|
رأي حول -الحكومات التقدمية- بأمريكا اللاتينية
مرتضى العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 5068 - 2016 / 2 / 7 - 09:08
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
تقديم: بعد هزيمة الحزب الاشتراكي الموحد في الانتخابات التشريعية الأخيرة في فنزويلا، تساءل العديد من الملاحظين عن الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء تلك النتائج، بل ذهب بعضهم إلى التبشير بنهاية تجربة ما يسمّي بالحكومات التقدمية في بلدان أمريكا اللاتينية. لذلك رأيت من المفيد ترجمة هذا المقال عن هذه التجربة بالذات وهو بقلم "بابلو ميراندا" السكريتير الأول للحزب الشيوعي الماركسي اللينيني بالإكوادور، وقد نُشر في العدد 28 من مجلة "وحدة وصراع" لسان حال الندوة الدولية للأحزاب والمنظمات الماركسية اللينينية. ولئن مرّ ما يزيد عن السنة منذ نشره، إلا أنه يمكّننا من فهم جزء مما يجري في تلك البلدان.
شهدت العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين وصول "حكومات تقدمية" إلى سدّة الحكم في عديد بلدان أمريكيا الجنوبية عن طريق الانتخابات. وقد انبثقت هذه الحكومات في ظرف خاصّ تميّز بتصاعد نضالات الجماهير الشعبية والشباب الذين كانوا يخوضون المعارك من أجل تجاوز هجمة السنوات التسعين من القرن الماضي، التي سيطرت فيها السياسات النيوليبرالية لكنها برهنت على عجزها عن حلّ الأزمة آنذاك، في وقت فقدت فيه كلّ من البورجوازية وأحزابها هيبتها كما وصلت سياساتها إلى الحضيض. ظهرت هذه الحكومات مسنودة بالحركات النقابية والشعبيّة، ومسنودة كذلك ببعض الأحزاب والمنظمات السياسيةّ اليساريّة. لكنها كانت كذلك تعكس كذلك انشغال الطبقات والقطاعات المهيمنة، بما فيها الاحتكارات الدولية، وخاصّة منها احتكارات أمريكيا الشّماليّة بإعادة ترتيب بيتها وقد أبدت هذه الحكومات معارضتها للنيوليبراليّة، ولمعاهدة التبادل التجاري الحرّ مع الولايات المتحدة، ورفضها لقيود الديون الخارجيّة وطرح إعادة التفاوض بشأنها. أمّا على الصعيد الداخلي، فإنها كانت تنتقد الأحزاب التقليديّة والمؤسّسات القائمة، وكانت تطالب بالديمقراطية والتغيير، وبالثورة أحيانا والتي أعطتها مسمّيات مختلفة مثل " ثورة مواطنيّة"، "ثورة بوليفارية"،" ثورة أندينية" (نسبة إلى جبال "الأنديز" التي تمتد على كامل القارّة) " اشتراكيّة القرن الحادي والعشرين" والمقصود بهذه التسميات التباين مع النضالات والتجارب الثورية وحكومات الثورات الماركسيّة اللينينيّة للقرن العشرين ولقد تزامنت هذه الحكومات مع ارتفاع الأسعار للمواد الطبيعيّة والمواد الفلاحية على المستوى الدولي، وهي موارد متواجدة بكميّات محترمة في شبه القارّة الأمريكية. وفي نفس الفترة، تفجّرت أكبر أزمة اقتصاديّة عالميّة منذ ثلاثينات القرن الماضي، أزمة اندلعت في الولايات المتحدة وانتشرت في مختلف أصقاع العالم، وأثرت على الكثير من البلدان التّابعة، وخاصّة منها بلدان أمريكيا اللاتينيّة. إلاّ أن هذه الأخيرة تمكّنت إلى حدّ ما من تجاوز آثار الأزمة في فترة قصيرة نسبيّا تبعا لارتفاع سعر