|
سيرَة أُخرى 13
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5064 - 2016 / 2 / 3 - 04:22
المحور:
الادب والفن
1 بعض المدن، يقال عنها أنها " متحف مفتوح "؛ مثل مدينة باريس، الشهيرة بقصورها وعماراتها وجسورها وشوارعها وميادينها المزيّنة بالنوافير والتماثيل. مدن أخرى، يصحّ أن يقال عن إحداها " جنينة مفتوحة ". مراكش المغربية، هيَ مثال لذلك. ولعلّ أحد ألقابها، " مدينة النخيل "، يضعنا في الصورة الصحيحة. على الرغم من كثافة النخيل وروعته في مراكش، إلا أنه ليس كل شيء فيها بطبيعة الحال. فالأشجار المثمرة، وخصوصاً الحمضيات والزيتون والتين والتوت والموز، تغطي مساحات شاسعة من هذه الحاضرة الساحرة. بل إن البرتقال مغروسٌ كأشجار زينة في معظم الشوارع؛ هوَ المحتفظ بحلّته الخضراء في كل الفصول. عريشة المجنونة ( bouganvilla )، هيَ من أجمل ما يمكن مشاهدته في شوارع مراكش وحدائقها ودورها. إنها تنسكب كشلالات من على الجدران، أو تتسلق أشجارَ النخيل والزيتون وتغطيها تماماً بألوانها الفاتنة، المتنوعة. كذلك توجد المجنونة على شكل خمائل، ويمكن ملاحظتها في أكبر حدائق المدينة، " مولاي عبد السلام "، وهيَ منبسطة على شكل كتل هائلة الحجم، مقصوصة الجوانب غالباً على شكل شراقات الأسوار. أما داخل المدينة، وخصوصاً بمحاذاة " شارع محمد السادس "، فإنّ خمائل المجنونة قد جُعلت كبديل عن سياج الفيلات والدور الأرضية للعمارات. من ناحية أخرى، فأكثر الناس يعتقدون أنّ أزهار المجنونة هيَ تلك الكبيرة المثلثة. في حقيقة الحال، فإنّ أوراق المجنونة هيَ من تنقلب بفعل حرارة الشمس إلى ألوانها المعروفة؛ كالنهدي والأحمر والزهري والأصفر والأبيض. أما الأزهار، فما هيَ سوى تلك البراعم البيض الدقيقة الحجم، المنبثقة من الأوراق المسحورة.
2 في مبتدأ وصولي لمراكش، خلال الزيارة الأخيرة هذه، انطلقت بي سيارة عديلي من المطار إلى حيّ " غيليز " الراقي لكي نصطحبَ ابنه من المدرسة. ثمّة، وأثناء دخول السيارة إلى دربٍ متفرّع عن " شارع محمد السادس "، تراءى لناظري عن بعد ما بدا أنها حديقة ذات أسوار حجرية أنيقة. إلا أنها لم تكن سوى تلك المدرسة، المقصودة. الأشجار المثمرة، كالنخيل والبرتقال والتين، كانت تشرئبُ برؤوسها من وراء الأسوار وكأنها تتطلع بفضول إلى جاراتها، أشجار الزيتون، المغروسة على طول الطوار المحيط بالمدرسة. إذاك، تذكرتُ مبلغ صدمتي حينما كنتُ في الصف الثالث الإبتدائي وجرى نقلنا من " مدرسة محي الدين بن عربي "، التي كانت بيتاً شامياً رائعاً بجنينة غنّاء تترامى حتى ضفة النهر. " مدرسة النضال العربي "، كانت عمارة حديثة من ثلاثة أدوار وباحة اسمنتية كئيبة، مجرّدة من أي شجرة أو زهرة أو خضرة. في واقع الحال، فإنني كنتُ منذ زياراتي الأولى لمراكش قد لاحظتُ تنعّمَ تلاميذها وطلبتها بمدارس ومعاهد شبيهة بالحدائق. " مدرسة الليمون "، الكائنة بقرب منزل جدّة ابني، استوحت اسمها من أشجار البرتقال، المغروسة داخل أسوارها والمتألقة بثمارها. بمحاذاتها تقع " ثانوية محمد الخامس "، التي يُمكن خِلَلَ بوابتها الكبيرة رؤية ما تضمّه من أشجار مثمرة وخصوصاً التين والتوت. ثانوية أخرى بنفس الإسم، أعتدتُّ على السير إزائها في كلّ مرة أقوم فيها بجولتي الأثيرة عبْرَ شارع الأوبرا في " غيليز ". قبيل الوصول إلى الثانوية، أمرُّ حِذاءَ أسوار " المعهد التكنولوجي للسياحة "، المكتنفة بفيضٍ فاتن من عرائش المجنونة ذات الألوان المتعددة علاوة على مختلف أنواع الأشجار المثمرة. هناك، تصّمُ زقزقة العصافير سَمَعَ المرء حتى لتطغى على ضوضاء المركبات في الشارع. وهيَ ذي أسوار " ثانوية محمد الخامس التأهيلية "، والطلبة إناثاً وذكوراً يتناثرون على المقاعد العريضة خارجَ المبنى. كانوا يجلسون في أفياء ما لا يقل عن عشر سقالاتٍ خشبية، مثلثة ومنيفة، تهمي عليها عرائشُ المجنونة بكل الألوان. عندئذٍ، عليّ كان أن أتذكّر رواية الحبّ الرومانسية " تحت ظلال الزيزفون "، التي قرأتها في فترة مراهقتي.
