كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 5029 - 2015 / 12 / 30 - 22:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قال الحجاج بن يوسف الثقفي بالعراق وبشأن العراقيين ما يلي: "... إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها... وإني لصاحبها...".
وقال صدام حسين بالعراق وبشأن العراقيين ما يلي:
" كل واحد يقف ضد الثورة, سواء أكان واحداً أم ألف أم ألفين أم ثلاثة ألاف أم عشرة ألاف أقطع رؤوسهم بدون أن ترتجف شعرة واحدة في بدني أو أحس رجفة في قلبي ...".
[[جاء هذا في حديث لصدام حسين أمام مجلس قيادة الثورة ببغداد وتحدث بالعامية العراقية وكانت كما يلي: "كل واحد يقف ضد الثورة .. يصير واحد, يصير ألف, يصير ألفين, يصير عشرة ألاف آکصگص روسهم بدون ما ترتجف شعرة واحدة مني أو يرجف کلبي عليهم, وعندي كلب بلا مبالغة لو دست بالخطأ على نملة أحس بالألم يدگ بگلبي. ولكن هيچی-;- نوع من البشر شکثر ما ی-;-کون عددهم ما ياخذون من کلبي أي اهتمام أو رقة. لازم كل واحد يقف ضد الثورة يشعر تلاحقه الأشباح وتلاحقه حتى هو بالنوم وحتى لو تصور نفسه أنه محفوظ بقاصة آمنة... واللي من صفوف الأعداء يموت بالتحقيق ... ما له قيمة ... اللي يطلع مكسر واللي يطلع يلك بجراحه واللي يندفن ويخيس ما نحس بالألم, ونحس بالألم بأي خسارة في صفوف الخيرين. راجع فيلم "الصنم" أذيع من المحطة الفضائية العربية بتاريخ 13/6/2004. ]]
وقال نوري المالكي ما يلي: "الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد هاهم موجودين، والحسين باللون الآخر ما يزال موجوداً، هو الذي استحدث من قبل هؤلاء الطغاة. إذن أنصار يزيد وأنصار الحسين مرة أخرى وعلى طول الخط يصطدمون في مواجهة شرسة عنيدة، وهذا يعطينا رؤية بأن الجريمة التي ارتكبت بحق الحسين لم تنته بعد". وهذا يعني إن الصراع بين الشيع ولسنة لم ينته بعد! [[جاء هذا في خطبة لنوري المالكي في كربلاء لتشديد الصراع بين الشيعة والسنة لا على مستوى الحكم بل وعلى مستوى الشعب. ]]
أما الكلمة الثانية فجاءت في خطبة له في ندوة للعشائر الشيعية العراقية.
وقال أيضاً على أثر مطالبته بعدم تخلي الشيعة عن السلطة:
"هو يكدر واحد ياخذها حتى ننطيها بعد".
تشير كثرة من الدراسات التي تبحث في شؤون العراق الحديث, كما يتناقل بنات وأبناء الشعب العراقي في الداخل والخارج, إضافة إلى ترديد كثرة من الأوساط بالبلدان العربية والدول المجاورة وعلى الصعيد الدولي, أحكاماً مسبقة وقاطعةً وكأنها حقائق ثابتة وحالة لا يمكن الخلاص منها ولا يراد أو ينفع الحوار بشأنها, وهي تؤكد الموضوعة التالية:
يتميز الشعب العراقي عموماً بالقسوة والشراسة والتطرف والعنف في التعامل في ما بينه ومع الآخرين. وأن هذه الميزة ثابتة لديه منذ القدم, وهي التي تنتج الاستبداد من جانب الدولة إزاء المجتمع. وهذه الخصائص لا تزال قائمة وتتجلى في أفعال الفرد والمجتمع إزاء الأحداث التي يمر بها وردود فعله نحوها وطريقة تعامله معها. وهي تتجلى لا في الممارسة اليومية فحسب, بل وفي التشريعات التي عرفها العراق القديم حتى يومنا هذا, وخاصة تلك القوانين العقابية التي تنص على أحكام وعقوبات قاسية جداً بحق المخالف أو الجاني لا تتناسب مع طبيعة تلك المخالفة أو الجناية التي