الموادّ الأوّليّة. ففي جزء كبير من بلدان أمريكا الجنوبيّة مثل المكسيك والشيلي، والبرازيل، وكولومبيا، والبيرو، والأرجنتين وكوستاريكا تضاعفت الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة وشراء ملايين هكتارات من الأراضي الصالحة للزراعة. وفي كثير من البلدان، رُصدت أموال طائلة للاستثمار في قطاع المناجم مثل مناجم الذهب والنحاس والليتيوم والحديد، كما رُصدت أموال أخرى للتنقيب عن البترول. وهذا التدخّل القسري للرأسمال الأجنبي ساهم في نموّ الناتج الداخلي الخام والذي قدّم على أنّه إحدى نعم النظام الرأسمالي والاستثمار الخارجي؛ وقدّمته "الحكومات التقدّميّة"، على أنّه من محاسن النموّ المتعدّد الارتباطات. وقد كان هذا الوضع مشتركا لكلّ بلدان أمريكيا الجنوبيّة بقطع النّظر عن اليافطة السياسيّة لحكوماتها. فخلال أكثر من عشر سنوات حافظت هذه الدول على نسبة نموّ تقارب 4,5% إلا أنّه وفي 2013، انخفضت هذه النسبة إلى 2,7%، وحسب تقديرات البنك الدولي لن تتجاوز 2,2% سنة 2014. وقد اعتبرت أمريكا اللاتينية دائما على أنّها الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وقد دافعت حكومة الولايات المتحدة على هذا الوضع في كل من المجالات الاقتصاديّة والديبلوماسيّة والعسكريّة. إلاّ أن الدول الامبريالية العظمى بأوروبا وآسيا، والاحتكارات العالميّة قد واصلت سياسة تصدير رؤوس الأموال من أجل استغلال الموارد الطبيعيّة، والاستثمار في المجال البنكي والمالي وحتى في الصناعة. ولقد تحوّلت الصين خلال السنوات الأخيرة إلى قوّة مصّدرة لإنتاج الصناعات الخفيفة، وأحد أهم الدول القارضة. لقد تمثّل هذا التطوّر الماكرو اقتصادي في أغلب بلدان العالم عبر ارتفاع الاستثمارات العموميّة وعبر تحديث الاقتصاديّات وكذلك عبر وضع سياسة مساعدة تجاه القطاعات الاجتماعيّة الأكثر فقرا لضمان قاعدة انتخابيّة في صلب الجماهير. وعلى الرغم من الخطاب الوطني والمعادي للامبرياليّة، الأمريكية منها بالخصوص، وللاحتكارات أمريكا الشمالية، فإنّه من الواضح أنّ حكومات أمريكيا الجنوبيّة لا تقطع مع النظام الرأسمالي؛ ولكن بحكم تقلص دور الاتحاد السوفييتي وانحصار مجال نفوذه في المنطقة، فإن هذه الحكومات "التقدّميّة" وجدت نفسها مضطرّة للسباحة داخل مناطق نفوذ احتكارات أمريكيا الشماليّة. وهو ما يفسّر تعامل أمريكا بنوع من التسامح مع هذه الحكومات. لكن دون التخلي عن ممارسة شتى أنواع الضغوطات السياسيّة والاقتصاديّة من أجل إرجاعها تماما ضمن مناطق نفوذها. بل إنّه في فنيزويلا مثلا تمّ التدخل بشكل مباشر وصريح لمساندة القوى الرجعية هناك، ولمساندة الانقلاب العسكري وإضراب الأعراف والمظاهرات المعادية للحكومة والإرهاب. إنّ "الحكومات التقدّميّة" التي تمثّل مصالح فئات من البورجوازيّة، تمكّنت من خلق أطر جهوية وإقليمية عديدة والتنظّم داخلها مثل: "التحالف البوليفاري لشعوب أمريكتنا"( ألبا) أو "اتحاد أمم أمريكا الجنوبية"، وكذلك " مجموعة دول أمريكيا اللاتينيّة والكراييبي". وكانوا في نفس الوقت، يمارسون ضغوطات عبر "منظمة الدول الأمريكية". لقد وجهت