صادق محمد نعيمي
الحوار المتمدن-العدد: 1375 - 2005 / 11 / 11 - 11:09
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
1
أبناء محاربين أيضا
تتناقل وسائل الأعلام العربية نقلا عن الإعلام الفرنسي أن أعمال العنف التي تجري في الضواحي الباريسية و ضواحي المدن الكبرى الأخرى, هي من أعمال أبناء المهاجرين من أصول عربية و أفريقية. و هذه الأخبار تحتاج إلى مراجعة على مستويين:
1. يتصور البعض – بسبب غياب الأبحاث الجادة – أن الفرنسيين من أصول شمال افريقية و أفارقة سود هم نتاج هجرة فتحت لها فرنسا- كما هو الحال في دول أوربية أخرى- ذراعيها. و هذا تصور منقوص, لأن الفرنسيين من أصول غير أوروبية, ليسوا نتاج الأيدي العمالة المهاجرة فقط, بل أن أكثرهم من أبناء محاربين شاركوا في الحروب الفرنسية في العصر الحديث وهذا هو المسكوت عنه إعلاميا الآن, و ما لم يعطه المؤرخون حقه. فقد شارك أبناء شمال أفريقية و الأفريقيون الذين كانوا يخضعون للاستعمار الفرنسي في الحروب الفرنسية منذ معركة سيدان (1870) التي هزم فيها الفرنسيون على يد الجيش البر وسي, و كانت إيذانا بانتهاء الإمبراطورية الثانية (1851-1870). و شارك الكثير منهم في الحرب العالمية الأولى (1914-1918), وكانت هناك فرقة من الجيش السنغالي تسمى الرماة تشغل الصفوف الأولى في الجيش الفرنسي, حتى يكون هؤلاء السود أول من يقتل, و شارك أبناء المستعمرات في الحرب العالمية الثانية (1939-1945), و هل لنا أن ننسى أن الجزائر العاصمة كانت عاصمة فرنسا المقاومة بزعامة شارل ديجول و المناهضة لحكومة فيشي الموالية لهتلر.
صحيح أن جزءا كبيرا من هؤلاء من أبناء المهاجرين, ولكن لنا أن نتساءل, ألم تكن فرنسا و أوربا الغربية كلها في حاجة إلى أيدي عاملة بعد الحرب العالمية الثانية, ألم تكن هذه الحكومات الغربية تشجع على الهجرة للعمل في المصانع و المشاريع الكبرى التي نقلت أوربا إلى مرحلة الرخاء التي نراها الآن؟ ثم ألم يكن هؤلاء المهاجرون البؤساء منتجا للإفقار و التدمير الذي مارسه المحتل الغربي للدول الأفريقية؟ لا نستطيع إلا أن نجيب بالإيجاب على هذه التساؤلات. بيد أن ما يثير الاشمئزاز ما تناقلته و سائل الأعلام ما قاله اليميني المسمى بنقولا ساركوزي- الذي هو نفسه من أصول مجرية- واصفا أبناء المحاربين و أبناء المساهمين في بناء الصناعة والاقتصاد الفرنسيين, بأنهم رعاع. و هو ما زاد الأمر اشتعالا كما نعرف.
2. ليست كل أعمال العنف و خاصة حرق السيارات, من أعمال الشباب من أصول عربية و أفريقية, بعد أن أشتعل العنف بسبب صعق شابين من أبناء هذه الجالية بالكهرباء بعد محاولتهم الهرب من قسم الشرطة في كليشي سو بوا في احدي الضواحي الباريسية. لان ثمة مشاركين فرنسيين قح غي هذا العنف, و من يعرف المجتمع الأوربي جيدا يعرف أن ثمة مكسرين casseurs و هناك فوضويون anarchistes و معادون للنظام الرأسمالي و مهمشون, و قد استفاد هؤلاء من تلك الموجة للتكسير و الاحتجاج على الظلم الاجتماعي الذي يعانيه المهمشون في ظل الرأسمالية الأنانية, و لقد كانت لي تجربة شخصية تجعلني على اقتناع لهذا, و هو أنه في سنة 1997, كانت مدينة جنيف السويسرية تشهد مؤتمرا لمنظمة التجارة العالمية, و كانت هناك مظاهرة ضد هذه المنظمة و رأيت أن من يكسر المحلات و يحرق السيارات, عدد قليل من أوروبيين ليس من بينهم أحد من أصول عربية أو افريقية. فلا يجب إلقاء المسئولية كلها في هذا العنف على أبناء الجاليات الملونين.
