|
اسامة الفَراح عوان الحِله
عفيف إسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 5096 - 2016 / 3 / 7 - 20:31
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
اسامة الفَراح عوان الحِله
ذات صباح صيفي في أول الثمانيات من القرن الماضي، وقبل الساعة السادسة صباحاً، كنت اسير برفقة شقيقي الاكبر وصديقي عاكف إسماعيل نقطع المساحة الواسعة الفاصلة بين حي المايقوما والامتداد الجديد المسمى حي اركويت، حيث نقوم بتشييد بيتنا الجديد كبنائين محترفين وتلك هي مهنة الاسرة ومهنتنا التي كنا ناكل منها عيش في ذاك الوقت، وكالعادة الحديث بيننا متشعب ولا ينقطع، فجاة انتبهنا أن هناك شخص يتحرك بنشاط وهو يقوم بنقل الطوب إلى حيث حيث موقع عمل اليوم، سألت عاكف هل قمت بتأجير احد عمال البناء الذين كانو يعملون معنا في تشيد منزل الاستاذ احمد حسين في نفس الحي كي يأتي مبكراً، فهز رأسه بالنفي، لا شعورياً تسارعت خطواتنا الفارعة بين البيوتات المتناثرة هنا وهناك كطبيعية أي حي جديد الانشاء. سكن الصمت بيننا لا يقطعه إلا نباح متقطع من بعض الكلاب، وعندما وصلنا، بادرنا بالتحية مبتسماً ومتصبباً عرقاً ايضاً،وهو يمد يده، ـ انا اسامة أبشر، مابتعرفوني لكن انا بعرفكم، وعارف الطويل اخوكم صاحبي وصاحب ود خالتي احمد حامد وبلعب معانا في فريق الزهرة للكرة الطائرة والقدم، ولي يومين شايفكم بتجو تشتغلوا براكم، قلت النخت معاكم طوبه طوبتين. سألته وانا اصافحه بحرارة واتفرس في ملامحه بدقة: ـ هل انت أخو جعفر ابشر"ابوعركي" ضحك تلك الضحكة الفخيمة التي تحمل بين طياتها ملامحها الطفولية التي ستلازمني مدى الحياة ـ ايوه، واضح انك درست مع جعفر اخوي، مافي زول بقول ليهو ابوعركي إلا دفعتو في المدرسة الابتدائية والثانوي العام . قال عاكف له وهو يهز يده بحرارة عالياً، بطريقته الانفعالية المرحابة في التحية الدائرية، ان لم تكن تعلم طريقته تلك وتتحسب لها بدنياً، سوف يهزك هزاً مزلزلاً حتى يصيبك الدوار، أما اذا عانقك فسوف تتحسس: هل ضلوعك سليمة أم لا ؟ وذلك بعد أن تعود لك انفاسك المخنوقة وتتفقد سلسلتك الفقرية فقرة فقرة. ـ انا بعرف أبوك، ونسايبكم علي الهد ومحمد مصطفي صالح. قال اسامة وهو يخلص يده من يد عاكف التي مازالت تهزه. ـ ما براحا ياخ، انا ماجاي اشاكلكم، خلعت كتفي ياخي وضحكنا واشتغل معنا بلا اجر نهاراً كاملاً بلا توقف لحظة واحدة عن الكلام والضحك كأننا كنا نعرفه منذ ميلاده. وعبر اسامة تألفنا مع كل أفراد اسرته الكريمة. بيت آل أبشر الكائن بحي المايقوما جنوب الحصاحيصا مفتوح للجميع مثل قلوب ساكنيه.. ذاك الصالون العجيب المسكون في كافة الاوقات بالناس، الرياضيين، والموسيقيين، والساسة، وأسامة دائماً يضع قلبه في ضحكته، يضع روحه في يده وهو يعانق الجميع بترحاب على مدار اليوم بلا توقف، وأهل الحي وكثير من الاطفال مستعدون في كل لحظة لتقديم الخدمات الصغيرة للضيوف الذين في اغلب الاحيان يتحولون لأهل بيت، فمنهم من ينادي بصوتٍ عالٍ ويطلب من حاجة بخيتة والده أسامة التي لا تنطفي نارها أبداً فنجان شاي، او أنه لم يتناول وجبة الغداء حتى الآن..كان بيت آل ابشر يجسد ما قاله العبادي في ملحمة طه وودكين:
