أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد صالح الطحيني - اليهود والنفي















المزيد.....

اليهود والنفي


محمد صالح الطحيني

الحوار المتمدن-العدد: 5073 - 2016 / 2 / 13 - 10:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بين بلاد الإسلام والمسيحية كان يعيش شعب عجيب احتفظ في خلال كل ما مر به من الشدائد بثقافته الخاصة يعزيه ويلهمه دينه الخاص، ويعيش على هدى شريعته ومبادئه الأخلاقية، ويخرج من بينه شعراؤه، وعلماؤه وأدباؤه، وفلاسفته، وينقل البذور الخصبة بين عالمين متعاديين.
ولم تكن فتنة باركوزشيه Bar Cohebs آخر الجهود التي بذلها اليهود ليستعيدوا حريتهم التي قضى عليها بمبي وتيتس Titus. فقد أعادوا الكرة لاستخلاصها في عهد أنطونينس بيوس Antoninus Pius وأخفقوا في محاولتهم وحرم عليهم أن يدخلوا المدينة المقدسة إلا في يوم تلك الذكرى المؤلمة، ذكرى تدميرها، فقد كان يسمح لهم نظير جعل معين أن يأتوا إليها ليندبوا ويبكوا أمام جدران الهيكل المهدم. وكان سكان فلسطين التي خرب من مدائنها في فتنة باركوزيبة 985 حتى محيت من الوجود، وقتل من أهلها 580.000 رجل وامرأة قد نقص إلى نصف ما كان عليه من قبل، وانحط الباقون إلى درجة من النماقة كادت الحياة الثقافية معها ألا يبقى لها أثر. ومع هذا فإنه لم يكد يمضي على فتنة باركوزيبة جيل واحد حتى أنشئ في طبرية بيت الدين، أي المجلس اليهودي القومي-وهو هيئة مؤلفة من واحد وسبعين من العلماء الأحبار والمشترعين-وافتتحت المعابد والمدارس ودب الأمل مرة أخرى في النفوس.
غير أن فوز المسيحية قد صحبته متاعب جديدة. ذلك أن قسطنطين كان قبل أن يعتنق المسيحية قد سوى من الوجهة القانونية بين الدين اليهودي وبين سائر الأديان التي يدين بها غيرهم من رعاياه. أما بعد اعتناقه المسيحية فقد اضطهد اليهود وفرض عليهم قيوداً ومطالب جديدة، وحرم على المسيحيين أن يتصلوا بهم. ونفى قسطنطين أحبارهم وجعل زواج اليهودي من مسيحية جريمة يعاقب مرتكبها بالإعدام وفرض جالوس Gallus أخو قسطنطين على اليهود من الضرائب الفادحة ما اضطر الكثيرين منهم إلى أن يبيعوا أبناءهم ليوفوا بمطالبه منهم. وثار اليهود مرة أخرى في عام 332 وأخمدت ثورتهم ودكت صبورى دكاً، وخربت أجزاء من طبرية وغيرها من المدن، وقتل آلاف من اليهود، واستعبد آلاف آخرون. وبلغت حال اليهودي الفلسطيني وقتئذ درجة من الانحطاط، كما بلغ الاتصال بينهم وبين غيرهم من الجماعات اليهودية درجة من الصعوبة، اضطر معهما حاخامهم هلل الثاني أن ينزل عما كان ليهود فلسطين من الحق في أن يحددوا لجميع اليهود تواريخ أعيادهم، وأصدر لهم تقويما يحددون هم بمقتضاه تواريخ هذه الأعياد مستقلين عن يهود فلسطين، ولا يزال هذا التقويم الذي أصدره هلل معمولاً به إلى اليوم لدى اليهود في جميع أنحاء العالم.
فلما ارتقى يوليان عرش الإمبراطورية أنقذ اليهود إلى أجل قصير من هذا التعذيب. فقد خفض هذا الإمبراطور الضرائب المفروضة عليهم، وألغى القوانين التي تجعلهم أقل منزلة من غيرهم، وأطرى الصدقات العبرانية، واعترف بأن يهوه "إله عظيم". وسأل زعماء اليهود عن سبب امتناعهم عن الضحايا الحيوانية؛ فلما أجابوه بأن شريعتهم تحرم عليهم هذه التضحية إلا في هيكل أورشليم أمر أن يعاد بناء الهيكل من مال الدولة. وأعيد فتح أورشليم لليهود فهرعوا إليها من جميع أنحاء فلسطين ومن كل ولاية في الإمبراطورية، وسخر الرجال والنساء والأطفال جهودهم لإقامة البناء، وتبرعوا