2
مشكلة نفسية-اجتماعية
و رغم أن هؤلاء الذين أخذوا صفة البير beurs و هي من الفرنسية المقلوبة لكلمة عربي Arabe, تلك اللغة التي يستخدمها الشباب, و لم يحصلوا على لقب المواطن بالمعنى الشامل, هم ضحايا مجتمع يميني متطرف, بسبب تراجع اليسار الفرنسي و ازدياد قوة اليمين, ليس في فرنسا و حسب بل في كل أوروبا مما أدى إلى زيادة الظلم الاجتماعي الذي يعانيه أبناء الذين دافعوا عن فرنسا أو ساهموا في بناء اقتصادها, معاناة نفسية و اقتصادية تلخص بشكل كامل في البيان الذي وزعه هؤلاء المحتجون على السياسة الاجتماعية و السياسية للحكومة الفرنسية منذ ما يزيد على الثلاثة عقود, وزاد كثيرا في السنوات الأخيرة, و جاء فيه :
"ـ العنف في أن تُرفض لكل عمل تتقدم له، على الرغم من أنك حاصل على كل المؤهلات المطلوبة ولكن لأن هيأتك ليست هي الهيئة المطلوبة.
ـ العنف في أن تضطر للعمل في أعمال صغيرة بشكل مؤقت، عمل العبيد الذي تحصل في مقابله على الفتات
ـ العنف في أن تفشل دراسيا حتى قبل أن تدخل المدرسة.
ـ العنف في أن تتكدس الأسر في مساكن غير آدمية لعدم توافر منازل لائقة.
ـ عنف المجتمع الذي يتم فيه اختزال المرأة إما في العاهرة وفتاة البورنو أو في الأم حبيسة المنزل
ـ عنف التحرشات البوليسية اليومية.
ـ عنف المجتمع المنافق الذي لا يدع خيارا إلا بين الانغلاق العرقي و الشيزوفرينيا."
و يعكس هذا البيان بصدق ما تعانيه هذه الجالية, و إذا نظرنا إلى هذه المعاناة بشكل إنساني أوسع, نجدها ترجمة للحقيقة الرأسمالية التي تأكل العامل لحما و ترميه عضما, و هو نفس الأمر الذي رأيناه حديثا في نوفيل أورليان في الوليات المتحدة الأمريكية بعد إعصار كاترينا, فقد كان السود و الملونين من أكثر ضحايا الإعصار.
و هناك أحداث كثيرة تفسر المعاناة النفسية التي يعيشها البير Les Beurs. أذكر منها تلك الحادثة الوهمية التي افتعلتها إحدى المريضات بالكذب myhomane في 11/7/2004, عندما ادعت أنها كانت ضحية اعتداء ستة شبان من أصول شمال أفريقية و سود عليها في المترو بسبب كونها يهودية. سارعت وكالات الأنباء بنقل هذا الكلام دون أي تحقق و الأدهى هو أن يسارع مسئولون كبار من ضمنهم رئيس الوزراء السابق رافاران بإدانة الحادث الوهمي دون تحقق, و إدانة البير بشكل ضمني, و بعد أن تبين أن هذه الفتاة مصابة بمرض الكذب, و لم يعتد عليها أحد لم يعتذر أي مسئول عما وجهه لهذه الجالية من اتهامات. و أسوق هنا حادث آخر له دلالته في هذا الصدد و هو أنه في صيف 2004, تم حرق مركز اجتماعي يهودي في باريس, و تمت إشارات إعلامية متعددة و من قبل بعض المسئولين إلى توجيه اتهام مسبق, و دون تحقق, إلى البير, ثم يكشف التحقيق إن الذي حرق هذا المركز هو يهودي فرنسي, فصل من عمله. كل هذا يدفعنا إلى القول بان أبناء هذه الجالية متهمون دائما حتى يثبتوا العكس, و ما أصعب أن تعيش موضع اتهام دائم بسبب لونك أو أصلك أو فقرك. إن أحداث باريس تمثل ثورة ضد ظلم اجتماعي غزاه يمين متطرف و تراجع الاشتراكيين الفرنسيين, و استخدام الأعلام كأبواق لليمين و توظيف بعض الأفلام من قبل بعض السينمائيين الذين يفتقدون الرؤية الفنية, في الدعاية ضد ثقافة البير مثال أفلام " يوم الأحد, ان شاء الله" للمخرجة اليهودية يمينا بنجيجي المنتج سنة 200, بعض أفلام المخرج اليهودي أيضا الكسندر أركادي مثل " الإتحاد المقدس" سنة 1988. و لكن هناك أفلام أخرى رائعة فنية تعالج معاناة الشمال افريقيين مثل "غير حياتي" (2001) حيث أبدعت فيه الممثلة القديرة فاني أردان, للمخرجة ليريا بجيجا الألبانية الأصل ( أعمل منذ عدة سنوات في كتاب عن صورة العرب في السينما الفرنسية, أرجو أن انتهي منه قريبا).
