانت باريس تشتعل، كانت الاطفائيات تخمد الحرائق في العاصمة الارجنتينية بوينس ايرس. وجاء ذلك ضمن مظاهرات احتجاجية ضد الرئيس بوش الذي كان يزور البلاد للمشاركة في قمة الامريكيتين.
على جدول اعمال المؤتمر كان التوصل لاتفاق حول تشكيل منطقة تجارة حرة تشمل دول القارة الامريكية من الاسكا للارجنتين. ولكن القمة فشلت لان شعوب المنطقة ترفض السياسة الامريكية في المنطقة والعالم. فقد اسفرت هذه السياسة في اغلبية الدول في امريكا اللاتينية عن بطالة تصل 40% بين الشباب، المشكلة ذاتها التي يعانيها شباب ضاحية كليشي في باريس.
ان الفقر والتمييز ليس مشكلة الدول الفقيرة فقط، ولا هو قضية اضطهاد لدين معين. انه ظاهرة اممية تستهدف الطبقة العاملة في العالم قاطبة. ان تكون عاملا اليوم يعني عدم استقرار في مكان العمل، ساعات طويلة، اجور زهيدة، دون حقوق اجتماعية وخطر يومي يتهددك بالبطالة. ان ظاهرة العمال الاجانب الذين يعملون بلا تصاريح عمل، تشمل كل الدول الرأسمالية المتطورة.
ان مصير نيو اورليانز، كليشي، بوينس ايرس وبكين - واحد. وما يحدث في باريس ليس سوى اشارة واضحة بان السيل قد بلغ الزبى، وان النموذج الرأسمالي الحالي موجود في طريق مسدود، وهو غير جاهز لمعالجة المشاكل الاجتماعية الجمة الذي يخلقها بنفسه بسبب ايثاره الربح على رفاه المجتمع.
ولا يمكن عزل هذه الاحداث الكبيرة عما حدث هنا عندنا في اكتوبر 2000. فالمنتفضون في المدن والقرى في المناطق الفلسطينية وداخل اسرائيل، كانوا من الشباب والعمال الذين تحولوا الى عاطلين عن العمل بسبب سياسة حكومية مقصودة، فضّلت قلة من الرأسماليين المتنفذين على اغلبية المجتمع. ان ضاحية كليشي الفرنسية موجودة في كل حي فلسطيني في غزة والضفة والغربية وداخل اسرائيل.
ليست هي انتفاضة اقصى او وطن، فليس للعمال وطن كما قال ماركس. الوطن هو العمل، مصدر الرزق، الحياة بكرامة، المساواة والتضامن بين كل العمال في العالم. وكما ان مشكلة كليشي ليست فرنسية فحسب، كذلك ام الفحم وغزة ليست مشكلة فلسطينية، بل اممية شكلا وطبقية مضمونا، ولا حل جذري لها الا من خلال تغيير النظام الرأسمالي واستبداله بنظام انساني جديد، نظام اشتراكي يخدم مصلحة المجتمع والانسان اولا واخيرا.
#يعقوب_بن_افرات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حرب اهلية فلسطينية على الابواب
-
كاترينا تعصف بشعبية بوش
-
نشوء وسقوط الامبراطورية الرأسمالية
-
شارون يرسم الحدود وحده
-
شرق اوسط جديد؟
-
امريكا:مجتمع المُلكية ينقلب على دولة الرفاه
-
هبوط الدولار يهز العالم
-
الانتخابات الامريكية الدين يلعب لصالح بوش
-
بين الواقع وعدم الواقعية
-
عرفات ودحلان لا يلتزمان حتى النهاية
-
الفوضى تستبدل الانتفاضة
-
سعر النفط يهز اقتصاد العالم
-
اعادة الانتداب المصري
-
بناء الحزب العمالي مهمتنا الملحّة
-
مغامرة بوش وشارون تعمّق الفوضى
-
شارون يسلط سوط الانسحاب
-
البورصة الامريكية تنتظر الحرب
-
دعم ينطلق لبناء الحزب العمالي - اسرائيل
-
انتفاضة شعبية في بوليفيا
-
دعم يبني اسس- الحزب العمالي
المزيد.....
-
الجمهوري أرنولد شوارزنيجر يعلن دعمه للديمقراطية كامالا هاريس
...
-
وفد روسي يصل الجزائر في زيارة عمل
-
كوريا الشمالية: تصرفات الولايات المتحدة أكبر خطر على الأمن ا
...
-
شاهد.. ترامب يصل إلى ولاية ويسكونسن على متن شاحنة قمامة
-
-حزب الله- ينفذ 32 عملية ضد إسرائيل في أقل من 24 ساعة
-
بريطانيا وفرنسا وألمانيا تدعو إلى التجديد العاجل للخدمات الم
...
-
وسائل إعلام: تقدم في المفاوضات حول وقف إطلاق النار بين إسرائ
...
-
وفد روسي يصل الجزائر في زيارة عمل (صور)
-
إعصار كونغ-ري يقترب من تايوان والسلطات تجلي عشرات الآلاف وسط
...
-
ما هي ملامح الدبلوماسية الأميركية المستقبلية في الشرق الأوسط
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|