بحليهم وما ادخروه من أموالهم لتأثيث الهيكل الجديد، وفي وسعنا أن نتصور سرور القوم الذين ظلوا مائتي عام يدعون ربهم أن يمنّ عليهم بهذا اليوم. ولكن بينما كانوا يحفرون الأرض لوضع الأساس إذ خرج من باطنها لهيب أحرق عدداً من العمال القائمين بالعمل. غير أن الناس عادوا إلى العمل من جديد-فعادت هذه الظاهرة مرة أخرى-ولعل سببها انفجار بعض الغازات الطبيعية-فأوقفت العمل وثبطت همة القائمين بالمشروع. وفرح المسيحيون إذ بدا لهم أن الله غير راض عن إعادة بناء الهيكل، وعجب اليهود من هذا وحزنوا له. ثم مات يوليان فجأة، فحبست عنهم أموال الدولة، وسنت من جديد القوانين المقيدة لهم وجعلت أشد صرامة مما كانت من قبل، وحرم على اليهود مرة أخرى دخول أورشليم، فعادوا إلى قراهم، وفقرهم، وصلواتهم. وكتب جيروم بعد قليل من ذلك الوقت يقول: إن أهل فلسطين اليهود "لا يزيدون على عُشر ما كانوا عليه من قبل". وفي عام 425 ألغى ثيودوسيوس الثاني الحاخامية الفلسطينية، وحلّت الكنائس المسيحية اليونانية محل المعابد والمدارس اليهودية، وتخلت فلسطين بعد هبة قصيرة في عام 614، عن زعامة العالم اليهودي.
فهل يلام اليهود بعد هذا إذا أملوا أن تكون حالهم أحسن من هذه الحال في بلاد لا تسود فيها المسيحية سيادتها في البلاد التي يخضعون لسلطانها. فمنهم من انتقل نحو الشرق إلى أرض النهرين وإلى بلاد الفرس وقووا العنصر اليهودي البابلي الذي لم ينعدم من تلك البلاد منذ الأسر الذي حدث في عام 597 ق. م. وكانت وظائف الدولة محرمة على اليهود في بلاد الفرس أيضاً؛ ولكن هذه الوظائف كانت محرمة كذلك على جميع الفرس ما عدا طبقة الأشراف، ولذلك لم يكن هذا القيد ثقيلاً على اليهود أنفسهم. وقد حاقت باليهود في تلك البلاد عدة اضطهادات، ولكن الضرائب المفروضة عليهم كانت أخف عبئاً منها في غير تلك البلاد، وكانت الحكومة في الأحوال العادية تتعاون معهم، وكان ملوك الفرس يعترفون بالإجزيلارك أي زعيم الطائفة اليهودية ويجلونه. وكانت أرض العراق وقتئذ خصبة تسقيها مياه النهرين، ولذلك أضحى من فيها من اليهود زُرّاعاً أثرياء وتُجاراً ناشطين، ومنهم طائفة من بينها عدد من جلة العلماء الذائعي الصيت. وتضاعف عدد الجالية اليهودية في بلاد الفرس بسرعة كبيرة لأن دين الفرس كان يبيح تعدد الأزواج. وكان اليهود يتبعون هذه العادة لنفس الأسباب التي كانت تبيحها الشريعة الإسلامية. وكان الكاهنان الطيبان رب ونحمان أثناء تجوالهما يعلنان في كل مدينة يحلان بها عن رغبتهما في زوجات مؤقوتات، لكي يضربا بذلك مثلاً لشبان تلك المدن للحياة الزوجية ويبعداهم على الحياة الإباحية. وفي نحرديا Nehardea، وسورة، ويمبديثا أنشئت مدارس للتعليم العالي، أضحى علماؤها، وأضحت قرارات كواهنها الدينية، موضع الإجلال في جميع أنحاء البلاد التي تشتت فيها اليهود.
وظل اليهود في أثناء ذلك الوقت ينتشرون في جميع البلاد الواقعة حول البحر المتوسط. فمنهم من ذهب لينضم إلى الجاليات اليهودية في بلاد الشام وآسية الصغرى، ومنهم من ذهب إلى القسطنطينية، رغم عداء أباطرة الروم وبطارقتهم، ومنهم من اتجهوا من فلسطين جنوباً إلى جزيرة العرب وعاشوا في سلام وحرية دينية مع بني جنسهم الساميين، واحتلوا في تلك البلاد أقاليم برمتها مثل خيبر، وكاد عددهم في يثرب (المدينة) يكون مساوياً لعدد العرب أنفسهم، واستمالوا إلى دينهم عدد من الأهلين، وهيئوا عقول العرب لما جاء به الإسلام من عقائد يتفق بعضها مع العقائد اليهودية. ومنهم من عبروا البحر الأحمر إلى بلاد الحبشة حيث تضاعف عددهم بسرعة حتى قيل إنهم بلغوا في عام 315 نصف سكان تلك البلاد. وكان اليهود يمتلكون نصف سفن الإسكندرية، وكان ثراؤهم في تلك المدينة السريعة التأثر والاهتياج مما زاد من حدة العداء الديني.