لايفوت لا يموت الساحتو يوت مغشية تقابة الفريق يوقد صباح وعشية زايد في الرجال طالق قفاى ووشيه ضيوف الليل يكفيهم مرارة وشية
لاسامة ابشر طاقة متدفقة ومتجددة وعملية،أي شئ اصابه العطب بين يديه كأنه ساحر، ينفض عنه الموات ويجدد الحياة فيه ويهبه عمراً جديداً، لم اره يوماً ينام وقت القيلولة، فهو اول من يصحى وآخر من ينام، وما بين صحوه ومنامه لا يتوقف عن الفعل المثمر لاهل بيته والجيران والوطن، تجده يساعد جارة لا ابن لها في ترميم بيتها قبل الخريف، واثناء ذلك يأتي من يسأله ان يوقف خرير صنوبر بيته المستمر، وأخرى تناديه ب: يا عشاي بعد ما تخلص شغلتك دي مع ناس خالتك تعال صلح لي باب البيت المكسور، حفاة راكضون يأتون هندويه وامينة الصغيرتان بنيات اخته زينب يتبعهما شقيقهما عمار مثل واتساب بشري سريع التوصيل يحملون رسالة نصية عاجلة من جدتتهم تذكره بان لا ينسى في طريق عودته ان يعبر بجارتهم المتقدمة في السن ويجلّد لها بنابرها، يناديه آخر:" يا ولدي باكر كان عندك طريقة المطرة وقعت الحيطة الفاصلة بين الديوان وبقية البيت كلم اصحابك وتعالو خالتك ح تعمل ليكم دمعه مظبطة وقراصه اربعة بوصة". وذلك يعني ان يقود اسامة ويتولى كامل عملية النفير، ويكون واسامة حاضراً مع فريق عمله الهميم من اولاد الحي في تمام المواعيد.
في العصر يكون اسامة أول من يحضر إلى ميدان كورة القدم ويقود تمرين فريق الزهرة الرياضي لكرة القدم، لا اعرف اي وظيفة يشغلها بالنادي هل هو لاعب ؟! أم إداري؟! أم مدرب؟! أم حكم ؟! أم مشجع للنادي؟! كان اسامة كل هؤلاء، فهو الهميم لتجميع لاعبين، وهو ساعد الادراة لجمع التبرعات، والاعلى صوتاً في الاستاد حتى ولو كان يجلس في دكة الاحتياطي، وعندما يصل الحال بالنادي إلى عنق الزجاجة ويحتار الجميع بعد استقالة المدرب في ذاك الوقت الحرج والفريق مهدد بالهبوط إلى درجة أدنى، من سيقبل أن يقود النادي في هذا الوقت العصيب، يرفع اسامة اصبعه ويقول ما في مشكلة سوف تجدون مدرباً في تمرين الغد. ويهمس بشئ في اذن عبد الله حاج الصديق، فيطمئن الجميع بأن عند اسامة الحل الأخير..
وفي الغد، يجد الجميع عزالدين ابراهيم بشير"فريني" أو نصر الدين عبد الله مندرو "الدقاقه" في الميدان جاهزين للخروج بفريق الزهرة من المأزق. يجيد مناكفة جاره وصديقه ايوب تيه الرشيق كما الغزال، الحريف جداً حتى تخال بان الكرة مربوطة بقدمه بمغنطيس لا ينفك حتى معانقتها الشباك، تلك الحرفنة الاستثنائية جعلت ايوب لاحقاً لاعباً لهلال الحصاحيصا ثم الهلال العاصمي .يتحداه اسامة بجرأة نادرة للتتناسب مع قدرته المتواضعة في الملعب كطرف دفاع ايمن، فيعبره ايوب ممراً الكرة بين رجليه ثم يعود له مرة أخرى قبل يلتفت ليفعلها مرة واخرى وهو يهدف ويلتفت لاسامة المتهالك على الارض مغبراً ويصرخ في وجهه منتصراً: ـ" أحييييى أنا ،تاني تجي" فيقهقه الجميع، واعلى الضحكات تكون ضحكة اسامة،الذي لا يأبه ويرفع قفاز التحدي في وجه الحريف الاخر في فريق الزهرة اللاعب خالد مصطفي العبيد الشهير بـ" ود المصرية" ليتكرر المشهد مرة أخرى.