3 المدهش، أنه من الصعب أن تتمتّع عينُ السائح العابر بمرأى عريشة ياسمين في مدينة مراكش. إلا أنّ العارفَ بطبيعة هذه العريشة، يمكنه أن يعثر عليها بسهولة في أمكنة غير مكشوفة بالمدينة. فالياسمين، وعلى عكس شقيقته المجنونة، لا يتحمّل أشعة الشمس المباشرة والحادة. على ذلك، فلم يكن بالغريب أن تكون الشام مكاناً مثالياً لإزدهاره حتى أنّ اسمها ارتبط به؛ " دمشق الياسمين ". وبهذه الصفة، رحتُ أتقصّى منذ زيارتي الأولى لمراكش أثرَ تلك العريشة، الأثيرة. فكم سعدّتُ آنذاك، حينما صادفتُ ياسمينة مزهرة في مكان إقامتي بالرياض ( النزل ). كانت منزوية في ترّاس الدور الثالث، وقد تهدلت أغصانها الرقيقة نحو الأسفل، أين صحن الدار، وكأنما سعياً إلى الرطوبة تحت درجة حرارة صيفية تتجاوز الخمسين. العراطلي، هو الوحيد المفقود تقريباً في مراكش من أنواع الياسمين. كونه يستطيع العيش في درجات حرارة صقيعية، فإنّ الياسمين العراطلي يزرع بكثرة على مداخل الفيلات في السويد، فينشرُ عبقَهُ في أجوائها صيفاً. بيدَ أنّ مراكش، في المقابل، ملائمة لأنواع نادرة من الياسمين. عدا عن الأبيض، هناك ياسمين ذو لون أصفر وآخر بلون سماوي. علاوة على نوع رائع، مطبَّق، الزهرة منه كبيرة بحجم وردة الجوري. هذا الياسمين المطبق، يمرّ به الزائرُ لحديقة " جنان الحارثي " وقد غطى مجموعة من الأقواس الأنيقة، التي ترتفع في محاذاة بقعةٍ تتناثر فيها أشتالُ الصبّار المتنوّعة الأشكال. ولكن، حُبِيَ الياسمينُ الأبيض ( البلدي ) لوحده بنعمة الرائحة الزكية. كذلك، فالياسمين عموماً ينمو على شكل عريشة أو خميلة. النوع الأول، يمكن المرور به في حديقة " مولاي عبد السلام " وقد تسلّق أسوارَ الفندق الفخم؛ " رويال منصور "، المجاور. هذا الأخير، يُدهش المرءَ بشلالات من الياسمين البلدي، المتدفقة من جدران ممره الطويل للغاية، المُتصل بين " شارع محمد الخامس " وإحدى بوابات سور المدينة القديمة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أقوال غير مأثورة 2
-
شريحة لحم
-
إغراءُ أغادير 5
-
إغراءُ أغادير 4
-
إغراءُ أغادير 3
-
إغراءُ أغادير 2
-
إغراءُ أغادير
-
سيرَة أُخرى 12
-
الجيفة
-
قصتان
-
سيرَة أُخرى 11
-
سيرَة أُخرى 10
-
ثلاث قصص
-
أثينا
-
سيرَة أُخرى 9
-
المُخلّص
-
سيرَة أُخرى 8
-
مجنون الكنز
-
الحكايات الثلاث
-
سيرَة أُخرى 7
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|