وانتشرت جاليات يهودية في جميع مدائن أفريقية الشمالية، وصقلية، وسردينية. وكان عددهم كبيراً في إيطاليا، وكان الأباطرة الوثنيون يحمونهم في العادة من الأذى، وإن كان الأهلون المسيحيون والإمبراطور ثيودريك، والبابوات يشددون عليهم النكير في بعض الأحيان. وكان في أسبانيا جاليات يهودية قبل يوليوس قيصر، ونمت تلك الجاليات دون أن يتعرض لها بأذى تحت حكم الأباطرة الوثنيين، وأثروا في عهد القوط الغربيين الآريين، ولكنهم تعرضوا للاضطهاد الميئس بعد أن اعتنق الملك ريكارد (568-601) عقائد مؤتمر نيقية. ولسنا نعرف أن اليهود تعرضوا للاضطهاد في غالة قبل أن تصدر قرارات مجلس أورليان الثالث والرابع (في عامي 538 و541) بعد أن انتصر كلوفس Clovis المسيحي المتمسك بدينه على القوط الغربيين الآريين بجيل من الزمان. وأحرق مسيحيو أورليان كنيساً يهودياً حوالي عام 560، وطلب اليهود إلى جنترام Gunthram ملك الفرنجة أن يعيد بناؤه من أموال الدولة أسوة بما فعله ثيودريك في مثل هذه الحادثة من قبل. ولما رفض جنترام هذا الطلب صاح الأسقف جريجوري التوري Gregory of Tours: "ما أعظمك أيها الملك وما أعجب حكمتك!".
وكان اليهود في البلاد التي انتشروا فيها ينتعشون على الدوام بعد هذه الخطوب، فكانوا يعيدون بناء معابدهم في صبر وأناة، وينظمون شئون حياتهم ويكدحون، ويتجرون، ويرابون، ويصلون، ويأملون، ويزدادون ويتضاعفون. وكان يطلب إلى كل جالية في بلد أن تقيم على نفقتها مجتمعة ما لا يقل عن مدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية يضمهما في العادة الكنيس نفسه وكان يشار على العلماء ألا يعيشوا في بلد يخلو من هاتين المدرستين. وكانت لغة العبادة والتعليم هي اللغة العبرية، أما لغة التخاطب اليومي العادي فكانت الآرامية في بلاد الشرق، واليونانية في مصر وفي بلاد أوربا الشرقية؛ أما في غير تلك البلاد فكان اليهود يتخاطبون بلغة من يعيشون بينهم من الأهلين. وكان الدين هو الموضوع الذي يدور حول التعليم اليهودي، أما الثقافة غير الدينية فكادت في ذلك الوقت أن تهمل إهمالاً تاماً. ذلك أن اليهود المشتتين لم يكونوا يستطيعون أن يحفظوا كيانهم جسمياً وروحياً إلا عن طريق شريعتهم، وكان الدين عندهم هو دراسة هذه الشريعة والعمل بها. وكان دين آبائهم يزداد قيمة لديهم كلما زاد الهجوم عليه، وكان التلمود والكنيس الدعامتين والملجأين اللذين لا غنى عنهما لشعب حائر تقوم حياته على الرجاء ويقوم رجاؤه على الإيمان بالله.

يتبع- منشئو التلمود



#محمد_صالح_الطحيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأساقفة الشرقيون
- المارقون عن المسيحية
- تنازع العقائد المسيحية
- المسيحيون
- موت المسيح وتجلّيه
- الإنجيل
- رسالة عيسى اليسوع
- نشأة عيسى المسيح
- الديانة المسيحية
- بوذا في أيامه الأخيرة
- تعاليم بوذا
- أسطورة بوذا
- ماهافيرا والجانتيوُّن
- بوذا
- فلسفة أسفار يوبانشاد
- أسفار الفيدا باعتبارها أدباً
- ديانة أسفار الفيدا
- ألنفي
- الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية
- زردشت


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد صالح الطحيني - اليهود والنفي