أحمد محمد منتصر
الحوار المتمدن-العدد: 5079 - 2016 / 2 / 19 - 22:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طلّ علينا منذ أيام أحد سُفهاء الإعلام النظامي موجهاً الحل للحكومة المصرية بصدد أزمتها الإقتصادية في تعرّض العملة المحلية - الجنيه - للإنهيار الشديد , حيث أن الحل أن " نطبع مليارات دولارات و نشتري بها عملة " و بذلك تُحل المشكلة , و تناول هذا السخف العديد من روادي مواقع السوشيال ميديا بمزيد من السخف مُعللين جميعاً أنه لا يمكن أن تُطبع النقود بتلك السهولة و فارضين أنه توجد هناك جهة دولية تراقب طباعة النقود لكل دولة ، ولا تسمح هذه الجهة بأن تقوم الدولة بطباعة ما تريد من نقود ، و يعتقد البعض الاخر ان طباعة النقود تتم على أساس ما تملكه الدولة من ذهب , أو أن البنك الدولي هو من يقرر ذلك لكل دولة , و الكثير من هذا الكلام نسمعه أحيانا حتى من أناس يفترض أن لديهم إلمام بالاقتصاد , و يبدو ان الجهل الواسع المنتشر حول النقود هو جهل مفتعل و مقصود , فحتى الطلبة الذين يدرسون الاقتصاد في العديد من الجامعات لا يتعرضون على دراسة النقود من حيث منشأها بل يدرسون تفاعلاتها مع الاقتصاد و يتم تجنب التعمق و شرح تفاصيل منشأ النقود بشكل واضح .
مقدمة لابد منها قبل أن نتكلم عن الأزمة الإقتصادية المحلية و بشكل عام و أشمل الأزمة العالمية , و الحقيقة أن هناك العديد و العديد يظن أن الإقتصاد عبارة عبارة عن رياضيات و مصطلحات معقدة فيتجنبون التعمق فيه و يتركونه لاهل الاختصاص, أنا أود أن أقول ان هذه مأساة كبيرة حقا , فكيف تترك موضوعا يرتبط مباشرة بغذائك و مسكنك و عملك و حياتك و حياة اطفالك , و كيف توصلنا إلى فكرة ان الاقتصاد تخصص مثل علم الفلك ليس عليّ بالضرورة معرفته؟ هذا غير صحيح بالمرة بل دعني الآن اقول لك بأن التعقيد الظاهري لاقتصاد السوق و المصارف يخفي وراءه مسخرة شديدة الغباء و الرياضيات و المصطلحات و التعقيدات التي فيها سببها سخافة هذا الاقتصاد لا أكثر , و لذلك فانني ادعوكم إلى التعمق في الامر و محاولة فهمه لان هذا ضروري لفهم الخدعة التي انطلت على الجميع و لفهم لماذا تبدو حياتنا كما هي عليها , فلا تترددوا أبدا في دراسة الاقتصاد الراسمالي لانه اقتصاد قائم على قوانين ستضحكون منها عندما تتعمقون فيها و تفهمون آلياتها, التي هي في الواقع من البساطة انكم سوف لن تصدقونها في البداية و ستقولون لا بد ان يكون هنالك خطأ في الأمر .
يقول البروفيسور هيرمان دالي كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي
" ان المصارف الخاصة تخلق النقود من العدم اي من لا شيء , و تقرضها مقابل فوائد و هذا يبدو سخيفا و عندما اقوم بتدريس كيفية عمل البنوك الى الطلبة فانهم لا يصدقون ما اقوله , فاضطر الى شرح ذلك عدة مرات, الطلبة يشكون في صحة كلامي و انا اتفهم لماذا يشكون, فهي منظومة سخيفة جدا و لا يمكن تصديق ان هذا ما يحدث "
في عام 1669 بدأ مصرف اسكوتلندا بإصدار العملات الورقية، ولا يزال حتي الآن , في عام 1776 (مباشرة بعد الاستقلال من بريطانيا) بدأ المصرف المركزي الامريكي بإصدار عملة الدولار، إلا أن هذه العملة لم تكن لها غطاء ذهبي مما لم يشجع الناس للتعامل بها, ولكن القانون الذي أقره الكونجرس كان يُجرّم كل من لا يقبل الدولار كعملة باعتباره عدو للدولة , ولم تستمر هذه الثقة طويلًا فتكاليف حرب الاستقلال أجبرت الحكومة على طبع العملات بشكل كبير مما تسبب في تضخم هائل فقد الدولار على إثره قيمته، إلى أن رُبط بالذهب والفضة في عام 1789 على يد الكسندر هاميلتون , وقد استمر هذا الوضع حتى عام 1860 حينما أجبرت الحرب الأهلية الحكومة الأمريكية على طبع كميات كبيرة من النقود لم تكن مغطاة بأي من المعدنين (الذهب أو الفضة) , وقد كانت العملات المطبوعة في ذلك الوقت هي أول عملة اكتسبت اللون الأخضر الذي يشتهر به الدولار الأمريكي حاليًا , والتضخم الهائل جعل الحكومة الأمريكية تُعيد ربط الدولار بالمعدنين في عام 1879 , ثم أعيد فك الربط بشكل مؤقت في عام 1933 على يد الرئيس فرانكلين روزفلت للتخلص من آثار الكساد العظيم وقد اعيد ربطه من جديد في العام الذي تلاه ولكن بتعديل كبير في سعر الدولار، وكذلك بمنع الشعب الأمريكي من استبدال الدولار بالذهب أو الفضة (أو حتى الاحتفاظ بكميات كبيرة من الذهب أو الفضة)، وقد كان يحق للحكومات الأجنبية فقط استبدال الدولار بأي من المعدنين , في عام 1944 و في مؤتمر "بريتون وودز" اقرت الولايات المتحدة و بمشاركة اكثر من اربعين دولة اتخاذ الذهب و الدولار الامريكي المربوط به كمعيار لتقييم سعر الصرف العملات الاخرى, و قطعت امريكا على نفسها تعهدات بالتزام غطاء ذهبي ثابت مقابل الدولار , ثم في عام 1971 قام الرئيس نيكسون بإعادة فك ارتباط الدولار بالذهب وبقي الدولار حتى الآن بدون غطاء , المنظومة المصرفية التي نعمل بها اليوم في جميع ارجاء الارض تم تنظيمها من خلال وثيقة صدرت عام 1971 اسمها اليات النقود الحديثة , اقرت هذه الوثيقة بأن النقود سيكون لها قيمة اعتبارية تعتمد على الثقة , و هذه القيمة تحددها قوانين العرض و الطلب , و اقرت الوثيقة ايضا قانون التسليف النسبي او الجزئي .