الحركة الشعبية وحركات الشباب والنساء وحركات السكان الأصليين والمدافعين عن البيئة الذين قاوموا النيوليبيرالية، واشتدّ عودهم في المعارك، كل هؤلاء وجهوا نضالاتهم بصورة أساسية نحو المعارك الانتخابية وقد ساند كل هؤلاء البدائل التي تمثلت فيما بعد في هذه " الحكومات التقدّميّة". وقد أثّرت هذه الوضعيات الجديدة، وبشكل ملموس، إن بصورة موضوعيّة أو ذاتيّة، في تطوير الوعي والحالة النفسية للجماهير الكادحة والشباب. إن الخطب الفضفاضة التي يلقيها الزعماء "التقدميون"، والعمل الكثيف للاشتراكيّة-الديمقراطيّة والانتهازيّة، إضافة إلى تنفيذ جزء من الوعود الانتخابيّة، والخطب القاسية للرجعيّة اليمينيّة المعارضة للحكومات قد كان لها أيضا تأثير على السلوكات في قطاعات شعبية منظمة. هكذا إذا، تحدّدت ضرورة دعم التحرّكات الجذريّة في الميادين الاقتصاديّة والسياسيّة، وكذلك تطوير المواقف الديمقراطيّة والوطنيّة نحو مواقع أكثر تجذرا. لقد أثّرت هذه الوضعيات الجديدة على اتخاذ قرارات هامّة تقتضي من بعض القطاعات التخلي عن مطالبها الخصوصية من أجل المصلحة العامّة. لقد غذّى هذا الأمر في بعض القطاعات الوهم في كون هذه الحكومات ومشاريعها هي الوسيلة التي ستمكّن من تجاوز مشاكل العمّال وتنمية البلاد. وبدرجة لا يستهان بها، فقد وفرت جملة هذه الأحداث فرصة سانحة لتطوير ونموّ أفكار إصلاحية، مدافعة عن السلم والانتهازيّة، التي كانت لها تعبيراتها داخل الحراك الشعبيّ. ومن ناحية أخرى، فإن بروز هذه الحكومات " التقدميّة " يعني هزيمة وتفجّر الأحزاب التقليديّة للبورجوازيّة، واليمين الرجعي والاشتراكيّة الديمقراطية القديمة. إلاّ أنّ عامّة الطبقات الحاكمة قد فهمت أن هذه الحكومات لن تضرّ بمصالحها، ويمكنها التعايش معها والاستفادة من سياساتها. ففي الإكوادور مثلا، فإنّ الغرف الصناعيّة، ومعظم كبار المقاولين وأصحاب البنوك قد كانوا أوّل المستفيدين، إذ حقّقوا مداخيل وأرباحا أرفع ممّا حقّقوه في الماضي تحت حكومات الأحزاب التقليديّة اليمينية. ومن الطبيعي أن مختلف شرائح الطبقات المهيمنة لم تتخلى عن التفكير في الصراع من أجل السلطة عن طريق الانتخابات. وفي هذا الصدد، فقد اختارت الطغم المالية والقطاعات الرجعية بمساعدة الولايات المتحدة، الالتجاء في فنزويلا إلى أسلوب الانقلاب من أجل زعزعة استقرارها الاقتصادي وحتى إلى تعبئة الجماهير للمواجهات في المدن. ولقد انجرّ عن ظهور هذه "الحكومات التقدّميّة" فتور التعبئة داخل الحركة النّقابيّة والشعبيّة، إضافة إلى أوهام تحديث البلاد، والتنازل عن المطالب الشعبيّة، وتأثير سياسات المساعدة، والدفاع عن السياسات التي تنأى بالجماهير عن النضال النقابي والاجتماعي ـ عدا حكومة فنزويلاـ والتهديد والمساومة في بلدان مثل الإكوادور والأرجنتين وبوليفيا، وممارسة سياسة قمعيّة، مضيّقة للحقوق النقابيّة والاجتماعيّة، والتضييق على الحق في التنظم والحقّ في الإضراب؛ هذه السياسات أدّت إلى تجريم النضال الاجتماعي، وملاحقة وسجن المناضلين الاجتماعيين. كل هذه الأمور قد أدّت إلى تلاشي التعبئة العامّة للحركة الشعبيّة.
