محسن الطوخى
الحوار المتمدن-العدد: 5065 - 2016 / 2 / 4 - 22:10
المحور:
الادب والفن
كألة رصد لزحف الزمان
أمسيت كائن الكون الوحيد .
أمارس فن الانتصاب .
منتصب أنا فى الصمت .
أجتاز أبواب الحراس باباً , باباً .
أسقط فى الدنيا, فراشة ريح .
أطير بوصية جدى .
أقطف مذاق الطين .
سلاماً أيها العسقلانى القديم .
من الألم يولد الفن, يحول المبدع الواعى الألم العظيم إلى متعة أعظم.
حين يلتحم المبدع مع التجربة ويتماهى معها, يتحول النص إلى قصيدة شعر, وهنا قصة قصيرة تسرى فى أوصالها روح الشعر, وهذا ليس بغريب على المبدع الجميل عمر حمش, "حلوة الجليل , وعجل البرارى , وميتتى الأخيرة ", وغيرها من الروائع التى خطّها يراعه, أن تستحيل روح الأسير إلى فراشة تجتاز العوائق, وتتخطى الأسوار, محلقة فوق مراتع الصبا, تتأمل الأرض السليبة, وتزور قبر الجد بتراب عسقلان, وتردد كلماته القديمة, وتأوى إلى ( بيتهم ) القديم على حافة الوادى, وسقيفة ( حارتنا ) حيث كانت جلسة الكبار, تقطف مذاق الطين فى استعادة لطعم الأيام البائدة, وتراب الوطن المسلوب, وتلقى السلام على الوطن الذى حول الغاصبون جدار مسجده إلى خمارة.
هذا نص يطوع الزمان والمكان لمقتضيات التجربة الإنسانية, ويمنح الأسير صفات تتخطى قدرات البشر دون أن يتجاوز المعقول والممكن, فنحن بإزاء أسير أقوى من آسريه, يملك السجان التنكيل بالجسد, لكن الروح الأبية تقهر سجانها بالقدرة على الصمود, برع الكاتب فى طرح التجربة بلغة موجزة, متمكنة, بضمير المتكلم حيث الراوى هو الشخص المحورى الذى يتعرض للتجربة, والأحداث تدور فى مخيلته بينما هو مقيد ومصلوب لصق الجدار, رأسه داخل كيس, معرض للدغ البعوض, والتجربة بأكملها قد لا تستغرق زمنا فعليا إلا بمقدار حلم يقظة, لكن النص يتمتع بعاملين حولا الصورة الاستاتيكية للأسير الموثق إلى بؤرة للنشاط والحيوية, الأمر الذي أكسب النص ديناميكيته, أولهما الحيلة الفنية البارعة التى لجأ إليها الكاتب بخياله النشط, اذ حول المعنوى إلى مادى, فصيّر روح الأسير المقيد فراشة بما تحمله الفراشة من معانى التحول من طور السكون والكمون إلى طور البزوغ, والخروج, والبعث, فتجاوز حالة السكون السلبية التى تصبغ الموقف الأصلى إلى حالة تمور بالحركة والنشاط, والمقابلة بين حالتى الأسير المتحدتان فى الزمان, المختلفتان فى المكان والصيرورة هى حالة ممتعة من التلقى فى حد ذاتها, أما العامل الثانى فهو حاضر فى النص إضماراً من خلال روح المقاومة والتمرد التى بدا بها السجين, فالمقاومة هى الصورة النموذجية للإرادة الإنسانية, رغم أنى آخذ على النص إسهابه فى وصف أنواع القيود والعذابات التى يتعرض لها الأسير حتى ليستغرق هذا الوصف الفقرة الأولى بأكملها, كأنما أراد الكاتب أن يرسخ فى ذهن المتلقى قوة الصمود, وصلابة المواجهة التى يجابه بها الأسير سجانيه, وامتزاج الحركة مع ملامح الإرادة الإنسانية هما فى ظنى ما منحا النص ديناميكيته رغم أنه يدور فى زنزانة مغلقة .
يظهر النص قدرة المبدع على التعامل مع عاملى الزمان والمكان, فالزمن الأصلى هو مقدار مايستغرقه حلم يقظة كما أسلفنا, والمكان لا يتعدى حدود زنزانة نتنة, بينما امتد زمن الأحداث ليستغرق رحلة السجين المتخيلة عبر دروب سجن عسقلان وباحاته, عابراً قنوات الصرف والدهاليز الرطبة متخطياً الأسوار, وسياحته وتأمله فى الأرض التى ربما لم يعرفها إلا من خلال وصف الآباء ,
كما يمتد المكان ويتسع من حدود الزنزانة الضيقة إلى مدينة عسقلان بأسرها, وتعمل المفارقة التي يستحضرها النص بين الواقع الفعلى للأسير, وبين أفق الخيال المتحرر من قيود المادة على جلب متعة التلقى, ومنح النص مزيداً من الحيوية .
أما مايمكن أن يؤخذ على النص فهو استخدامه لصيغة الماضى فى الجمل ( كنت هناك ) . ( كانت أياماً فى صمت ... ) . ( كانت مدربة تعمل .... ) . ( أيامها عقلى العامل قال لى ), فأحد عناصر توهج التجربة كونها تدور فى عقل الأسير فى لحظة آنية يتابعها المتلقى لحظة بلحظة كأنما فى لحظة حدوثها, والجمل التى تعبر عن الزمن الماضى هى كبح لخيال المتلقى, وإقصاء له خارج التجربة, ثم أن ضمير المتكلم الذى تسرد به الشخصية الأحداث بدا مناسبا للغاية لاستقبال التجربة, فأتت الجمل التى صيغت فى زمن الماضى كالنشاز فى مقطوعة موسيقية يسودها الانسجام .