أسامة خاتف اجيال، تجده صديقاً لكافة الاعمار، وله مع كل جيل ألفة ومودة نادرة من عمر عام حتى تسعة وتسعين، عندما فرهد حلم الوطن بانتصار الشعب السوداني على الدكتاتور المأفون المشير الامام جعفر محمد نميري في ابريل ١-;-٩-;-٨-;-٥-;-م، كان اسامة هو المغنطيس البشري الذي جمع شباب حى المايقوما واركويت لعضوية اتحاد الشباب السوداني لجنة المايقوما واركويت، وبفضله اتسعت ايضا عضوية الحزب الشيوعي السوداني بالحي، ومن خلفه يقف بصبر نادر الاستاذ الجليل عبد الروءوف عمر بيمينه طباشيرة يعلم بها الاجيال فك الابجدية، وباليسرى يتش عين الضلام بالضو والمعرفة ويبذر الوعي في الاجيال الطليعية الآتية ويعطي كل عمره للنضال من اجل غد افضل للشعب السوداني، وكانا ثنائياً متجانساً في التخطيط والتنفيذ. ايضاً اسامة في فترة الديمقراطية الثالثة كان يدي الثالثة في كل ما حققه اتحاد الشباب السوداني لجنة المايقوما اركويت ، الذي كان بلامنازع اكثر اللجان عضوية ونشاطاً على المستوى الابداعي والاجتماعي والرياضي والسياسي وكانت لنا تلك المشاركة الفاعلة في نداء السودان في عام ١-;-٩-;-٨-;-٨-;-م لدعم ضحايا المجاعة والسيول، كنت اشغل منصب السكرتير واسامة نائباً لي، لكننا كنا نعمل كفريق عمل موحد اكثر من اننا نشغل منصبين مختلفين، وكان اسامة يفوقني دائماً في جهده العملي الدوءب، حيث تفرق جهدي كتلك العادة اللعينة المزمنة في إثقال الكادر المبادر،وهدره بتشتيت جهوده لتفريخ الزميل "السوبرمان" كما اسميها دائماً كنت احارب تلك المزمة في حزبنا لكن يغرقني بها كل الزملاء فقد كنت اشغل منصب السكرتير في الحي، ولجنة المدينة والمنطقة بجانب عضوية اللجنة التنفيذية على مستوى السودان،ومهام صغيرة اخرى، عندما اسجل اعترضي عندما يبادر اسامة في الاجتماع الحزبي او اتحاد الشباب للالتزام بانجاز تكاليف كثيرة، واردد قولي المحفوظ له: ـ الزميل دا بالطريقة دي سوف يحجم مبادرة الآخرين يأخذه اكثر من نصف تكاليف هذا الاجتماع، فمن الافضل ان يوزع الجهد العملي بالتساوي بين كل أعضاء اللجنة او الفرع. فيرد دائماً منفعلاً ولا يفقد ابتسامته: ـ الزميل حقو ينظر لنفسو في المراية ويقول الكلام دا، أنا يا زميل بعمل كدا عشان اعلم الآخرين المبادرة واديهم مثل عملي من لحم ودم، مش كلام بس!!.فالشباب ديل بشوفوا وبعد داك بقلدوا، وبعد داك بتفردوا، ممكن بعد دا يجي دورك انت وتملاهم تنظير وتقدم ليهم ورقة حول حول كيفية توزيع الجهد والمبادرة والجماعية في اتحاد الشباب السوداني!!! ذلك كان رهان اسامة الفعلي في حقل عمله وطليعيته ان يكون هو القدوة الحية والمثال الساطع للفعل، فتجد اسامة يقود مبادرات تنظيف الشوارع على مستوى المايقوما واركويت، وايضا هو من يقود فريق التضامن من لجنة الحي إلى بقية الاحياء لعمليات النفير المختلفة. ولايأبه كثيراً للجدل النظري الذي يشتعل بيني والفنان الواثق الامين" وردي الصغير" في المساءات يومياً حول علم الجمال والماركسية، والمبدع والالتزام، ودور الفنون في الثورة، فذهنة النشط قد قام بهضم وسودنة اطروحات الماركسية وحولها إلى فعل عملي يومي يسير بين الناس، ولا يحتاج معه إلى فحص وتدقيق محتويات تلك الكتب السميكة ذات الاغلفة الحمراء وهضم رطانتها ولغتها الجافة. اسامة ايضاً حاضراً وفاعلاً في بروفات كورال لجنة المايقوما اركويت الذي كان يشرف عليه الفنان الواثق الأمين " وردي الصغير" كانت اذنه الحساسة تلتقط نشاز اسامة وسط المجموعة الكبيرة من الشباب والشابات، ويحاول ايقافه، لكن اسامه كل مرة يتعالى صوته، فاخبرني مرة ان اتحدث معه في هذا الامر بانه غير مرغوب فيه كعضو للكورال. بعد احدى جلسات التنسيق الممتدة بيننا أخبرته بالامر، فقال لي: ـ يا عفيف يا أخ معقول انا ماسامع صوتي الفارق دا؟ دا انا اصلو في الحمام ذاتو ما مفروض اغني!! لكن انا بصر اجي البروفات واشارك بحماس عشان الشابات الشباب الاصواتهم جميلة زي ساميه موسى، وابراهيم اخوي، وسعيد موسى وازهري دياب لما يشوفوني بصوتي الشييييين دا داير اغني يسبيوا الخجل بتاعهم ويطلقوا اصواتهم الزي الليل دي ويمتعونا. بعدين انا بخوف ولا شنو؟ الواثق دا الليصبر لي الليله ما يجي يتكلم معايا عديل؟ ـ يا اسامة انت عارف الفنانين ديل حساسيتهم براها، الواثق دا حاول يقول ليك الكلام باكتر من طريقة اثناء البروفات وأنا حاضر، وجعفر اخوك برضو حاول في البروفات وبعدها ومعه سمؤأل علي السِمع ايضا حاول معاك. منذ ذاك اليوم صار اسامة يجلس بجانبي بعيداً صفوف الكورال، لكنه ما أن يبدأ فتحي ابشر بِنقر " البنقز" ينسى نفسه ويبدأ في اطلاق صوته عالياً من موقعه فيلتفت لي الواثق غاضباً: ـ يا اخي دا بقى كوراك عديل ما كورال!! ما تسكت الزول عشان نقدر نشتغل. فانتحي به جانباً لمتابعة تلك التكأليف التي لا تنتهي. او لترتيب القافلة الفنية القادمة للطواف داخل الجزيرة. وأنا اشير لعوض يوسف العوض الذي يغني مندمجاً بين صفوف الكورال هل رتب معه مسألة العربة والبنزين، فيسألني عن كيف تسير بروفات المسرحية الجديدة، فاقول له ضاحكاً: ـ اطمئن دورك الصغير محفوظ، لما تفضى تعال لينا، لكن حكايات ناس كبار ديل يمثلو دور اطفال في احد المشاهد ما عجباني، بفتكر انو لو لقينا طفلة وطفل عمر ما بين حداشر حتى سبعتطاشر كدا بيكون افضل، انا ملاحظ حضور شغوف لعدد كبير منهم لبروفات الكورال والمسرح ايضاً، وممكن دي تكون خطوته لتربيتهم كطلائع من بدري، هل بتعرف ليك اتنين من الاطفال بمثلوا، لم يتردد اسامة خاتف الاجيال فقال لي: ـ اميرة على بت اختى و ياسر على اخو عصام نادوس. في اليوم التالي ادهشتني قدرات اميرة وياسر بحفظهم المتقن لكل حوارات الشخصيتين، بجانب اداءهم الفطري الجميل، فصارا من نجوم العرض بعد اسبوع واحد من البروفات بجانب نجوم متمرسين في الاداء مثل: ايمان علي بتلقائيتها التي تشبه "ميريل ستريب"، ونورا مصطفي بروحها الخفيفة، وسناء اسماعيل بحرفيتها المتقنة في الاداء،,أمل علي بحضورها المشرق مثل سمرة لونها النادرة، أما في الجانب الآخر دائما كانت هناك مباراة في فن الاداء بين كل من ابراهيم ابشر، وعاكف اسماعيل، وعصام علي "نادوس" وعصام عطا"زرزور"، وهشام ربيع، والرشيد عطا"قله" وابكر إبراهيم، وحيدر تاور. في تقديري بفضل اسامة تم اكتشاف موهبتين خارقتين، ها هي بنت أخته زينب "أميرة علي" الآن تجوب كل مسارح السودان وتفرح طلتها البهية في التلفزيون أهل الحصاحيصا وتجعلهم دائما فخورين بها. وفي التسعينيات صار ياسر علي ممثلاُ ومخرجاً مميزاً على امتداد الوطن بعد دراسته بقصر الشباب والاطفال لفنون الاداء والاخراج على يد الاجلاء الاساتذة الرشيد احمد عيسى وقرني، وحامد جمعه، وعبد الجبار عبد الله عبد الجبار وغيرهم. عندما تلاحقت الكتوف في النصف الاول من التسعينيات ودعاني ياسر علي إلا للمشاركة في تأسيس جماعة الجمام المسرحية بالخرطوم، التي حققت انجازاً مسرحاً ترك اثراً واضحاً على الساحة المسرحية وصارت جماعة الجمام مفرخة خصبة رفدت الحركة السودانية المسرحية بالعديد من الممثلات والممثلين المميزين.أحسست وقتها بالكثير من الاعتزاز لجنة اتحاد الشباب السوداني بالمايقوما واركويت بالحصاحيصا، وايضا بالمحبة الخالصة لاسامة ابشر. .
