|
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 45
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 5105 - 2016 / 3 / 16 - 13:01
المحور:
الادب والفن
القسم الثالث
أشكال ومراحل إعداد جمال غسان كنفاني
1 – مدخل في علم الجمال يشير الامتلاك الجمالي للعالم من طرف الإنسان إلى صلة خاصة للعلاقة القائمة بين الذات والموضوع. وللإجابة على السؤال الأساسي: ما هو الامتلاك الجمالي للعالم؟ يجدر بنا أن ندمج هذا الامتلاك الجمالي للعالم في الصلة العامة التي يحافظ الإنسان عليها بالطبيعة. لقد تحددت هذه الصلة العامة بمقولة "العمل"، فالفن من خلال هذه الرؤية عبارة عن "عمل نوعي" للإنسان إلى جانب كل نشاطاته الإنسانية الأخرى التي تهدف إلى تغيير العالم والإنسان نفسه. بناء على ذلك، يندرج الامتلاك الجمالي بالضرورة في التطور العام لتأنيس الإنسان عَبر التاريخ، وهو عبارة عن نشاط داخل كلية الممارسة الإنسانية، مثلما جاء في مخطوطات 1844: "يمتلك الإنسان وجوده الكلي الجوانب بطريقة كلية الجوانب، لذلك، فهو إنسان كلي. كل الصلات الإنسانية بالعالم مثل البصر، السمع، الشم، الذوق، اللمس، الفكر، الملاحظة، الإرادة، النشاط، الحب، بالاختصار كل أجهزة ذاتيته، وكل الأجهزة التي هي مباشرة في أشكالها أجهزة اجتماعية في سلوكها تجاه الموضوع عبارة عن امتلاك هذا الأخير. إن امتلاك الواقع الإنساني، سلوكه تجاه الموضوع، هو تحقيق الواقع الإنساني، هذا الواقع الإنساني الذي هو متعدد الأجزاء مثلما هي القرارات والنشاطات الإنسانية متعددة الأجزاء." (1) فعل امتلاك العالم بكليته هذا يخلق في الوقت نفسه الإنسان بكليته، خصوصًا فيما يتعلق بالامتلاك الجمالي للعالم. وعلى التحديد، هذه الصلة النوعية بين الإنسان وموضوعه هي التي خلقت وما زالت تخلق غناء الطبيعة الإنسانية في تحريكها للعاطفة وقدرتها الخلاقة طبقًا لشروط الجمال. اعتمادًا منا على ذلك، ليس الجمال الديكور الذي يضيفه الإنسان للتحسين والتزيين، بل الطريقة الخاصة بالإنسان في امتلاكه الشيء –لا أن يصبح الإنسان شيئًا ممتلَكًا كما رأينا في "القبعة والنبي"- وهكذا فإن رهافة الأحاسيس الإنسانية عبارة عن عمل الجنس البشري عَبر التاريخ الشامل للإنسانية. غير أن عمل الامتلاك هذا جرى حتى اليوم في وضع تقسيم العمل الذي ولَّد تطورًا غير متساوٍ داخل مجتمع محدد. وحتى اليوم، لم تكن الثقافة النشاط المحرر لكل عضو في المجتمع، ولكن شغل بعض الاختصاصيين لصالح السلطة. حسب هذه القناعة التي هي الثقافة كنشاط محرر لكل أعضاء المجتمع، تصبح كل حركة اجتماعية صحيحة حركة ثقافية في وقت واحد. لكن ما جرى، بسبب تقسيم العمل المشئوم هذا، أن الامتلاك الجمالي أولاً بأول منذ مولد الطبقات المتصارعة كَبِنى اجتماعية تتداخل وتتخارج، وفي مجتمع متطور تتواشج وتتهادن، لكن ما جرى أن هذا الامتلاك الجمالي كان لصالح طبقة واحدة. لهذا، كانت التقييمات الجمالية في الغرب مشبعة بشكل أساسي بقيم الرأسمالية، وانطلاقًا من هذا الوضع في المجتمع الرأسمالي، عمم منظرو الفن بلا حياء ولا ذمة هذه التقييمات الجمالية، المحددَّة تاريخيًا، بصفتها "قيمًا كلية". أما الحقيقة، فهي ما أن تكون هناك بِنى اجتماعية مختلفة، هناك تقييمات جمالية مختلفة. مع ذلك، واجهت القيم العمالية والشعبية صعوبات كثيرة، فهي كانت مراقَبة ومقموعة، وكان ذلك النفوذ العميق المدموغ "بالسلاسل الإيديولوجية" الذي مورس على الإنتاجات الثقافية للعمال أو الموجهة إليهم وعلى الإنتاجات الحُلمية المناهضة للكابوس السائد تحت كل أشكاله. لم تتحرر الثقافة الإنسانية بعد من سلطة النظام الرأسمالي، لكننا نستطيع أن نرى بذورها في الأغنية الشعبية كما هي عليه في الموشحات العديدة الشعبية والعمالية، ونستطيع خاصة أن نراها في "الأدب المضاد" لكتاب مثل إيلوار، بريشت، أراجون. ويصبح التقييم المتعلق بالتقييمات الجمالية للنقد السلطوي موضوع احتقار عندما يبدأ النقاد السلطويون بالخداع والتزييف، وهم يتحدثون عن ثقافة جماهير وثقافة نخبة: "تمتد ثقافة الجماهير على المستوى اليومي، فتخترقه بواسطة الراديو، التلفزيون، الاسطوانة، لكنها لا تحوله، لا تغير وجهه، بل تترك سمات رتابتها وسلبيتها دون أن تصنع معه وَحدة، ولا أن تضفي عليه أسلوبًا. أما ثقافة النخبة، فهي فن مجرب، فن طليعي، أدب طليعي، منيع، متعذر تبسيطه للجماهير، خارج عن اليومي." (2) وكأن الخروج عن اليومي لا يمكن أن يكون ثقافة لكل الناس، وكأن أولوية الفن المجرب تتعارض مع البِنية الثقافية العامة في إطار تطور الأشكال الدالة. بصفة عامة، يبقى النقد السلطوي منغلقًا على نفسه تمامًا داخل الأمثلة الوحيدة للثقافة الغربية، فهو يكيل المدح لجويس وكافكا