السياسة الإصلاحية للتنمية وصلت أوجها
عشر سنوات، ذاك هو معدّل تماسك الحكومات "التقدمية" لأمريكا اللاتينية. وفي نهاية هذه الفترة، كل المؤشرات تبيّن وكأنّ هذه الحكومات قد بلغت منتهاها. وقد تدخّلت عوامل عديدة للحذّ من النمو الاقتصادي في هذه البلدان، ومن بينها: 1- انخفاض أسعار المواد الأوّليّة 2- استرجاع اقتصاديّات أمريكا الشماليّة وألمانيا وأوروبا الغربيّة أنفاسها 3- انخفاض نسق نموّ البلدان النامية مثل الصين والهند، وعلامات ركود في تركيا وإفريقيا الجنوبية والبرازيل 4- التطوّر السريع للدّين الخارجي، وخاصّة الدين مع الصين، والنسبة المرتفعة للفوائض المفروضة من طرف الدائنين الجدد التي تبلغ معدّل 6 %. 5- العودة إلى الاقتصاد البدائي في أغلب بلدان أمريكا اللاتينيّة، ومن بينها تلك البلدان المحكومة من قبل الحكومات "التقدمية" باعتبارها بلدانا مصدّرة للموادّ الخام والموارد المنجميّة والبترول والمنتوجات الفلاحيّة والمواشي. هذه أوضاع معلومة في كلّ من البرازيل والأرجنتين، هذان البلدان اللذان يصدّران الصوجا واللحوم والقمح والحديد والنحاس. أما بقية البلدان فهي تختصّ في تصديرالبترول والغاز والألومينيوم والليتيوم والموز والقهوة والكاكاو والصوجا والأزهار. 6- كلّ شيء يشير إلى أن ركودا جديدا آت على المستوى الدولي، وهو سيؤثّر بشكل صريح على كلّ بلدان أمريكا اللاتينيّة؛ وأن هذا الوضع الجديد لن يؤدّي إلى ارتفاع أسعار الموادّ الأوّليّة لأنّ مؤشّرات تطوّر اقتصاد كل من الصين والهند غير قادر على التخفيف من حدّة الأزمة مثلما حدث في 2007. كلّ هذه المسائل تقلص من المداخيل القمرقية بصورة ملحوظة، وبالتّالي تحدّ أيضا من إمكانية مواصلة تحقيق الإنجازات الماديّة والاجتماعية التي تمثّل دعما للقطاعات الشعبيّة. ففي فنزويلا مثلا، ورغم الإنتاج الكبير، وتصدير البترول، والمداخيل الهامّة المتأتّية منه، لم تتمكّن الحكومة من حلّ مشكلة التزوّد بالمواد الغذائيّة الأساسيّة للمعاش اليومي للجماهير، ولو بنصف الحاجة. أمّا في البرازيل، التي رفعها النمو الاقتصادي الشامل إلى المرتبة السابعة من ضمن الاقتصاديات الكبرى في العالم، فقد ظلت أوضاع التفاوت الاجتماعي قائمة، وتواصل فقر الفلاحين ولم يتمّ القضاء على الأحياء الفقيرة، كما تواصل عجز ملايين الشباب للوصول إلى التربية والعمل، ويعيشون بلا هدف في الحياة. ففي الإكوادور، ورغم أن حكومة "رافائيل كورّيا" ، قد تمتّعت بستّ سنوات من المداخيل المرتفعة مقارنة بالحكومات السابقة مدّة خمسين سنة، فإن مشاكل الفقر والبطالة وسوء التشغيل ظلت تؤثّر على أغلبية المواطنين. وحسب الأرقام الرسمية، ظلّت نسبة البطالة المطلقة تحوم حول 5 % فيما زاد ت البطالة المقنعة عن نسبة 50 %. وفي الأرجنتين، تحوّل ارتفاع الميزان التجاري إلى عجز، وشعرت الجماهير العمالية أن مداخيلها تنقص، فيما تطوّرت نسبة البطالة. وفي النيكاراغوا وبوليفيا انخفض نسق النموّ الاقتصادي.