إذن لم تكن في البداية فكرة خلق العملة مرتبطة بما تمكله من ذهب , فالمسألة أشبه بلُعبة تحكّم فيها أرباب الدولار , يربطونه تارة بالذهب و أحياناً يُطلقون سراحه عند الإحتياج , و بما أن خلق النقود بهذه البساطة فلماذا لا يمكننا أن نتعامل بهذه السخافة و أن نطبع نقود وقتما شئنا ؟
إن طبع النقود اذا لم يؤدي الى زيادة المنتوج الاجتماعي فانه يؤدي الى الغلاء و لا يضيف إلى الاقتصاد أي شئ , لان الاشياء التي يحتاجها الناس و يستهلكونها هي التي تحتوي على القيمة و ليس النقود بحد ذاتها , لذلك فان القيام بخلق النقود من العدم ليس عصى سحرية و لا تؤدي الى خلق ثروة و لا يمكن للدول ان تخلق النقود كما تشاء, لان ارتفاع الاسعار يؤثر على الطبقات الفقيرة و ذوي الدخل الثابت مما يؤدي الى اضطرابات سياسية و فوضى , لهذا فان الدول في العادة تخلق كميات من النقود تتناسب مع قدرة المجتمع على الانتاج و على استيعاب التضخم الحاصل جراء ذلك .
نستنتج من ذلك أن خلق النقود هذا مدد عمر منظومة الرأسمال فقط و ساعد علي تأخير الإنهيار لبضعة عقود , المشكلة التي لدينا هنا هي أن جميع الدول و الشركات و الافراد قد استدانوا الى حيث وصلوا الى التخمة , اليونان مثلا تحتاج الى ان تدفع ناتجها المحلي بأسره لقاء فوائد ديونها و هي استدانت عشرات المرات لدفع ديونها السابقة و لم يعد احد يريد منحها ديون لانها لن تستطيع الدفع , ولكن ‘ذا لم يدفعوا لليونان ديون جديدة فانها ستشهر عن افلاسها و هذا يعني ان بنوك و شركات أخرى ستشهر افلاسها و هنا يحصل ما نسميه تأثير تساقط الدومينو , لذلك فإنه إذا توقفنا عن خلق النقود الآن فان الجميع سينهار الآن , اما اذا واصلنا خلق النقود فإن الجميع سينهار عندما تزيد ديونهم على قدرتهم على سدادها , و هذا هو ما يجري الآن بالفعل .
الأزمة الإقتصادية في كل بقعة مرتبطة إرتباط شديد بالأزمة الأم العالمية التي يتشارك فيها أقطاب و أسياد الكوكب من الحكومات بنفس القدر مع الحكومات الدُنيا , بدايةً من رفع أسعار الفائدة الأمريكية , مروراً بتباطؤ النمو الإقتصادي لأكبر ثاني إقتصاد في العالم - الصين - , إضافة إلي أزمات المديونية بالقارة الأوروبية و إحتمالات خروج اليونان , و الإنهيارات في أسعار السلع و المعادن و النفط , و الحروب المنبثقة في الشرق الأوسط و عدم إستقرار حكوماته , و فوضي الإنتاج تضرب المنظومة و تقسم ظهرها , فالولايات المتحدة تنتج من النفط بمعدل لم تشهده منذ عقود , في نفس الوقت الذي لم تخفض فيه دول - أوبك - الإنتاج مما شهد إنخفاض حاد في أسعار النفط , في نفس الوقت الذي يبقي فيه الدولار صامداً برغم التهديدات و التقلّبات العديدة لابد أن تشرع الولايات المتحدة بتأجيج الأوضاع و إزدياد تجارة السلاح فها هي قد شرعت في اغراق المنطقة العربية بالحروب لتأجيج اسواق السلاح و السيطرة على أسواق النفط بهدف إجبار خصومها على مواصلة التعامل بالدولار , و بدأت الازمة السورية و انقسام روسيا و امريكا حولها , و هكذا حصلت الأزمة الاوكرانية و غيرها من الصراعات , ان جميع الحروب الحالية هدفها تأجيج أسواق السلاح من جهة و إقامة دول هزيلة مفككة تخضع للارادة الامريكية في عدم قبول عملة أخرى لقاء بيع النفط و الخامات غير الدولار .
هكذا يبقي إقتصاد السوق بالحروب و المجاعات و التقشف و الغلاء و الفقر و البطالة , هكذا أصبح السلام خطير و مدمر للدولار و أسياده , لذلك فإن بقاء جنسنا مرتبط مصيره تمام الإرتباط بنهاية الدولار و نهاية المنظومة الرأسمالية المنتهية الصلاحية .
#أحمد_محمد_منتصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