نيتشه: أفلاطون محاكما الحياة.. 1

محمود العكري

الحوار المتمدن-العدد: 5092 - 2016 / 3 / 3 - 16:25
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

مع سقراط انتصرت إرادة العدم على إرادة الحياة، فقد عمل سقراط على قطب إرادة العدم بابتكاره للفكرة فهدم بذلك الزوج الذي تتغذى منه إرادة القوة ( الهدم و البناء )، لأن تقديس النزعة الهابطة و السافلة يؤدي بالحياة مباشرة إلى فقدان المعنى و القيمة، و بالإنسان إلى الهروب من الواقع و مواجهته بالحلم و الوهم أي بالسلبية و الانهزامية، و ليس المثال سوى شكل من الحلم و من التعب و الوهن فسقراط كما يعترف نيتشه هو الجذر العميق للعدمية.
هذا بالنسبة للأستاذ، فما القول بالنسبة للتلميذ أفلاطون الذي يعتبر نيتشه أن كل فلسفته بمثابة قلب لفلسفة أفلاطون كلها. و إننا لا نكاد نطلع على كتاب من كتب نيتشه إلا و نجد فيه إشارة واضحة لفلسفة أفلاطون، و قلبا لها.
لقد عمل أفلاطون على إحلال الفكرة محل الواقع، و المثال محل المحسوس و العقل محل الجسد. و في هذا الصدد يقول نيتشه: " إن الميتافيزيقا ترى أن أسمى الحقائق ينبغي أن يكون لها مصدر آخر خاص بها. و لا يمكنها أن تتولد عن هذا العالم السريع الزوال، هذا العالم المخادع، الوهمي، الفقير. كلا، إن المتافيزيقا ترى أن منبع الحقيقة و مبدأها يكمنان في قلب الوجود، فيما لا يزول. في إله مستتر، في الشيء في ذاته: إن مثل هذا الكلام يشكل الحكم المسبق الذي يضم أشكال الميتافيزيقا عبر العصور و هو يكون الخليفة التي تكمن وراء مناهجها المنطقية " . و هكذا يتضح لنا أن مهمة نيتشه الأساسية تتمثل في قلب النزعة الأفلاطونية باعتبارها فلسفة تلغي العالم المحسوس مقابل الإعتراف بعالم مجرد يسميه أفلاطون " بعالم المثل ". و بالتالي فمهمة الفلسفة تقتضي القضاء على الماهيات، و في هذا يذهب نيتشه إلى ترصد الأفلاطونية للقضاء على الجذور التي انبثقت منها، كما كان يترصد أفلاطون السوفسطائي.
يذهب نيتشه إلى اعتماد أسلوب السخرية و التهكم من أفلاطون و نظريته في المثل قائلا: " إنها تجمع بين عنصر بارميندس، و جزء من كتف هيراقليطس و قدم أنباذوقليس" . و الذي يتضح لنا من هذه العبارة الساخرة، أنها ترمي إلى إسقاط كل أصالة عن فلسفة أفلاطون. و يواصل نيتشه هجومه في موضع آخر فيقول: " إن أفلاطون نفسه يتسم بكونه أول هجين كبير. و هذا مدون في شخصيته كما في فلسفته. إن نظريته حول المثل تجمع عناصر سقراطية و فيثاغورية و هيراقليطية، لذلك فهو لا يمثل نموذجا صافيا " .
فكيف تم بناء هذه النظرية المسماة بنظرية المثل ؟
لقد كانت لتعاليم الأستاذ سقراط بالغ الأثر، وقد شكلت عنصرا مهما من عناصر هذه النظرية التي نسج خيوطها تلميذه أفلاطون. فكانت هذه التعاليم هي نقطة البداية التي انطلق منها أفلاطون لبناء نظرية المثل. هذه النظرية التي يعتبرها نيتشه من أكبر الأمراض الفلسفية التي يعتبر سقراط مصدرها، و ذلك من خلال نقل عدوى " الحقد على المحسوس " إلى أفلاطون فالتحرر من الحواس يعتبر أهم مبدأ أخلاقي في نظرية المثل.
فالعمود الفقري لنظرية المثل الذي استمده أفلاطون من تعاليم سقراط و الذي يتمثل أساسا في فكرة المفهوم القائم على إتباع المنهج الاستقرائي ، هذا المنهج الذي يجعل المفاهيم الكائنة في الذهن هي الهدف الحقيقي لكل معرفة أو حركة عقلية، فيتم بلوغ الكليات الذهنية انطلاقا من وقائع عينية و جزئية. و هذه الحالات و الأمثلة الجزئية يتم تصنيفها ضمن أجناس و أنواع، كأن نجمع الصفات الماهوية و الجوهرية التي يشترك فيها كل من الماء و الحليب و الزيت و نهمل باقي الصفات التي تختلف فيها فنتحصل على فكرة السوائل. و نفس الشيء يمكن أن يقال عن الإنسان و الحيوان و الخير... فكلها مفاهيم تكونت بجمع الصفات و الأفكار التي تتفق فيها فئة من الأشياء مع إهمال الأفكار التي تختلف فيها". فقد كان سقراط ينطلق من الأمثلة الجزئية الخاصة، رغم تفاهتها في بعض الأحيان فهو يأخذ العجانين و الطهاة و الأطباء و العدائين كنقطة بداية، ليصل إلى تأسيس مفهوم كلي، و هذا ما يسمى بالاستقراء أو التعريف.
و انطلاقا مما سبق ذكره، قام أفلاطون بتجميع كل العناصر التي بها استطاع أن يشكل في الأخير نظرية المثل، التي لا تتميز بالأصالة، أي أن نظرية المثل ليست صافية و خالصة بل هي مجرد هجين. و هذا ما جعل أحد النتشويين الألمان يقول: " و نحن نعجز عن أن نلاحظ لدى أفلاطون أي تطور واع في مذهبه. أما مؤلفاته المختلفة فليست سوى نبذ و مقالات دبجها وفقا لوجهات النظر التي كان يشكلها بين وقت و آخر، أضف إلى ذلك أن أفلاطون لم يكلف نفسه عناء معرفة ارتباط تلك النبذ بعضها ببعض، أو إدراك شكلها حينما تجتمع ".

#محمود_العكري (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات