|
(حديث في الممكن) ولعبة الاشتغال في ما وراء الفضاء التراجيدي
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5038 - 2016 / 1 / 8 - 09:09
المحور:
الادب والفن
كثيرة هي الروايات العراقية التي يمكن أن نصنّفها بالنصوص "الميتا- تراجيدية" التي تشتغل في ما وراء الفضاء التراجيدي الذي يستمد مادته من أحداث غرائبية مرعبة لا يمكن لها أن تقع على أرض الواقع. ورواية "حديث في الممكن" للكاتب العراقي ذياب الطائي لا تخرج عن هذا الإطار المأساوي الأسود. وقبل الولوج في النسق السردي لهذه الرواية لابد من الإشارة إلى أن الطائي قد استعار تقنية "الصدمة والترويع" من معجم المعارك الأميركية الحديثة التي يستعمل فيها الجنود الأميركيون قوة وحشية مُفرطة تُفضي بالطرف الآخر إلى السقوط في دوّامة الصدمة والذهول. فليس غريبًا على القارئ العراقي أن يشاهد الجلاد المتطرف وهو يسحب ضحيته من شعره لينحره بالسكين في حوض للاستحمام كما حصل في رواية "مشرحة بغداد"! وإذا كان الروائي برهان شاوي قد اكتفى بتصوير هذه الحادثة المروّعة في فضاء مغلق فإن ذياب الطائي قد اختار سوقًا مكتظة لهذا الحدث الجلل حيث ينبري في رابعة النهار واحد من بين عشرة ملثمين متطرفين ليفصل رأس البقال عن جسده بضربة سيف واحدة مُشيعًا بين عامة الناس هلعًا غير مسبوق يسبب في الحال انهيار سيدة وإصابتها بمرض نفسي خطير جراء هذه الحادثة البشعة. لم يختر الروائي ذياب الطائي شخصية محلية بالمعنى المُتعارَف عليه وإنما منحها صفة كوزموبوليتانية فهو طبيب عراقي متخصص بالبروستات. درس الطب في إنكلترا، وتعرف على أميتي، طبيبة الأطفال البريطانية التي انفصلت عن زوجها الغريب الأطوار البرفيسور بركلمان بعد خمسة أشهر من الزواج وقرر الذهاب إلى الغابون. يتجلى البُعد الكوزموبوليتاني بانحدار البطلين من عِرقين مختلفين، الدكتور العراقي والطبيبة البريطانية، وانتقالهما إلى أكثر من بلد فتارة نراهما في بريطانيا وجزيرة كريت اليونانية، وتارة أخرى في دبي، وثالثة في العراق الأمر الذي يكسر إيقاع النص الروائي الذي ينطوي على عدد كبير من الأحداث التراجيدية لأبطال الرواية ولعامة الناس في آنٍ معًا. وحينما يقرران الذهاب إلى العراق بهدف التعيين لخدمة المواطنين العراقيين غِبّ سقوط النظام السابق عام 2003 واحتلال العراق من قبل القوات الأنكلو-أميركية يواجهان مصاعب جمّة خصوصًا حينما يكتشفان أن السلطة الحقيقية هي بيد "الخلافة الإسلامية" التي يتزعمها "أمير المؤمنين" عبد المهيمن عبد القهار أما "الحاكم" فهو مجرد خيال مآتة لا غير وقد كان كذلك فعلا! لا شك في أن أحداث الرواية تدور في فضاء افتراضي على الرغم من أن الواقع العراقي خلال سنوات العنف الطائفي وما بعدها لا ينفي هيمنة المتطرفين أو المليشيات الدينية التي قد تختلف مع هذه الدمية السياسية أو تلك لتبسط نفوذها، وتنشر مفاهيمها الفكرية المتخلفة في كل مكان من أرض العراق المستباح الذي مُنعت فيه الفتيات من الذهاب إلى المدارس، كما حُظر فيه استعمال التاكسي كي تنعدم الفوارق الطبقية، وتم الفصل بين الجنسين في مختلف دوائر الدولة وما إلى ذلك من اجراءات تعسفية غريبة على المجتمع العراقي. لم يكن الدكتور منتبهًا إلى مظهره الخارجي فهو يمشي حاسر الرأس، ويرتدي سروالاً قصيراً، ولا يعرف تحية المسلمين لبعضهم بعضا هي "السلام عليكم" وليس كلمة "مرحبا" التي تقف على طرف لسانه. لقد نبهه جاره على أشياء كثيرة لم تخطر بباله من قبلْ وحذّره من الملثمين المبثوثين في كل أروقة الدولة بما فيها مستشفى مدينة الطب التي يعمل فيها بإخلاص نادر لفت انتباه شيخ "جامع الهداية" الذي غض الطرفّ عن زوجته "الكافرة" التي أخذت ابنها الوحيد حكمتْ وهربت إلى دبي تاركة زوجها يواجه مصيره الغامض في مدينة لا هُوية لها. لقد سبق للملثمين أن بعثوا له رسالة تهديد لا لبِس فيها: "الدكتور المرتد . . وزوجته الكافرة عليكما مغادرة البيت خلال ثمانٍ وأربعين ساعة وإلاّ واجهتما الموت". وقد أخذ هذه الرسالة على محمل الجد وهرّب زوجته أميتي وابنه الوحيد إلى دبي وظلت هي موزعة هناك بين المختبر وغرفة الولادة وطاولة الكتابة. أما حكمت فقد سجلته في الروضة وبدأ يتعرف على أصدقاء جدد ويبني شخصيته التي تجمع بين ثلاث ثقافات عالمية متنوعة. ثمة قصص مؤازرة تعترض السياق السردي لراوي النص وبطله الرئيس لكنها لا تربكه، بل تزيد الإحساس بالفجيعة. فبعد عدد من لقاءات الدكتور مع جاره الذي لم نعرف له اسمًا على مدار النص نفهم بأنه كان خريج كلية القانون وقد عُين مدعٍ عام في محكمة العزيزية عام 1993، ثم انتسب إلى كلية الفنون الجميلة ليعزز شهادته القانونية بشهادة فنية حيث درس الموسيقى وأتقن العزف على آلة البيانو. كما نفهم أن زوجته التي ظلت هي الأخرى بلا اسم مصابة بمرض نفسي خطير هو متلازمة السيروتونين وهو أحد الناقلات العصبية التي تلعب دورًا مهمًا في تنظيم مزاج الإنسان، ومعظم المصابين يمتلكون نسبة أقل من المستوى الطبيعي للسيروتونين في الدماغ ومن أعراض هذا المرض الكآبة والخمول وعدم الثقة بالنفس. وعلى الرغم من أن الدكتور متخصص في البروستات إلاّ أن لديه معلومات لا بأس بها في علم النفس حيث نصح جاره، بعد أن فحص زوجته غير مرّة، أن يأخذها إلى ديالى وهي محافظة مشجرة ومريحة للأعصاب علّ مزاجها المعتلّ يتحسن شيئًا فشيئا. كما نتعرف على الملثم المتطرف الذي قطع رأس البقال بالسيف بينما كانت زوجة جار الطبيب تتبضع في السوق حيث رأت بأم عينها عملية القتل المفزعة التي سببت لها انهيارًا عصبيًا أفضى بها إلى الكآبة واليأس والخمول. لا يمكن الوقوف عند كل القصص المؤازرة لأن حصة البطل كبيرة فحينما زاره شيخ جامع الهداية طلب منه أن يؤدي فريضة الصلاة في المسجد كلما كان ذلك ممكنًا. وبما أنه إنسان طيب ومعروف بتقديم مساعداته الإنسانية للجميع فقد اقترح عليه الشيخ أن يتزوج من امرأة فاضلة وهو يعرف بأنه متزوج من امرأة "كافرة" لكنه ترك حق اختيار المرأة التي تعجبه وهو يعرف جيدًا بأن لكل رجل ذوقه. وحينما تأخر في انتقاء المرأة التي تناسبه اقترح عليه الشيخ أن يتزوج امرأة لشهيدين ثم تبين في ما بعد أن هذه السيدة هي شقيقة الشيخ التي قُتل زوجها الأول في الفاو ثم زوّجها إلى أحد "المجاهدين" في الموصل فقُتل هو الآخر. أرسل الشيخ طلب التفريق إلى المحكمة الشرعية وأخبر الدكتور أن بإمكانه أن يتزوج في ليلة طلاقه لكن البيان الذي صدر عن الجبهة العراقية الموحدة التي تضم 40 حزبًا ومنظمة يشككون فيه بأن "أمير المؤمنين" ليس عراقيًا، ويحضّ المواطنين على الانتفاضة ضد السلطة الدكتاتورية قد قلب الأمور رأسًا على عقب. قرر الدكتور ألا يذهب إلى المحمودية خصوصًا بعد أن عرف أن بغداد محاصرة وأن كلمة "لا" التي قالها شخص ما فرددها الآخرون لتتسع كما تتسع دوائر الماء إثر سقوط حجرة ما فيها، كما أن المفاوضات قد قطعت شوطًا طويلاً يشي بانسحاب المجاهدين وتسليم بغداد للجبهة العراقية بعد إعلان "المجاهدين" شريكًا في العملية السياسية. لم يلتحق الدكتور بمستشفى المحمودية الذي نُقل إليه ولن يطلِّق زوجته قسرًا ليتزوج شقيقة الشيخ وإنما بقي في منزله يتأمل الطيرين اللذين شاهدناهما في مستهل النص الروائي وهما ينظران إليه بشوق وخلفهما كان هناك طير صغير يُصدر صوتًا حنونًا وهو يحاول أن يتحرك في إشارة واضحة إلى أن الحياة محكومة بالتقدم إلى أمام وأن عليه أن يذهب غدًا إلى مستشفى مدينة الطب ببغداد وليس إلى مستشفى المحمودية. على الرغم من الفضاء الغرائبي الذي تدور في هذه الرواية إلا أن قبول المتطرفين الذين ينضوون تحت ما يسمّى بـ "الخلافة الإسلامية" أمر غير مقبول منطقيًا حتى وإن كان عنوان الرواية هو مجرد "حديث في الممكن" وكأنَّ الروائي يريد أن يقدّم لنا خلطة من عناصر متنافرة لا يمكن لها أن تنسجم وتذوب مع بعضها البعض فثمة نغمة نشاز في هذا العمل الروائي الذي كان شديد الإخلاص لمرحلة الانفلات التي مرّ بها العراقيون منذ عام 2003 وحتى الوقت الراهن.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سمبين . . رائد السينما الأفريقية وأعظم الكُتاب الأفارقة
-
لا لملاعب الغولف في الجانب المُعتم من الخُضرة
-
ثنائية الشرق والغرب في غربة الياسمين
-
قصة كردية تمجّد ثقافة السلام في فيلم اتبع صوتي
-
قراءة نقدية في مراحل الرواية العربية المُغترِبة
-
الجانب المُعتم من الخُضرة
-
جوائز مسابقة يلماز غوني في مهرجان الفيلم الكردي
-
التعالق النصي في قصص الرجوع الأخير لمجدولين أبو الرُّب
-
بطولة المدينة وتنوّع الساردين في رواية -صنعائي- لنادية الكوك
...
-
الرسالة الأخيرة بين المنحيين التاريخي والدرامي
-
لماذا غاب أتاتورك في فيلم الرسالة الأخيرة لأوسان إيرين؟
-
السينما أجمل شيئ في حياتي وأتمنى أن أكون راويًا للقصص
-
ضفاف أخرى . . . رواية تمجّد الثقافة وتنبذ الكراهية والعنف
-
قراءة نقدية لأربعة أفلام روائية قصيرة في مهرجان لندن للفيلم
...
-
أفلام روائية كردية تستلهم قصصها من السجون التركية
-
سائق الحرب الأعمى الذي قاد العراقيين إلى عين العاصفة!
-
الدورة التاسعة لمهرجان لندن للفيلم الكردي
-
المفاجأة والتشويق في ذِئبة الحُب والكُتُب
-
رواية متشظيّة بتسع وحدات قصصية رشيقة
-
الباندا. . . الحيوان الأكثر فتنة وجمالاً على الأرض
المزيد.....
-
قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم يعود لبلاد الهل
...
-
ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية
...
-
حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
-
عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار
...
-
قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح
...
-
الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه
...
-
تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
-
مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة
...
-
دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
-
وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|