|
ماكس فيبر وإقتصاديات الحداثة
رواء محمود حسين
الحوار المتمدن-العدد: 5021 - 2015 / 12 / 22 - 18:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تقديم:
يؤكد تورين أن الإيديولوجية الحداثية ذات الخصوصية التاريخية للتحديث الغربي لم تنتصر فقط في مجال الأفكار مع فلسفة التنوير، فقد انتصرت أيضاً في المجال الإقتصادي، إذ أخذ هذا الإنتصار صورة الرأسمالية والتي لا يمكن اختزالها إلى اقتصاد السوق وإلى الترشيد. يعرف إقتصاد السوق الحداثة تعريفاً سلبياً، فهو يعني إختفاء أي أشراف كلي على النشاط الإقتصادي، وإستقلاله عن الأهداف الخاصة بالسلطة الدينية والسياسية والإمتيازات والتقاليد. أما الترشيد فهو العنصر الأساس بالنسبة للحداثة. ويتحدد النموذج الرأسمالي للتحديث، طبقاً لتورين، على العكس بواسطة فاعل مدير هو الرأسمالي. ويرى فرنر سومبارت أن التحديث الإقتصادي قد أدى إلى تفكيك كل أشكال التحكم السياسية والإجتماعية وإلى فتح الأسواق والترشيد وانتصار السوق ونظام الأرباح. وقد وقف فيبر عند هذه النظرة الإقتصادية المحضة وحدد في كتابيه " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية " وكتاب " الإقتصاد والمجتمع " شخصية الرأسمالي كنمط إجتماعي وثقافي خاص، وكان قصد فيبر العام، كما يرى تورين، هو إظهار كيف قامت الأديان الكبرى المختلفة بتحبيذ أو عرقلة العلمنة والترشيد الحديثين ( الآن تورين: " نقد الحداثة "، ترجمة أنور مغيث، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 1997 م، ص 47 ).
ماكس فيبر: البروتستانتية والرأسمالية
يرى ماكس فيبر في كتابه " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية " أن كل الذين نشأوا في ظل الحضارة الأوربية المعاصرة يتسائلون في أي سياق من الظروف برزت ظاهرات ثقافية في الحضارة الغربية وحدها دون سواها، ومن تحولت إلى مدلولات وقيم كونية؟ فالغرب مكان نعترف بقيمة تطوره، وبالتأكيد ظهرت خارج الغرب معارف تجريبية وأفكار حول الحياة والكون عميقة وذات دلالة فلسفية ولاهوتية، ومع أن التطور التام للاهوت المنهجي هو أمر خاص بالديانة المسيحية المتأثرة بالهللينية، فقد ظهرت في الإسلام وبعض الفرق الدينية في الهند. وقد ظهرت معارف على مستوى كبير من المهارة في الهند والصين وبلاد بابل ومصر. غير أن ما كان يعوز علم الفلك البابلي ( على الرغم من أن علم النجوم في بابل كان مدهشاً ) هو الأسس الرياضية التي تمكن اليونان لوحدهم من توفيرها. أما العلوم الطبيعية في الهند، الغنية جداً بالمشاهدات، فهي تجهل المنهج التجريبي والذي هو نتاج عصر النهضة الأوربي. ومن ثم كان علم الطب الهندي قد افتقر إلى الأساس البيولوجي وبالأخص البيوكيميائي. أما البحث العميق لدى الصينين فكان يعوزه منهج ( توسيديد )، ولكن كل السياسات الآسيوية كانت تفتقر إلى طريقة منهجية ذات النظرة الأرسطية، بالإضافة إلى افتقارهم إلى المفاهيم العقلانية ( ماكس فيبر: " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية "، ترجمة محمد علي مقلد، مراجعة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، بدون تاريخ، ص 5 ). ويعتقد ماكس فيبر أن الأشكال الفكرية الدقيقة في منهجيتها، الضرورية لكل عقيدة شرعية عقلانية، الخاصة بالقانون الروماني وخلفه، القانون الغربي، هي أشكال غير موجودة أبداً خارج أوربا، وذلك بالرغم من البدايات الحقيقية المعروفة في الهند، مع مدرسة ميماسا، وبالرغم من تدوين القوانين بصورة واسعة في آسيا القديمة، فالغرب وحده هو الذي يعرف صرحاً قانونياً على غرار الحق الكنسي. وكذلك الحال بالنسبة للفن، فالموسيقى المتكاملة عقلانياً الموقعة على هارمونية عقلانية، وفي إطار وحدة منسقة من العزف، بالإضافة إلى النظام الذي وضعه الغرب في التدوين الموسيقي، هو الذي جعل من الممكن تأليف الموسيقى الحديثة وتنفيذها وتأمين ديمومتها: السيمفونية، السونات، الأوبرا، بالإضافة إلى