عشق اسامة للمبدع الاستاذ مصطفي سيد أحمد، يفوق الحدود، كان ينتظرني بمسجل جاهز كل اسبوع عند حضوري من الخرطوم لنسخ ما معي من تسجلات لمصطفي قبل ان اصل إلى بيتنا، أذا لم يكن موجوداً، كنت احرص دائما بأن اذهب في اليوم التألي لـ"دكان مبشر للادوات الإكترونية" حيث ينسخ ازهري الزيلعي أو سراج مبشر اولاً نسخة لهما، ثم ثلاث نسخ الاولى لرفيقة الاهوال والمحبة نازك عثمان، والثانية لصديق الروح والوجدان بابكر عبد الرازق والثالثة لاسامة ابشر. عندما اسمع اغنية " شوق الشوك" يتماثل امامي اسامة ابشر واقفاً بابتسامته البهية، وهمته التي تسبقه، كأن مصطفى سيد احمد لحنها بعد ان قابله، وكأن "حميد" كتبها بعد أن عاش مع اسامة عمراً كاملاً، فكل مفردة منها تمثله و تصفه بدقة خالصة فهو "الفراح عوان الحلة" الذي يشفي عرق قميصه كل الجروح ويعيد للعميان نعمة البصر.. عندما يصر اسامة على توصيلي ليلاً احياناً اعلم من عبوسه بأنه مصاب بأحدى نوبات خيبات العشق فسأله: ـ آها.. قلبك رك وين المرة دي؟ ـ هو لحق يرك، يا أخى انا وشي دا يا مكتوب فيهو عوير؟ ولا بشبه الزين!! كلما ابوح لواحدة بمشاعري تعتذر لي بنفس العذر، وتقول لي:"انا بحبك يا اسامة برضو، لكن زي اخوي!!"، وبعد شهر واحد بس يعرسوها، اشتغل خاطبة يعني ولا شنو؟ أحاول مواساته: ـ يا اسامة، دا وسام نادر جداً ان يتوفر ليك النوع دا من الحب الاخوي الصادق من غير رابطة دم، حبيبتك الحقيقية بتشبهك وبتشبهها منتظراك في غيب ما، يقاطعني: ـ غيب و تعال!! ـ يا اسامة انت اكتر زول محظوظ الاحظ في الحفلات انك ممكن تطلب من اجمل جميلات الحي ان ترقص معك، لم أر أيا منهن من رفضت دعوتك. ـ دا ما المجنن بوبي ذااتو! يا ربي المسألة بتكون زي مسلسل " الجميلة والوحش" أكون انا" فينست" وكلهن" كاثرين" ولا اكون انا " الزين" الاصلي وبتاع الطيب صالح داك تقليد؟! ـ يا اسامة اصبر.. يقا طعني -ـ الفي البَر عوام يا عفيف، يعني عشان انتا ركيت ولقيت نازك الجميلة ح تكفيك عمرين وزيادة. -بين أسامة ورفيقة الأهوال والمحبة"نازك"احترام وتقدير وود متبادل غير خافٍ، ومحبة صادقة تنتمي إلى ذاك التواصل الانساني الحميم النبيل بغير حواجز والدفء الرفاقي في العلاقة والاحترام بين الشيوعيات والشيوعيين، بين نازك واسامة اشواق جامحة تضج بها روح اسامة عندما يناديها باسمها وهو مقبلاً عليها من بعيد بازرعه المفتوحة،، كانا يجسدان معاً احدى قواعد جلال الدين الرومي للعشق: "ان عدم المشاركة في عزف موسيقى الكون دليل على جهل مطلق". دائماً ما يتحولا امامي إلى طفلين ممتلين بالشقاوة وشهوة الضحك، يعزفا لحن للتواصل الانساني النادر عالي الانسجام والتفهم ليزيدا به من عمر الكون وترتقي بهما سمفونية الانسانية للحب غير المشروط، بينهما دائماً احاديث هادئة لا تنتهي، واسراراً سامية لا يعرفها غيرهما.