ثانيا : الجمل المباشرة التقريرية من أمثال ( عقلى العامل كان يمضى كلما اشتد الأمر ) .. هى جمل أراها غير ضرورية, ولا تمثل غير إعاقة لتدفق السرد, وتتسبب فى الشوشرة على استغراق القارىء مع التجربة التى نجح الكاتب في عرضها بصدق فنى وشفافية وحس شعرى فاتن, متجاوزاً حدود الزمان والمكان.
نص القصة
فَرَاشَةُ البَوْح
كنتُ هناك أقفُ في الزاويةِ الآسنة، إن أُسقطَ النعاسُ جبهتي؛ ردَّتها حبيباتُ الطلاء، وحيدا في الصمت، كآلةِ رصدٍ لزحفِ الزمان، أعضائي موزعة .. متباعدة .. رأسي منتصبةٌ في كيس، ذراعاي خلفي موصدتان، ينهبُ دمهما البعوض، قدماي تنتفخان في البعيد، أذناي تغادران؛ تغربلان الصوت الذي يأتي، ويروح، يلامسني متموجا، ثم يمضي تعذّبهُ الرِّيح. تقول عينايَ لعتمةِ الكيس: هذا عصر، هذا فجر ..
والصمتُ يعود، يخالطُه الطنينُ.
كانت أياما من صمتٍ وطنين، أمسيتُ كائنَ الكون الوحيدَ المتبقي على وجهِ الأرض .. صاغرا للّدغِ أمارسُ فنَّ الانتصاب، يسري في دمي خدَري، تغافلني رأسي، تسقطُ على صفحةِ الجدار، فتدقُّها حبيباته البارزة، أرفعُ قدما؛ لأحكَّ الأخرى، دمي كان طعاما شهيّا في البقعةِ الهائجة ...
أيامها عقلي العاملُ قال لي: هذه الحشراتُ جندٌ لهم مجندة، كانت مدربةٌ، تعملُ بدراية، تجاورني، وقبل أن تلدغ؛ تدورُ ما بين كيسي ودمي ...
الخدرُ عميق .. أطرافي ممالكُ نملٍ، جلدي قربة، منتصبٌ أنا في الصمت .. أغافلُ جسدي المنتصبَ؛ لأمضي، عقلي العاملُ كان يمضي كلّما اشتدّ الأمر ..
دروبُ سجنِ عسقلان أعرفُها، باحةَ الصلبِ الدائرية، قنواتِ الصرفِ العارية التي تُوقعُ المسحوبين، الدهليزَ الرطبَ، صفيَّ أبوابِ الزنازين، من هناكَ أهرّبُ عينيَّ، عيناي برفقةِ عقلي العامل، أجتازُ أبوابَ الحراسِ بابا بابا، أصلُ البوابةَ الضخمة؛ أحلّقُ، أصيرُ فراشة دوّخها العَطَنُ، أسقطُ في الدنيا، خلف بطن الغول، جسدي هناك، وهنا أنا فراشةُ ريح، أتجاوزُ خطوَ الغرباء المجلوبين، أصلُ مكان السوق، أمّي كانت هنا .. أبي كان هنا .. أعرفُ الطرقات، المسجدَ القديم، جدارَه الذي جعلوه حوانيت خمر، أرى الشعرً المعقوص يسيرُ تحت البرانيط، أشمُّ رائحةَ البلاطِ، جسدي هناك واقف، وأنا هنا، ومن مقبرة عسقلان يصلني نداء جدي، أدقق في الشواهد، في التواريخ، في أسماء العائلات التي كانت، أردّد تحيتي: سلاما أيّها العسقلاني القديم .. أقولُ لجدي كلاما، حتى يوقفني: اذهب، وقبّل نخلة الدار.
أعرفُ الأزقةَ، المنحنيات، باحاتِ لهوِ الصغار مع بدر السماء، بيتَنا الذي كان على حافة الوادي، سقيفةَ حارتنا حيثُ كانت سهرة الكبار، أنا فراشةٌ على باب السقيفةِ، تحلّقُ، تقطفُ مذاقَ الطينِ .. أدلفُ إلى صحن السقيفة، وأطرحَ السلامَ .. جسدي في الزاويةِ الآسنة هناك، روحي هنا فراشة ضوء، لا شأن لي بقدميَ المخدتين، بالصمت، بالطنين، بنداءاتِ "اعترف " أنا روحٌ نشطةٌ، فيها عقلٌ عامل، لا شأن لي بمعدةٍ خاوية، بقنواتٍ تُعثرني وأنا معصوبٌ هناك، إلى هنا أصلُ برشاقتي .. إلى نخلةِ جدي، بابِ الدارِ الذي لا يصدُّني، الجدار الذي شيّدهُ أبي، أبي عند الله الآن، في قبر المخيم، واريناه لمَّا انطفأ، جدي هنا، أبي هناك، بين قبريهما سياجٌ يفصلُ الأرضَ عن السماء، هنا على جدار الدار قال أبي:
ها قد جمعَنا ثانيةً الجدار!
أنا أطيرُ بوصيةِ جدي، ألامسُ جذع النخلة، وأتلمسُ طريقَ الذروة إلى رؤوسِ السعفِ!
لا شأن لي بجسدي في الزاوية، لو جرُّوه فوق القنوات، على أرضية قبو التحقيق، هو طينٌ قد يعودُ إلى عناصره، أنا فراشةٌ عشقٍ خالدة .. هم هناك يعوون: "اعترف" وأنا هنا أُسقطُ السلامَ على السقيفة، هم يُجنُّ جنونهم؛ وأنا على ذرى السَعفِ، أغني أغنيةَ جدي القديمة!
#محسن_الطوخى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