ارتكبها الفرد. وتدخل ضمن تلك العقوبات مختلف صيغ الإهانة والإساءة أو أشكال التعذيب الجسدي والنفسي وأساليب القتل والتمثيل بالقتيل واضطهاد أفراد عائلته. وتشير أيضاً إلى جرائم القتل التي ارتكبت على مدى تاريخ العراق القديم والإسلامي والحديث, ومنها المذابح التي نظمها القادة العسكريون أثناء الفتح الإسلامي الأول ومن ثم الأمويون والعباسيون والمغول والدويلات التي نشأت بعد المغول حتى الاحتلال العثماني للعراق, ثم العثمانيون والفرس والمماليك وقوات الاحتلال البريطاني والحكم الملكي والحكم الجمهوري, بما فيها وقائع سحل بعض المسؤولين التي حصلت ببغداد في أعقاب ثورة تموز عام 1958, أو أحداث الموصل وكركوك, إضافة إلى ما جرى ويجري بالعراق منذ عدة عقود من اعتقال وسجن وتعذيب وتهجير قسري وقتل وتذبيح للسكان الأبرياء بإقليم كردستان العراق, وبشكل خاص مذابح عمليات الأنفال واستخدام الأسلحة الكيميائية بحلبچة, أو عمليات الإعدام الواسعة والجماعية لقوى المعارضة العراقية من مختلف التيارات الفكرية والسياسية في السجون والمعتقلات العراقية خلال السنوات التي أعقبت انقلاب شباط/فبراير عام 1963 حتى سقوط النظام الاستبدادي, أو القتل الواسع النطاق الذي قامت به أجهزة الحكم الأمنية والقوات الخاصة ضد المنتفضين في الوسط والجنوب وبكردستان العراق في ربيع عام 1991, وإجبار مئات الآلاف من المواطنين الكُرد على المسيرة المليونية إلى تركيا وإيران هروباً من بطش النظام الصدّامي ودمويته, أو ملاحقة القوات العراقية لعشرات ألاف الهاربين بعد الانتفاضة من الوسط والجنوب إلى السعودية, أو ما جرى في أعقاب سقوط النظام وبروز مجموعات إرهابية همها إثارة الفوضى وعدم الاستقرار وقتل الأبرياء أو إشعال الحرائق والتخريب وما إلى ذلك. يضاف إلى ذلك جرائم القتل والتعذيب أثناء عمليات التطهير العنصري ضد الكرد الفيلية وعرب وسط وجنوب العراق, باعتبارهم من أصل إيراني أو تبعية إيرانية. كما تشير هذه الموضوعة إلى واقع أن القسم الأعظم من ملوك وحكام وادي الرافدين قد قتلوا بصيغ شتى, ونادراً من مات منهم موتاً طبيعياً. كما تشير أحداث العراق في أعقاب إسقاط الدكتاتورية البعثية الصدَّامية من قتل على الهوية أو قتل وتشريد لأبناء الديانات الأخرى من مسيحيين وصابئة مندائيين وإيزيديين من جانب المليشيات الطائفية الشيعية والسنية المسلحة في سائر أنحاء العراق. وأخيراً الجرائم البشعة التي ارتكبت بمحافظة نينوى في أعقاب اجتياح الموصل من قبل عصابات داعش الإرهابية التي يقودها عراقيون إسلاميون سياسيون وبعثيون من أيتام صدام حسين وعزت الدوري، إضافة إلى ممارسات الحكم العراقي بقيادة نوري المالكي ضد المظاهرات التي كانت تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد وتوفير الخدمات لأبناء وبنات الشعب العراقي وممارسته الأجهزة الأمنية وقوى سوداء غير معروفة! لأساليب الاغتيال بصيغ مختلف، وكذلك ممارسة الاعتقال الكيفي والتعذيب في المعتقلات العراقية في فترة نوري المالكي والتي ما تزال تمارسها أجهزة الأمن الحالية ضد المتظاهرين في أيام الجمعة ببغداد والمدن العراقية الأخرى والمطالبين بالحقوق المدنية ومكافحة الفساد والمفسدين والإرهاب والطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية التي تمارس في جميع أجهزة وأفعال السلطات الثلاث العراقية. وتشير المعلومات إلى إن عدد من قتل في هذه الفترة وبسبب المظاهرات في كل من البصرة والكوت والناصرية خلال الأشهر الأخيرة 8 أشخاص هم:
حسين الحلفي
خالد العكيلي
ماجد سعد
حيدر العلواني
الشيخ صبيح الكرموشي
مسلم هيثم الركابي
وليد سعيد الطائي
حيدر غازي الربيعي
كما إن متظاهري بغداد الذين اعتقلوا أصدروا البيان التالي:
"أكثر من يوم مضى على الاعتداء الإجرامي الذي رافق عملية التصدي للمتظاهرين واعتقالهم قريبا من بوابة المنطقة الخضراء رقم ٣-;- في كرادة مريم، واذ لم يكلف "ممثلو الشعب" أنفسهم عناء حماية المتظاهرين وشجب اعتداءات قوى مسلحة مسعورة تعمل تحت عنوان القوات المسلحة، ولم يعملوا على تعليق عضويتهم في مجلسهم. كذلك لم يكلفوا أنفسهم التعليق على ما جرى، فإننا نحملهم قبل سواهم مغبة هذا التجاهل المشبوه. لقد زعمت السلطة التنفيذية أنها شرعت بتحقيق في حادثة الاعتداء الهمجي على متظاهرينا السلميين، لكننا لم نلمس فعلا واضحا، إذ لم يتم الاستماع إلى أقوال الضحايا أو تدوينها ما يشير إلى محاولة واضحة للتسويف و"لفلفة" التحقيق. وعليه نطالب بإصرار بالكشف علانية عن نتيجة التحقيق ومجرياته خلال ٤-;-٨-;- ساعة اعتبارا من هذه الساعة، وإلا فإننا مضطرون لاتخاذ ما نراه مناسبا لحماية حقوقنا الدستورية وفق القانون" 19/11/2015.
لا شك في أن موضوعة الاستبداد والقسوة تتضمن بعض الحقيقة، إذ إن هناك عملية إعادة إنتاج مجتمعية بالارتباط مع طبيعة علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية. إذ أنها تستعرض وقائع تاريخية ثابتة جرت وما تزال تجري بالعراق ولا خلاف عليها. وهي بطبيعة الحال تعبر عن ممارسات تتسم بالقسوة البالغة والعنف المتطرف لا يمكن ولا يجوز نكرانها. ومثل هذه الممارسات انطلقت من مواقع الحكام, سواء أكانوا خلفاء أم ولاة أم حكاماً وملوكاً ورؤساء جمهوريات أم قادة عسكريين, أم رؤساء قبائل وعشائر أم قوات احتلال أجنبية, لا يجوز نكرانها. ولكن هذه الموضوعة تتضمن في الوقت نفسه أحكاماً قاطعةً موجهة إزاء شعب بأكمله لا يمكن قبولها كما هي, بل يفترض مناقشتها والتحري عن العوامل الكامنة وراء ظهورها أو الأسباب المحركة أو الدافعة لها. وتشير الكثير من الوقائع الحياتية إلى أن الغالبية العظمى من الذكور بالعراق أصبحت تؤمن بهذه الأحكام وكأنها حقيقة ثابتة وترددها دون انقطاع وتنعكس في كتاباتها ونقاشاتها, سواء تم ذلك عن وعي أم دون وعي منها، بما تنطوي عليه هذه الأحكام وما تحمله من مضامين وعواقب. وهي تحرم المجتمع من التحري عن الأسباب الكامنة وراء ذلك من جهة, وسبل معالجتها من جهة أخرى, إذ أن البعض الكثير لا يعتقد بإمكانية معالجة هذه الظاهرة أصلاً, باعتبارها جزءً من طبع العراقيين الثابت. ويبدو أن هذا البعض الكثير يقرر سلفاً, أو يعطي الانطباع على الأقل, وكأن العراقيين, نساء ورجالا, حالما يولدون يحملون معهم "وراثياً" جينات القسوة والشراسة والتطرف والعنف والسادية المرضية, وأنهم بسبب ذلك غير قادرين على الخلاص منها واستبدالها بجينات الرحمة والهدوء والاعتدال والدفء وعدم التطرف في التعامل في ما بينهم أو مع الآخرين. فهو بهذا المعنى قدر العراقيين الحتمي الذي لا فكاك ولا خلاص منه.