ويروست (الأمر نفسه لقباني ومحفوظ وأدونيس في الثقافة العربية) معتبرًا إياهم أسياد الفن بكل بساطة، بينما يجب تحديد أن هؤلاء الفنانين لا يمثلون إلا أوج فنهم الذي هو في انحطاط منذ ذلك الزمان. ويذهب هذا التعميم اللامقبول معًا و "نسيان" مطلق للجمال الجديد –يجب بالأحرى القول إن النقاد السلطويين لا ينسون بالمعنى الدقيق للكلمة لكنهم يحتقرون- مع تجاهل كلي لأدب بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بصفته أدبًا وارثًا لآلاف السنين من الإبداع الإنساني، وليس بصفة ميكانيكية، قبل أن تسقط تلك البلدان (البلدان العربية أولها) في أيدي شاربي الدم! وبينما يُبدي الفن السائد في الغرب أكثر فأكثر تفتيت القيم الإنسانية (أخلاقية وجمالية) دون أن يسحب منها العِبرة كما نفعل، ودون أن يرقى بفنيتها كما نحاول، فإن الفن الجديد في النصف الثاني من العالم يسير باتجاه مضاد، بمعنى أنه يطور أكثر فأكثر (أدب الواقعية الخيالية) أو أقل فأقل (أدب المقاومة الفلسطينية) الجمال الجديد للعالم الذي يتحرر، وليس الذي ينهار قبل أن تدور عجلته في الطريق المعاكس الذي يصور الانهيار التام عن وعي تارة وعن تشويه المثل الأعلى تارة، مَثَلُ كُتَّابه في ذلك مَثَلُ الذين عملوا على تشويه المثل الأعلى الجمالي منذ القرن التاسع عشر غداة السيطرة المطلقة للرأسمالية: "المثل الأعلى الجمالي عبارة عن وهم ما دام الإنسان ضائعًا في نفسه دون أن يستطيع شيئًا، ما دام العالم مثلما هو عليه، مثلما كان ومثلما سيكون، الصفة عبارة عن لا معقول، ما دام الفرد المغترب وأشباهه من المتعذر تمييزهم، والموضوع عبارة عن أحد مخلفات الماضي، فليس من المعقول أن نتكلم عن تطور الحدث حيث لا يجري شيء! ومسائل الزمان والمكان عبارة عن سوء فهم واضح، لأن لا وجود للإنسان إلا في المكان والزمان الحاضرين فقط اللذين يحتفظان بواقع ما... هذا هو منطلق الفن المنحط منذ لحظة ظهوره حتى أيامنا هذه، وهذا منطقي جدًا، فنحن لم ننس نقطة انطلاقه، ألا وهي: الإخفاء الكامل لكل أفق اجتماعي يمتد نحو المستقبل." (3) لقد تفتت البطل بتقييمه الجمالي في الفن السائد تمامًا -ألا يجري شيء نحن ضد، أن يجري لا شيء نحن مع- وتزودنا "الرواية الجديدة" في فرنسا مثالاً على هذا التفتت، فالكاتب آلان-روب جرييه يُمَوْضِع تحليله للشخصيات والحدث لصالح "آفاق متعددة" مثلما هو عليه في إحدى رواياته، "بيت المواعيد"، حيث يدور كل شيء في بيت للدعارة في هونج كونج، حتى هنا كل شيء عادي، فبيت الدعارة المكان الأكثر إنسانية، إلا أن الحدث يجري تركيزه على تجارة البغاء وتهريب الحشيش، وهذا كذلك شيء عادي، أما الشخصيات، فهي قطاع طرق. كل هذا شيء عادي لولا أن الامتلاك الجمالي للعالم يعبر عن تقديس وإعلاء النظام الاجتماعي الذي خلقته الرأسمالية، فهو لا يتوجه بالنقد الفني لهذا النظام، ولا يمكن للدلالات السياقية أن تشير إلى ذلك.
والآن ما هو البطل في عمل أدبي؟
المراجع (1) ماركس وإنجلز: حول الفن والأدب، الجزء الأول، مطبوعات دييتز، برلين 1967، ص 117. (2) هنري لوفيفر: ما وراء البِنيوية، منشورات أنتروبوس، باريس 1971، ص 245. (3) كوزمينكو: الفن والاشتراكية: في: الاشتراكية والثقافة، مطبوعات دار التقدم، موسكو 1972، ص 358.
يتبع
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 44
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 43
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 42
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 41
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 40
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 39
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 38
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 37
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 36
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 35
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 34
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 33
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 31
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 30
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 29
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 28
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 27
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 26
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 25
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 24
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|