3
الحل السياسي و الديني غير مجد
وإذا كانت المشكلة اجتماعية نفسية, فهل يجدي أن تفرض حكومة دومينك دو فيليبان حظر التجوال الذي قررته في بعض المناطق بدءا من منتصف ليل 9/11/2005؟ لا أظن, رغم أن هذه الأعمال سوف تهدأ, و لكن هذا الحظر لن يحل المشكلة, بل قد يزيد من احتقان نفسي كبير لأن هذه القوانين تذكر أبناء هذه الجالية بما عاناه جزء من آباءهم أثناء حرب التحرر الجزائرية من الاستعمار. فقد فرض حظر التجول في الجزائر ضد السكان الجزائريين في سنة 1955, و كانت أسوأ القوانين في هذا الصدد ما فرضته الجمهورية الرابعة في سنة 1961حيث تم حظر تجول الجزائريين فقط, و معنى ذلك أننا في إطار قوانين عنصرية, و قد أدت أحداث ذلك الوقت إلى قتل حوالي 200انسان.
كما لجأت الحكومة الفرنسية إلى شيء آخر أراه لن يحل المشكلة ألا و هو اللجوء إلى رجال الدين الإسلامي للتدخل لتهدئة هؤلاء الشبيبة المنبوذة اجتماعيا. لن يحل هذا المشكلة على المدى البعيد لان المأزق ليس دينيا, و على دليل بوبكر أمام مسجد باريس و كل رجال الدين أن ينسحبوا من الصورة حتى لا يختزل البير و السود في كونهم مسلمين. إذ يجب أن يعمل المجتمع الفرنسي بمؤسساته العلمية و الفكرية و التربوية و الاجتماعية على العمل على دمج أبناء هذه الجالية كمواطنين لهم كل حقوق المواطنة دون تمييز في الوظائف كما يحدث الآن و دون عنف نفسي يمارسه الأعلام و بعض أدعياء الفن مثل روجيه هانان و الفلسفة مثل برنار هنري ليفي ( يا لمأساة فرنسا الآن أن يحمل مثل هذا الرجل لقب فيلسوف كما حمله عظام مثل ميشيل فوكو و لويس ألتوسير).
كما يجب ألا تختزل المسألة في بعض الأمور الشكلية مثل الحجاب أو مشكلة الضواحي, إن مشكلة البير هي مشكلة مستضعفين يسعون لأن يعيشوا كأفراد عاديين بلا تمييز أو اتهام مسبق في بلد ولدوا فيه و لا يعرفون بلدا غيره حتى و إن كانوا من أصول غير فرنسية. و أخيرا لفهم هذه الأحداث يجب مقاربتها بالأحداث التي شهدتها باريس في سنة 1968 فيما صار يعرف بالثورة الطلابية, حيث أحتج الطلاب ( في البداية كانوا طلاب جامعة نانتير, باريس العاشرة) و انضم إلى احتجاجهم العمال على نمط رأسمالي محاب للأغنياء على حساب الفقراء, و هذه الاحتجاجات الأخيرة ما هي سوى انعكاس لحقيقة الرأسمالية المتوحشة التي سادت في بلد عظماء أمثال بروست و جان جينيه و مرجريت ديراس و كلود سيمون و المبدعون آلان رينيه و و شابرول و جودار و جان مورو و ازابيل ايبير و فاني أردان( القرن العشرين) و من قبلهم كورني و راسين و ديكارت و بيير بيل و الرسام بوسان ( القرن السبع عشر) فولتير و ديدرو و بولانجيه و كوندورسيه و الرسام دافيد ( القرن الثامن عشر) و بلزاك و فلوبير و هوجو و لامارتين و زولا و المبدعون ديلاكروا و رودان و سيزان و مونيه و مانيه( القرن التاسع عشر).
د. صادق محمد نعيمي
#صادق_محمد_نعيمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