ليس سهلاً خوض الحوار بهذا الصدد مع هذا البعض الذي تكرست عنده قناعات بفحوى هذه الموضوعة, إذ أن إزاحة الأحكام المسبقة لدى من يطلق عليهم ب "الستيريو توب" (النمطيون) صعبة للغاية ولكنها مع ذلك غير مستحيلة. فالوقائع الجارية بالعراق, ورغم سقوط النظام, ما تزال غير مساعدة على خوض حوار عميق وشامل وموضوعي حول هذه الأفكار ومحاولة التحري عن الأساس المادي للظواهر الثابتة منذ قرون كثيرة حتى الآن في السلوك العام لسكان العراق. فالنظام العراقي البعثي الصدَّامي مارس الاستبداد والإرهاب والعنف والقسوة, كما دفع بالناس عنوة إلى ممارسته أيضاً لمواجهة قمعه المتواصل منذ ما يقرب من ثلاثة عقود ونصف, أي حتى سقوطه في التاسع من نيسان/أبريل عام 2003. كما إن الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية مارس الحاكم والمستبد بأمره ومندوب الاحتلال بالعراق بول بريمر سياسات تهدف إلى تكريس الطائفية والصراع الطائفي بالعراق وساهم في توسيع قاعدة الفساد المالي والإداري. وحين تسلمت الأحزاب الطائفية الحكم بالبلاد، مارست الحكم الطائفي السياسي والمحاصصي. وابرز هؤلاء الطائفيون المهووسون بها هو رئيس الوزراء السابق والقائد العام للقوات المسلحة السابق ورئيس حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي ومعه إبراهيم الجعفري وعلي الأديب وغيرهم الكثير من قادة التحالف الوطني الشيعي أو ما يطلق عليه بـ"البيت الشيعي"!
ولكن العراق, وكما أرى, بحاجة ماسة ودون أدنى ريب إلى خوض نقاش علمي وجاد ومتواصل حول هذا الواقع الثابت أو المظاهر الفعلية للقسوة والقمع والعنف في السلوك العام في حياتنا نحن بنات وأبناء العراق, إذ بدون ذلك يصعب علينا التخلص من هذه الظواهر ومن الأساس المادي الذي نمت فيه وتطورت عليه, وأصبحت وكأنها جزءاً من السلوكية والشخصية العراقية. كما يمكن أن يشارك إلى جانب الباحثين العراقيين في إنجاز أبحاث متخصصة علماء في علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والطب النفسي من بلدان عربية وغير عربية لمساعدتنا في فهم هذه الظواهر ومعالجتها. وتتوفر اليوم, وبعد سقوط النظام الدكتاتوري, فرصة محدودة نسبياً، رغم نشاط المليشيات الطائفية المسلحة التي في مقدورها أن تقتل من تشاء من الباحثين في أي لحظة دون أن تخشى العقاب، لإجراء دراسات علمية تطبيقية حول إشكاليات القسوة والعنف والاستبداد في العراق من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والتاريخية, إضافة إلى الجوانب الفكرية والنفسية والعصبية, والتعاون مع مؤسسات البحث في العديد من الدول المتقدمة في مثل هذه البحوث للتعرف الدقيق على العوامل الكامنة وراء هذه الظواهر وسبل التعامل معها ومعالجتها. ولا شك في أن الباحثين الأكاديميين في علم النفس الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح والأستاذ الدكتور فارس كمال نظمي قدما أبحاثاً وكتباً ودراسات ومقالات مهمة في هذا الصدد. كما يمكن العودة إلى دراسات الأستاذ الدكتور إبراهيم الحيدري المهمة في هذا الصدد. وتقدم لنا مؤلفات المجتمع للأستاذ الدكتور علي الوردي أرضية مفيدة ومهمة في هذا الشأن.
وكما هو معروف فقد أَجَبَر النظام الدكتاتوري الآلاف من العلماء والباحثين من مختلف الاختصاصات على الهجرة إلى مختلف بلدان العالم ونسبة مهمة من هؤلاء العلماء والباحثين تعمل في مجالات ذات أهمية فائقة للمجتمع العراقي, وخاصة في مجالات علم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي ومختلف الفروع الطبية وخاصة في مجال الأعصاب وجمهرة من مثقفي العراق من أدباء وشعراء وكتاب، كما استشهد الكثير منهم بأساليب مختلفة وتحت التعذيب لأنهم لم يخضعوا لإرادة الدكتاتور. وعلماء العراق وباحثوه على بينة جيدة بمعاناة الشعب العراقي خلال العقود المنصرمة لأنها معاناتهم أيضاً, ويمتلكون القدرة العلمية على دراسة ومناقشة هذه المشكلة المعقدة بأبعادها ومستوياتها المختلفة.
كما إن الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية وقيام النظام السياسي الطائفي والمحاصة الطائفية بعد الاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق شهدت قتل المئات من العلماء والأطباء والباحثين العلميين والإعلاميين والصحفيين والمناضلين من أجل المجتمع المدني والعلمانية والديمقراطية بالعراق. ورغم ذلك وما نريده لعراق اليوم هو التخلص من قوى الإرهاب التي تحتل جزءاً من أرض الوطن والتي قتلت الآلاف وشردت الملايين من النساء والرجال والأطفال من مناطق سكناهم وسبت واستعبدت وباعت في سوق النخاسة الكثير من النساء والرجال والأطفال من أخواتنا وأخوتنا وأبنائنا الإيزيديين. وكذلك الخلاص من الفساد السائد والإرهابيين والعمليات الإرهابية المستشرية حالياً في البلاد وتحقيق استتباب الأمن والاستقرار السياسي والإحساس بالمسؤولية إزاء الشعب العراقي والموضوعية والصراحة والجرأة في البحث والاستناد إلى الدراسات العلمية, بما فيها الدراسات الانثربولوجية, وإلى الوقائع الفعلية لمعرفة سلوك الإنسان العراقي منذ بدايات وجوده على أرض الرافدين, أو ما هو متوفر عنه من معلومات ومعارف حتى الآن في ضوء نتائج التنقيبات الجارية منذ عقود طويلة. إنها مهمة كبيرة وأملي أن يشارك المزيد من الباحثين, سواء أكانوا من العراقيين أم من غيرهم, وسواء تم ذلك بصورة فردية أم عبر فرق بحثية, للوصول إلى ما يساعد على تقليص وإزالة تلك الظواهر السلبية المكتسبة التي ما نزال نجدها في سلوكنا اليومي نحن العراقيين, أو بتعبير أدق, في سلوك الغالبية العظمى من الشعب العراقي, وخاصة الرجال منهم, سواء كنا في داخل الوطن أم خارجه. إنها مسؤولية الجميع, وخاصة القادرين منهم على البحث العلمي, وكذلك الأحزاب والقوى السياسية والتنظيمات الاجتماعية والمهنية ومعاهد البحث العلمي التطبيقي. وأهمية هذه الدراسة لا تقتصر على المرحلة الحاضرة التي نمر بها اليوم, على أهميتها وتعقيداتها وحساسيتها فحسب, بل ولصالح مستقبل أجيال العراقيات والعراقيين القادمة التي يفترض أن تتخلص تدريجاً من جملة الظواهر التي نتحدث عنها ونبحث فيها.
في كتابي الموسوم "ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة", الذي أصدرته في عام 1995, أشرت فيه بوضوح إلى أن في تربية وسلوكية كل إنسان (رجل) عراقي شيء من شخصية وسلوك واستبداد صدام حسين", وهو ما نكتشفه اليوم أيضاً حتى بعد غياب الدكتاتور، إذ جاء من بعديه من لا يختلف عنه كثيراً. وهذه الحقيقة لا تعني بأي حال أن لنا جينات مشتركة, وبالتالي, فنحن نشترك جميعاً في امتلاكنا لجينات الاستبداد والقسوة والعنف والقمع في بنيتنا البيولوجية, بل يعني تماماً أن تربيتنا الذكورية في إطار علاقات الإنتاج الاستغلالية والمتنوعة وعلى مدى قرون وقرون كانت وما تزال تسير على نمط واحد في البيوت والمدارس والأسواق والجوامع والمساجد والصوامع والمجتمع وفي العلاقة بين الإنسان والدولة, ثم عمقت ونقلت ثقافة الاستبداد والعنف والقسوة من جيل إلى آخر. نورد هنا بعض الأمثلة: أم تحاول تنويم طفلها فتسمعه ما يلي:
دلللول ...دلللول
يا الولد يا ابني
عدوك عليل وساكن الچول
دللول .... دلللول
نام .. يا الولد يا أبني!