ما بعد النيوليبرالية عاجز عن تضميد جراح الرأسمالية
من الواضح أنّ النيوليبرالية في أمريكا اللاتينية قد استنفدت سياساتها وإنجازاتها، وقد فات أوانها أصلا. والسؤال المطروح الآن: ما هي السياسات التي هي بصدد تعويض النيوليبرالية؟ إنّ النيوليبرالية فشلت في سعيها إلى تجاوز أزمة رأس المال الماليّ العالمي. وقد ساهمت نضالات الطبقة العاملة ومقاومة الشعوب في الرمي عرض الحائط بالسياسات النيوليبرالية، وكذلك بفرض تعديلات متتالية داخل الاحتكارات نفسها، فيما يتعلق بتنافسها من أجل اكتساب وتركيز الثروات، وكذلك بين مختلف شرائح الطبقات المهيمنة في مختلف البلدان. ولمجابهة الأزمة العالمية لسنة 2007، فقد تمّ استعمال الأموال العموميّة بصورة أساسية، وقد كان دور الحكومات محدّدا، وقد عبأت الاحتكارات السياسات العامّة من أجل حمايتها سواء في الدول الامبريالية أو الدول التابعة، بينما بقيت مرونة التشغيل وحرية التجارة هي القاعدة لدى الاحتكارات. في أمريكيا اللاتينية، ومثلما لاحظنا، فإن ظهور "الحكومات التقدّميّة" قد وجّه ضربة للنيوليبرالية نظرا لعجزها على إيجاد حلول لمشاكل الجماهير الشعبيّة والشباب، كان لا بدّ من وضع سياسات جديدة. وباسم التغيير، تمّت إعادة توزيع قطع الشطرنج حتى لا تتمّ زعزعة النظام، وبتلك الطريقة استطاعت كلّ من المؤسسات والبنوك أن تحافظ، بل أن ترفع مناباتها، وقد ساهمت إعادة الهيكلة في في ضخّ كمّيات كبيرة من المداخيل الجبائيّة في الأشغال العامّة، وتمّ الترفيع نسبيّا في الأجور وفي وضع سياسة مساعدات اجتماعية إراديّة. وباسم السيادة والاستقلال، طرحت مسألة التبعية إزاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للتفاوض على قواعد جديدة، في إطار هذه الهندسة الجديدة للعولمة، كانت القوة الاقتصادية الصينية تفرض شروطها الخاصة بها. وأخيرا، وفي أغلب بلدان أمريكيا اللاتينية، وخاصة في تلك التي تسوسها "الحكومات التقدّمية"، فقد تمّ تجاوز السياسات النيوليبراليّة، ولكن هذا لا يعني أنّه قد تمّ التخلّي عنها نهائيّا. فالسياسات تلك مسؤولة عن تحديث الاقتصاديات تحديثا سار يالتوازي مع مداخيل قمرقية هامّة تبلوت في العديد من البنى التحتيّة العامّة: الطرقات والموانئ، والمطارات، والمحطّات الهيدروكهربائيّة، والمستشفيات، والمدارس. ولم يتمّ المساس بأيّ حال بمصالح الاحتكارات والطغم الماليّة في أيّ من بلدان أمريكيا اللاتينيّة. ولم يتمّ أبدا استكمال الإصلاحات الاجتماعية التي تمّ البدء فيها. ففي كل البلدان، تتمّ عملية التراكم الرأسمالي باستغلال الطبقة العاملة وباقي الطبقات الكادحة. وقد استطاعت السياسات ما بعد النيوليبراليّة التي تتخذها "الحكومات التقدّميّة" من أن تفتّت التعبئة الشعبيّة، وبث الأوهام وتقسيم الحركة النقابية، وفي بعض الحالات فإنها ادّعت جعل الشغالين في خدمة المشروع الحكومي.
الحركة الشعبيّة في ظلّ الأوضاع الجديدة
إنّ انبهار الجماهير بالطابع الديمقراطي والوطني "للحكومات التقدّميّة" في أمريكيا اللاتينيّة بصدد التراجع نظرا إلى أنّ المشاكل الجوهريّة للجماهير ظلّت قائمة، كما أنّ تبعيّة دول أمريكيا اللاتينية لا تزال حقيقة حيّة. وتتطوّر الأحداث بشكل متواتر: 1- تفطّن الجماهير الشعبيّة والشباب إلى حقيقة الأمر فيما يتعلّق بحل مشاكلهم الجوهريّة وفيما يتعلّق بالأوهام التي خلّفها التطوّر المادّي للبلد 2- إنّ الطابع الإصلاحي والمتمحور أساسا حول التنمية لهذه " الحكومات التقدّمية" بصدد الانكشاف في صلب جزء كبير من الحركة النقابيّة والشعبيّة المنظّمة وكذلك في أوساط الشّباب. 3- لقد انخرط جزء كبير من حركة السكّان الأصليّين بالإكوادور في النضال ضد الطابع القمعي والمعادي للديمقراطيّة لحكومة "كوريا". أمّا في بوليفيا، ورغم المطالب المختلفة للقوميّات، فإنّ شريحة كبرى من الشعوب الأصليين وضّحت موقفها من حكومة "خوان إيفو موراليس" ، وهي بصدد الدفاع عن حقوقها. 4- مظاهرات معبّرة عن الرفض والغضب من الأوضاع الاقتصادية ويشارك فيها أساسا العمّال والشباب الذين يعبرون خلالها وخلال الإضرابات وعبر كلّ أشكال التعبئة عن المطالبة بحقوقهم. إنّ مسيرة الماء في الإكوادور، وإضراب المدرّسين في الأرجنتين، ونضالات الطبقة العاملة في بوليفيا، كلها جزء من عمليّات التعبئة. 5- ومن أرقى عبارات النضال الاجتماعي والسياسي ذو المحتوى الإيديولوجي الموجّه ضدّ النظام الرأسمالي، ونذكر التعبئة الشبابيّة لسنة 2013 التي ملأت شوارع أكبر المدن البرازيلية، هذه المظاهرات التي كشفت أن انجازات حكومة حزب العمال تعود بالفائدة مباشرة على الرأسمال والطغمة المالية وهي أبعد ما يكون عن تلبية الحاجات المادّيّة والمعنويّة للجماهير وخاصّة منها الشباب. 6- في بعض البلدان، تلك التي يسوسها حكام من اليمين، ما انفكّت نضالات العمّال والفلاحين والشباب من أجل حقوقهم تتطوّر وتتسع، وكذلك نضالات السكان الأصليين من أجل حماية البيئة في مواجهة التطوّر المهول للصناعات المنجميّة: كذا عمّال المناجم في كولمبيا وعمّال المكسيك وطلبة الشيلي والقوميّات الأصليّة بالبيرو والفلاحين والأساتذة والطلبة بالهندوراس. 7- وفي داخل مختلف تشكيلات اليسار، شرعت أحزاب ومنظمات ثوريّة في تحديد نقاط التباين بين الأوهام الإصلاحية والتغيير الاجتماعي، بين اشتراكية القرن االحادي والعشرين والمواقف الماركسية، التباين بين التحريفيّة والماركسية اللينينيّة. لقد انغمست الأحزاب التحريفية القديمة في البحث عن مظاهر "التقدّميّة" لمساندة هذه "الحكومات التقدّميّة" إلى جانب منظمات أخرى للبورجوزيّة الصغيرة وللمرتدّين عن المواقف الثوريّة؛ فيما يقف إلى جانب العمّال والشعوب، في خانة التغيير الاجتماعي والثورة ، من أجل حقوقهم ومصالحهم، ومن أجل النّضال لتجاوز النظام الرّأسمالي، منظّمات كانت في الماضي تضع نفسها في اليسار، ومنظّمات جديدة منحدرة من الصدامات ضدّ الطبقة البورجوازيّة وضدّ الامبرياليّة، ومن الطبيعي أن تقف أيضا الأحزاب والمنظّمات الماركسيّة-اللينينيّة بشكل مبدئي ومتماسك في هذا الخندق. 8- إن الكفاح الثوري المسلّح والذي لديه تعبيرات متنوّعة ومتفاوتة في عدد من بلدان أمريكيا اللاتينية في القرن العشرين، المنتصر في كلّ من كوبا والنيكاراغوا، والذي انهزم عسكريّا في بلدان أخرى لا يزال ذا راهنية في كولومبيا. فقوات "الفارك" ( القوات المسلحة الثورية في كولومبيا) تحتفل هذه السنة بالذكرى الخمسين لانطلاقها من أجل افتكاك السلطة؛ وكذلك الأمر بالنسبة لقوّات أخرى مثل "الجيش الشعبي للتحرير" و " جيش التحريرالوطني" التي لا تزال متمسّكة بالحقّ في استعمال العنف الثوري وشرعيّته. 9- إن الجدال النظري والسياسي الدّائر بين اليسار واليمين، بين الثورة والإصلاح، بين الماركسية-اللينينية والتحريفية قائم وهو يتطوّر بمختلف المجالات. وإن حلّ هذا الجدل لا يمكن إلا أن يكون نظريّا وعمليا في ذات الوقت.
