|
سيرَة أُخرى 12
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5048 - 2016 / 1 / 18 - 10:32
المحور:
الادب والفن
1 كم هو مؤلم، حينما تطلب صداقة انسان ربطتك به ذكريات الصبا، ثم تكتشف فجأةً أنه رحل عن هذه الدنيا في زمن أسبق. أما أن يكون الرحيلُ بشكلٍ فاجع، ككل موتٍ سوريّ، فإنّ الصدمة ولا مراء أشدّ وقعاً على نفسك. فعلى صفحة شقيقتها، قرأتُ الخبرَ على شكل تهنئة عيد ميلاد لملاكٍ عاد إلى السماء: " آخر اتصال معها كان في ظهر يوم 18 / 7 / 2013، لم أعرف أن القذيفة كانت تنتظر انهاء حديثنا ". ثلاثون عاماً، تفصل بين موت الملاك ولقائي بها لأول مرة في مدينة موسكو كزميلة دراسة. وكانت شبيهة الملاك فعلاً؛ بقسمات متناسقة وعينين لازورديتين وشعر ينسكب كشلال ذهبيّ حتى الركبة؛ رقيقة كنسمة وحيية كطفلة، تشعّ ابتسامتها على من حولها مفصحةً عن شعورٍ مرهف وقلبٍ طيّب. في حجرة كبيرة على الطابق الثالث عشر من مبنى السكن الجامعي، أقامت الفقيدة مع زميلات من سورية واليمن الجنوبي. ولأننا على نفس الطابق، فقد كنا ننهض معاً صباحاً إلى الدوام في معهد اللغة الروسية، ثم نعود بعد الظهر بالترمواي فرادى. وما عزز من علاقة الزمالة بيننا، أنها أجرت عملية الزائدة وكنتُ بنفسي في نقاهة عقب خروجي من المشفى بسبب آلام المعدة. عند ذلك، رحتُ ألبي طلباتها من مطعم وبوفيه مسكننا أو من السوق. لهجتها الحلبية الطريفة، كانت تتماهى بصوتها المميّز الأقرب إلى البحّة والتهدّج. فهي من حيّ صلاح الدين ( من أسرة عفرينية الأصل )؛ الحيّ المنكوب نفسه، الذي سيشهد النهاية المأسوية لرحلتها في هذه الحياة.
2 تحقق حلمي أخيراً بزيارة القاهرة، التي كنت أعرفها من خلال السينما والتلفزيون. ذلك كان في عام 2003، وكنت مع رفيق الرحلة قد عدنا في يوم أسبق من مدينة الاسكندرية، التي قضينا فيها أسبوعاً كمدعوَيْن إلى حلقة بحث أدبية في المعهد السويدي. ذاتَ صباحٍ ربيعيّ رائق، رأيتنا على كورنيش النيل، على مقربة من ساحة التحرير حيث الفندق المحجوز لنا. كنا قد جلسنا للتو على أحد المقاعد، المطلة على منظر النهر الخالد، وخلفنا شارع الأوتستراد الضاج بعربات الأجرة وصخب سائقيها ومجادلاتهم مع الزبائن. في الأثناء، مرّ بنا رجل برفقة فتاة في مقتبل العمر: " عايزين توصيلة..؟ "، قالها باللهجة المصرية مومئاً إلى صديقته وقد ارتسمت بسمة على فمه المزين بشارب أنيق. الفتاة، وكانت رائعة الحُسن على الرغم من حجابها، ابتسمت بدَورها ثم راحت تراوح خطوها بخفة حتى انتشر طيبُ عطرها في المكان. ولكنّ صديقي، الذي كان شبه ضرير وما انتبه لوجود الفتاة، لم يفهم الموضوع بطبيعة الحال. فقال لي وهوَ ينفخ منزعجاً: " أووف. الشارع مملوء بالتكسيات، وهذا السائق قد لحق بنا إلى هنا..؟! ".
3 ربيع عام 2004، رأيتني في " باريس " لحضور مؤتمر الحوار السوري. في مساء اليوم الأول، كنتُ أجلس وحيداً بحديقة الفندق الصغيرة، متمتعاً بمنظر الماء المتساقط من فم نافورة على شكل سبعٍ. الجدار خلفي، كان إذاك ينفث عُرْفَ نُجيمات عريشة الياسمين، المتهدلة خصلاً رقيقة. كنتُ أول الواصلين، حسبما بدا من خلوّ المكان. فما أن مضت سويعة، حتى صدَحَ بهو الفندق بأصوات لهجتنا السورية. فما لبثَ أن دخل ثلاثة رجال إلى الحديقة، فانضموا إلى مجلسي. وإذ تباينَ سنّ الضيوف الجدد، فإنهم بالمقابل كانوا متأنقين ببدلات وربطات عنق. الأكثر شباباً، كان يتكلم بثقة وبصوتٍ جهوريّ؛ وهوَ الصوت، المتعيّن عليه فيما بعد أن يهدرَ عبرَ الفضائيات العربية منذ الأيام الأولى للثورة. أما الآخران، فإنني شككتُ فوراً بكونهما من جماعة الأخوان. الحديث، بدأ حميماً وخصوصاً عن ذكريات الوطن. الأكبر سناً، كان يقرضُ الشِّعرَ التقليديّ، فلم يكن بالغريب أن يجرّنا إلى رحاب الأدب. إلى أن وصل الكلام لعالم نجيب محفوظ، الروائيّ. عندئذٍ، أبدى ثالث أصحابنا عدم رضاه عن محفوظ بسبب خلوّ رواياته من أهم قضية عربية؛ فلسطين. فقلتُ متدخلاً في الحديث، أنّ روايات الرجل تعرّضَتْ لأهم قضايا عصرنا الحديث، بما في ذلك الإحتلال الأجنبي. المُتحامل على محفوظ، عاد وقال أن جائزة نوبل ما كانت لتمنح له لو أن أدبه ملتزمٌ. عند ذلك، ذكّرتُ الأخ بتقريظ سيّد قطب لأدب محفوظ، الذي ضمّنته مقالته النقدية عن رواية " رادوبيس ". هنا، اتسعت عينا مُجادلي دهشةً وما عتمَ أن شككَ بقولي: " سيّد قطب يمدح رواية لنجيب محفوظ؛ وفرعونية أيضاً؟! ". وإذا صاحب الصوت الجهير، الذي كان خارج النقاش، يُطلق ضحكة مستخفّة وهوَ يتطلّع إليّ بعنجهية. في ظهيرة اليوم التالي، كنت قد دخلتُ تواً إلى مطعمٍ قريب من الفندق مخصصاً لغداء جماعة المؤتمر. ألقيتُ نظرة على المكان، وإذا بي أرى كرسياً فارغاً إزاء منضدة أصدقاء الأمس. فتوجهتُ فوراً إليهم، فما أن هممتُ بالجلوس حتى جعَرَ صاحبُ الصوت الجهوريّ: " هذا المكان محجوز..! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجيفة
-
قصتان
-
سيرَة أُخرى 11
-
سيرَة أُخرى 10
-
ثلاث قصص
-
أثينا
-
سيرَة أُخرى 9
-
المُخلّص
-
سيرَة أُخرى 8
-
مجنون الكنز
-
الحكايات الثلاث
-
سيرَة أُخرى 7
-
أمثولتان
-
مجنونة الجبل
-
سيرَة أُخرى 6
-
الحكايتان
-
من أمستردام إلى مالمو
-
سيرَة أُخرى 5
-
حكايات
-
أمستردام
المزيد.....
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|