[[ لبمضدر: التراث الشعبي. مجلة. بغداد. العدد الأول. 1999. ص 82. ]]
إنها لا تنطلق من وجود الأصدقاء والأحبة الذي يحيطون به, بل من وجود عدو بعيد يتربص به يعيش في البراري البعيدة وعليه أن لا يخشاه لأن العدو عليل.
أو دعنا نتابع أغنية وضعها علماء النفس, كما يقول الكاتب خالد الخزرجي, لأطفال المرحلة الابتدائية. والأغنية تقول ما يلي:
عندي ديچ هالكبرة
كام ينكر عالطبلة
جبت الموس وذبحته
قدمته لماما وبابا
بابا انطاني هدية
رشاشة وبندقية
حتى أصير .. جندي كبير
أدخل في جيش التحرير
جيش التحرير علمنا
كيف نخدم وطننا
تي تي تا – تي تي تا!
[[المصدر: التراث الشعبي. مجلة بغداد. نفس المصدر السابق. ص 81.]]
ومنه يبدو بوضوح أن السيد الخزرجي يرى بأن هذه هي الطريقة السليمة في تربية الأطفال. تربيتهم على ذبح الديك بالشفرة أو الحصول على هدية رشاشة وبندقية ليعلمه على القسوة والعنف والقتل, بدلاً من أن يقدم الأب لابنه هدية جميلة تعبر عن الحب والعاطفة الأبوية والزهور والرياحين ...
ويشير بعض الكتاب, وهم كما يبدو لي على حق, إلى أن أساليب الاستبداد والعنف والقسوة لم تمارس وما تزال خلال الفترات المنصرمة من قبل السلطة وحدها, بل مارستها وما تزال تمارسها الجماعات والكتل والقوى والأحزاب السياسية المختلفة إزاء بعضها الآخر, وخاصة أحزاب الإسلام السياسي في ما بينها وضد المجتمع، والتي أدت إلى سقوط الكثير من الضحايا وإلى تفاقم العلاقات الثأرية التي تسير على نهج العين بالعين والسن بالسن, وإلى نشوء علاقات أقل ما يقال عنها أنها غير ودية بين مختلف تلك الفصائل السياسية في الحياة السياسية العراقية على امتداد الفترات المنصرمة, بما فيها في فترة الحكم الوطني الذي بدا في العام 1921.
وفي فترة الحكم الاستبدادي وقعت معارك شرسة بين فصائل الحركة الوطنية العراقية في كردستان العراق في عام 1983, ومنها على سبيل المثال لا الحصر بشت آشان الأولى والثانية, التي راح ضحيتها المئات من المناضلين الشجعان من مختلف الأطراف المشاركة في تلك النزاعات المسلحة، وهي على سبي المثال لا الحصر. وكذلك ما حصل بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في العامين 1995/196 مثلاً. ولكم أن تتابعوا ما حصل في القتل على الهوية بين المليشيات الشيعية والسنية المسلحة والقتل على الهوية أو الجرائم التي ارتبكت ضد المسيحيين والصابئة المندائيين في الجنوب والوسط وبغداد والموصل وكذلك ضد الإيزيديين...الخ.
ومن المهم في هذا الصدد أن نشير إلى أن تاريخ أوروبا هو الآخر كان مليئاً بمظاهر الاستبداد والعنف والقسوة في التعامل مع الأفراد والجماعات وفي شن الحروب الإقليمية المتبادلة في فترة الهيمنة الإقطاعية, أو السياسات التي مارستها في المستعمرات, وخاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. وهنا يستطيع الإنسان أن يعيد إلى الذاكرة الحروب الصليبية ومظالم القرون الوسطى ودور الكنيسة المريع في هذا الشأن, أو نقل مئات الآلاف من السكان الأفارقة, نساء ورجالاً وأطفالاً, من قراهم ومدنهم إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واستعبادهم, أو التعامل الوحشي بين السكان ألأوروبيين في الولايات المتحدة واستراليا مع سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر أو سكان أصل البلاد الأسترالية أبوريجينز Aborigines.
ويفترض عند البحث في مثل هذه الإشكالية امتلاك الجرأة على طرح أسئلة على أنفسنا والتحري عن إجابات واقعية وموضوعية وصريحة لما جرى ويجري في العراق منذ ألاف السنين حتى الوقت الحاضر والتي تدخل ضمن أفعال الاستبداد والقسوة والقمع والعنف, بما في ذلك عمليات القتل الفردي والجماعي وتدمير حياة الإنسان وبيئته وحضارته ومقومات وجوده وتطوره, ثم التحري عن مستلزمات تغيير هذا الواقع لصالح الإنسان ذاته والمجتمع العراقي والمجتمعات المحيطة به. كما لا بد من تتبع الحضارات التي ساهم بها العراقيون على مرّ التاريخ, بما فيها فترات الانقطاع الحضاري والأسباب الكامنة وراء وقوعها. أي التعرف على أسباب تلك السلوكيات المتعارضة والتصرفات المتناقضة, تلك الازدواجية الملموسة في الشخصية العراقية التي تتجلى في حياة الناس اليومية: البناء والتدمير, الإنجاب والقتل, تعليم النطق والكلام والإسكات التعسفي أو حتى تُخريس الإنسان, الحب الجارف والكراهية المتطرفة, الجبن والشجاعة, الخوف والجسارة, الحزن القاتل والفرح الهائج, التشاؤم المفرط والتفاؤل السرابي. كما لا بد من تتبع دور الدين منذ العهد السومري في تعزيز جملة من الاتجاهات في هذا الصدد، وبشكل خاص منذ ولوج الدين الإسلامي للعراق عبر الحرب واستعمار عرب الجزيرة العربية من المسلمين لبلاد وادي الرافدين. ومثل هذه الدراسات تحتاج إلى عناية خاصة وبحث متواصل وعدم التسرع في إصدار أحكام مضادة أو التسرع في رفض أحكام صادرة أصلاً بشأن طبيعة العراقيين وتكوينهم البيولوجي أو بنيتهم الاجتماعية والنفسية. أي أن علينا أن نضع كل ذلك على طاولة الفحص والتدقيق بمنهجية علمية ديالكتيكية (جدلية) وبروحية نقدية ورغبة الوصول إلى معرفة الإنسان العراقي في تطوره وتحولاته عبر آلاف السنين. وعند دراسة هذه الظاهرة في المجتمع العراقي يفترض أن نبحث على أساس المقارنة مع الشعوب المجاورة ومع شعوب أخرى بالعالم لمعرفة ما إذا كانت تعاني من ذات الظاهرة وأسبابها, أو وجود تمايز معها على أن تؤخذ طبيعة المرحلة التي يمر بها كل شعب ومستوى تطوره الحضاري وعلاقات الإنتاج السائدة فيه ومستوى تقدم القوى المنتجة أو تخلفها، ومستوى تطور الوعي الاجتماعي الفردي والجمعي بنظر الاعتبار. ولا يمكن للدراسات الفردية أن تطرح المشكلة بكل أبعادها, في حين تتوفر للمعاهد العلمية إمكانية تشكيل فرق دراسية متعددة الاختصاصات للتعمق والتوسع في دراسة المشكلة بمختلف جوانبها. ويأمل الإنسان أن تكون المحاولات الفردية, التي تنوعت وتعددت في الآونة الأخيرة, بداية محركة صوب حوارات جديدة ودراسات علمية لفرق بحثية لاحقة من قبل معاهد علمية متخصصة.
إن ما يوجه شعب العراق اليوم يتطلب تكريس الجهود الخيرة لتغيير الواقع الراهن، رفض النظام الطائفي السياسي والمحاصصة الطائفية والفساد والإرهاب، والعمل من أجل إقامة مجتمع مدني علماني ديمقراطي حر ومستقل تُحترم فيه حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب والعقائد الفلسفية والرأي السياسي والاجتماعي.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