في ليلة انقلاب الجبهة القومية الاسلاموية على الديمقراطية، كنا اسامة وانا حتى آخر الليل نرتب معاً لقافلة فنية لقرية صراصر، ولم نكن ندري بأن الملعون الثعلبي " الترابي" وحزبه وابن قرية "صراصر" المطلوب في جريمة قتل داخل السودان في ذاك الوقت برصاصه الطائش في احدى الاعراس، والهارب حالياً من العدالة الدولية عمر احمد حسن البشير، كانا يعدان لتغيب الوطن في غيهب حالك، وصار الوطن يشبه قول السياب:
من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي كهوف؟ من أي وجر للذئاب؟
تحول الوطن بعد هبوط الجراد الاسلاموي في ١-;-٩-;-٨-;-٩-;-م إلى قحط بلقع لا تحتمله روح اسامة الندية كل ذلك البوار والوأد الممنهج لأحلام الشعب السوداني في الديمقراطية والسلام. جاءني اسامة غايب الابتسامة والملامح وقال لي: ـ قلت احسن تعرف من بدري، انا ماشي ليبيا. احنى رأسه متفرساً في الارض كان يتوقع غضبي ، فقلت له بهدوء: ـ سافر يا اسامة، الوطن ما ح يسافر منك، انت عمرك دا كلوا بتعمل عشان الناس، والعمر ماشي، دي احسن فكرة تلتفت لروحك وتأسس ليها لاستقرار مستقبلي، واضح مع الاسلاميين ديل ما ح يكون في طريقة، وممكن بكره او بعد بكره تلقى نفسك معتقل ، اصلاً انت مشروع شهيد يسير على قدمين بتبذر في الدنيا من ماعرفتك كل لحظة بذور التضحيات، يا اسامة سافر يا أخ ـ بس عاوزك توعدني يا عفيف، انو يوموا اليفوتو الكجر ديل،حتى ولو رأسنا اتملى شيب، نبدأ اول عمل لينا بترتيب قافلة فنية لاتحاد الشباب السوداني لجنة المايقوما اركويت إلى صراصر. رتب انت كل حاجة واتصل بي بركب اول طيارة واجيكم.- -
ويا ليبيا انشاء الله تعقري يا تعدمي المال الفقري يا تعدمي الشيك الخضري والله شلتي العيال من بدري.
عندما عاد اسامة بعد سنوات في اجازته السنوية، بعد يومين الترحيب عاد كما هو اسامة الاغبش الفراح عوان الحِلة، من قبل كان يساهم بجهده العضلي ، لكن الآن صار عنده قليل الشيك الخضري وكمن لا يخشى الفقر قام بصرفها كلها على الاهل والاصدقاء والمحتاجين، وقبل سفره باسبوع جأني في ستديو التصوير الفتوغرافي الذي اعمل به يحمل كاميراً ماركة "زينت" فخر الصناعة الروسية ومجدها.. وقال لي: ـ الكاميرا دي كنت ناوي اخليها ليك لما اسافر، لكن يبدو ما عندك في الطيب نصيب وح تطلع بقد القفه، بيعها لي محتاج اتم حق تذكرة الرجعة. ـ الشقي ما بسعد يا اسامة، ودا اسمو حنين مرضي لجنة الاشتراكية ودعم صناعتها، هسع ما لقيت في ليبيا دي الصناعة الراسمالية المجيهة كان " كانون" ولا" نيكون" ولا" سوني" كان بعتها ليك في خمس دقائق لصديقنا محمد فتحي"حمادة المصري" متذكروا ـ ايوه كيف هو بالله؟ ـ انت عارف سعر الكاميراً زينت دا " الجنينة" ما بوصلك، وما مرغوبه في السوق وانت مسافر بعد اسبوع، خلينا نفكر مع بعض ونشوف ليك دباره أخرى.. وعاد اسامة إلى ليبيا مديوناً