آفاق جديدة لتطوّر النضال الثوري
إن تحليل الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وتحليل موازين القوى في مستوى المواجهة بين العمّال والأعراف، وبين الشعوب والطغم، وكذلك الصّراعات بين مختلف الاحتكارات والبلدان الامبرياليّة، مثل التناقضات داخل صفوف البورجوازيّة، تمكّكنا من تبيّن ظهور عدّة أحداث سياسيّة هامّة في المستقبل القريب. وستنخرط الجماهير الشعبيّة في الهجوم من أجل مطالبتها بتحسين الأجور وضمان الاستقرار، وأيضا من أجل الدفاع عن الحقوق النّقابيّة. سيلتقون، وسيتعرّفون على بعضهم باعتبارهم المحرّك الأساسيّ للتغيير والثورة والاشتراكيّة. سيواصل الفلاّحون نضالاتهم من أجل الدّفاع عن حقّهم في الماء وفي الأرض، وضدّ اتفاقيات التبادل الحرّ مع الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي، وكذلك ضدّ الاستغلال المنجمي الذي يدمّر البيئة. سيطوّر المدرّسون نضالاتهم من أجل الدّفاع عن التعليم العموميّ، وكذلك من أجل الدّفاع عن حقوقهم النّقابيّة. كما ستنخرط الشبيبة بشكل جماهيريّ، وبتعبئة قويّة في الدّفاع عن حقوق الإنسان، وعن الحقّ في بيئة سليمة، ومن أجل الدّفاع عن السيادة الوطنيّة والديمقراطيّة والحريّة.وسيلعب السكّان الأصليّون دورا حاسما في الدّفاع عن الحقوق القوميّة، وسيتّحدون من أجل التحرّر الاجتماعي. إن النقاشات النّظريّة السياسيّة بين اليسار واليمين، بين الإصلاحية والثورة سيتكثّف، وستثبت المواقف الماركسية-اللينينيّة في وعي الجماهير الكادحة والشباب وفي تنظيماتها. إنّ التّاريخ يتقدّم ولا يمكن لأحد إيقافه. فقد دخل رأس المال في مرحلة أصبحت تناقضاته غير قابلة للحلّ، وانغمس في مواجهات عقيمة بين مختلف الامبرياليّات، وهو يواجه في ذات الوقت هجمة الكادحين والشعوب. ففي أمريكيا اللاتينيّة، تستعدّ الطبقات الكادحة إلى خوض المعارك الطبقية الكبرى.
بابلو ميراندا
الإكوادور، مارس 2014
#مرتضى_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشباب المغربي يخوض معارك شهر يناير بروح 20 فبراير
-
هل تدفع بوركينا فاسو ضريبة التدخل الامبريالي الفرنسي في بلدا
...
-
أردوغان يستغلّ انشغال العالم بالحرب على سوريا ليشنّ الحرب عل
...
-
-التنمية في تونس-، كتاب جديد للأستاذين محمود مطير وحسين الرح
...
-
الطبقة العاملة تستقبل السنة الجديدة بموجة من النضالات في أنح
...
-
الانتخابات التشريعية في فنزويلا: هل هو انتصار للثورة المضادّ
...
-
هل هي نهاية الاستقطاب الثنائي على الساحة السياسية الإسبانية؟
-
الانتخابات الجهوية بفرنسا: الشعب يعبّر عن رفضه لبرامج الأحزا
...
-
صدور العدد 31 (أكتوبر 2015) من مجلة -وحدة وصراع- في نسخته ال
...
-
خلفيات إسقاط الطائرة الحربية الروسية وتداعياته
-
القمة الدولية للمناخ: رهانات وعوائق
-
علامات من ثقافة المقاومة زمن الاستبداد
-
ثنائية الأمن والحرية في مواجهة الإرهاب
-
حوار مع الأستاذ عبد الحميد الطبابي حول كتابه الجديد -دراسات
...
-
ماذا يحصل في تركيا بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات
...
-
لا لسياسة الحرب والإرهاب والبؤس! من أجل جبهة مشتركة لنضال ال
...
-
العمليات الإرهابية في باريس ترسم مجددا خط الفرز بين القوى ال
...
-
حوار مع الأستاذ مصطفى القلعي حول كتابه الجديد -التيار الإخوا
...
-
اليونان من الاستفتاء إلى قبول المذكّرة الجديدة
-
أمام هجمة رأس المال، الطبقة العاملة العالمية تتجنّد للدفاع ع
...
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|