منذ ان سكنت بحي اركويت، صارت علاقتي باسامة يومياً بعبوري بديوان آل ابشر في المساءات، وصرنا نتبادل الكثير من المشتركات، هناك مشترك لا يعرفه إلا القليلُ من أهل الحصاحيصا هو ستر الموتى مجهولي الهوية من جراء حوادث شارع الموت والغرق بمشرحة مستشفى الحصاحيصا ودفنهم، كان المرحوم الحاج حمد هو زعيم هذه المبادرة بعد اتفق مع احد تجار الاقمشة للمساهمة في هذا المشروع الخيري، لم يتردد التجار الكريم لحظة واحدة لكنه وضع شرطاً واحداً وهو ان لا يذكر اسمه حياً او ميتاً عن مساهمته هذه ، التي اوصى ايضا اولاده من بعده ان يكون هذا الفعل صدقة جارية له، وبالطبع الترزية علي سيد أحمد، وعلي بيلو، وهاشم التتر وعمر بكري كانوا يخيطون الاكفان ايضاً بلا مقابل.. لخمس سنوات او اكثر كان لا يمر شهر إلا ونجد حاج حمد يطرق باب بيتا بصوته الحاد يأمرنا عاكف وانا ان نتبعه إلى المقابر ، بعد ان يوصي أمي ببل كركردي او آبري الذي يعلم توفره ببيتنا اغلب ايام السنة وذلك لصيام امي ثلاثه شهور متتاليه بجانب الستوت والايام المباركة الاخرى في السنة. يكون سبقنا اسامة إلى المقابر المجاورة لمنزلنا بحي اركويت.. اغلب الاحيان نجد اسامة قد بدا العمل قبل وصولنا، ذات مرة اوصاني أذا مات لابد ان احفر له قبره، ازوره من حين لاخر . ضحكت وقلت له: ـ انت ح تدفنا كلنا يا اسامة!!!! قال عابساً ـ الشريف أنا جادي في الكلام دا. مات أسامة محمد أحمد أبشر بعيداً عن الوطن!! مات أسامة أبشر بعيداً عن تراب الحصاحيصا التي يعشقها بعيداً عن كل من عشقوه بصدق ودفء انساني نادر خلقه بوجوده النابض بين الآخرين في حي المايقوما وما جاورها من أحياء. برغم تصاريف الحياة القاسية التي تجابهه كل يوم لم ينحن اسامة ابداً للعاصفة، بل كان يقابلها عاري الصدر مثل جبل فترتطم به بروقها ورعودها ورياحها القاسية القارسة، وتتشظي وتتفرقع على جسده المسكون بطاقة مانعة للعواصف ويسير يبث في الناس الحماس بتقدمه الصفوف لبناء ماتهدم وماذرته الرياح العاصفة.
آه. اسامة لا يخلف لي موعداً وكذلك لا اخلف له وعداً فهو سندي في كل الاوقات. يا لخذلاني لأسامة!! يا ويللي، وويل ويللي. لم اف بوعدي لأسامة مات اسامة وانا وراء المحيط لم ادفنه! يا للهول لم ازر قبره بعد كي ارش عليه قليلاً من الماء، واشتل قلبي قرب شاهد قبره!! بيرث مارس ٢-;-٠-;-١-;-٦-;-م
#عفيف_إسماعيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وتَبقَى طفلةُ العصافير الموسميّة*
-
وداعا النقابي الجسور وسيم الروح فاروق احمد -جدو-
-
من وصايا الشهداء
-
تَشبَهي العيد في بَلَدْنا
-
صور شعبيّة.. وقسم السّيد أدفريني*
-
وداعا ..زوربا السوداني(2-2)
-
مُسامرة من وراء المحيط..محمود.. أرق المهووسين
-
وداعاً زوربا السوداني1
-
لوحة2
-
مُسامرة حوارية مع الفنانة المغنية د. ياسمين إبراهيم
-
رنين الحنين على أجنحة نوارس عائدة أو نغم أخضر
-
مسامرة حوارية- جريدة الحصاحيصا
-
زهور ذابلة
-
إندماج أم إقصاء؟!
-
مبادرة -برانا- الثقافية
-
نورس حط على القلب
-
المتشظي
-
عازف البيانو الأعمي في ميدان فورست او ظل بلا اثر
-
الشاعر المصري حلمي سالم.. وفقهاء الظلام
-
نافذةٌ لا تُغري الشمس
المزيد.....
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
-
الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو
...
-
بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
-
محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
-
القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|