برمجة الموسيقى وتحويل الأصوات والتلوينات النغمية على الآلآت الحساسة كالأورغ والبيانو والكمان، وكل ذلك لا يوجد إلا في الغرب ( ماكس فيبر: نفسه، ص 5 – 6 ). وفوق كل هذا وذاك، فإن القوى الأكثر حسماً في الحياة الغربية الحديثة، كما يؤكد ماكس فيبر، هي الرأسمالية. إن الرغبة في الكسب، والبحث عن الربح، عن المال، عن أكبر كمية ممكنة من المال، كل ذلك، ليس له، بذاته، أي علاقة بالرأسمالية. فالأطباء، والحوذيون، والفنانون، وموظفو التجارة، والجنود، والمتسولون، وغيرهم، كلهم مسكونون بهذا التعطش للكسب، على غرار ما حصل ما أناس مختلفي ومتنوعي الظروف في كل العصور والأمكنة. ويعتقد فيبر أنه يجب تعليم الصغار في الكتب المدرسية التخلي عن هذه الصورة الساذجة، فالحاجة للكسب غير المحدود لا تنطوي أبداً على مقومات الرأسمالية ولا على روحها. يمكن أن تتماثل الرأسمالية مع الهيمنة أو مع التلطيف العقلاني لهذه الغريزة اللاعقلانية. غير أنه من الصحيح أن الرأسمالية مرادفة للحبث عن الربح، عن ربح دائم القدرة على التجدد، من خلال مؤسسة ثابتة، عقلانية، ورأسمالية، فهي تبحث عن المردودية، التي تلازم المشروع الرأسمالي. ففي ظروف يكون الإقتصاد كله خاضعاً للنسق الرأسمالي التي تلازم المشروع الرأسمالي، يحكم بالزوال كل مشروع رأسمالي فردي لا تحركه الدوافع الخاصة بالبحث عن المردودية (ماكس فيبر: نفسه، ص 7 ). ويتجه فيبر إلى مزيد من الدقة في تحديد العبارات: فيسمي الفعل الإقتصادي ( الرأسمالي ) بأنه ذاك الذي يقوم على الربح على أمل الكسب عن طريق إستثمار إمكانات التبادل، أي على الفرص السلمية ( شكلياً للربح ). إن الكسب بالقوة شكلياً أو فعلياً يتبع قوانيه الخاصة، وليس من المناسب وضعه في مصاف الفعل الموجه ( بالتحليل الأخير ) نحو الربح الناجم عن التبادل. إذا تم البحث عن الكسب الرأسمالي عقلانياً ، فإن الفعل المقابل يحسب على أساس الرأسمال. هذا يعني أنه إذا استخدم الفعل منهجياً المواد والخدمات الشخصية كوسية محسوبة مرحلياً في حالة مشروع متواصل ينبغي أن تتجاوز الرأسمالية، أي قيمة وسائل الإنتاج المادية المستخدمة في سبيل الكسب عن طريق التبادل. ولا يهم إذا كان الأمر يتعلق ببضاعة طبيعية مسلمة على الطلب، من قبل بائع متجول يمكن أن يتجسد في النهاية كسبه في بضائع طبيعية أخرى عبر التجارة، أو إذا كان الأمر يتعلق بمصنع، موجوداته من الأبنية والآلآت والأموال المنقولة، والمواد الأولية، والمواد المنتجة بشكل نهائي أو نصف نهائي، أو من ديون، وموزنته قائمة على الالتزامات. إن ما يهم هو تقدير الرأسمال في قيمة نقدية، وليس من المهم أن يتم من خلال طرق المحاسبة الحديثة، أو عن أية طريقة أخرى بدائية. كل شيء يتم على أساس جردة الحساب. جردة أولية في بداية المشروع، وتقدير للربح المحتمل قبل أي عمل، وجردة نهائية في النهاية، بغية تحديد قيمة الربح. فمثلاً: الجردة الأولية لطلبية معينة ينبغي أن تحدد بالقيمة النقدية المعترف بها من قبل الشركاء، للسلع المطلوبة، وفي الحدود التي لا يكون فيها لهذه السلع شكلاً نقدياً في البداية، ثم يكون من شأن الجردة النهائية حساب الأرباح والخسائر. فكل عملية بين الشركاء تستند إلى الحساب في الحدود التي تصبح فيها التبادلات عقلانية. ولكن قد لا تجري حسابات أو تقديرات دقيقة، أو قد يتم اللجوء إلى تقديرات تقريبية أو إلى وسيلة تقليدية أو إصلاحية، حين لا تستوجب الظروف إجراء حسابات دقيقة. وكل ذلك لا يمس جوهر عقلانية الكسب الرأسمالي (ماكس فيبر: نفسه، ص 7 - 8 ).
قراءة تورين لرأسمالية فيبر:
يرى تورين في معرض مناقشته أطروحة فيبر حول الرأسمالية أن لا أحد يجهل أن الرأسمالية قد تطورت في البلدان الكاثوليكية، إيطاليا والفلاندر، في حين لم تشهد البلدان الكالفينية الموجة الرأسمالية ذاتها من التطور، ليؤكد أن من الصعب تفسير تطور الرأسمالية بتأثر البروتستانتية الأكثر تشدداً. إن ما كان يسعى فيبر إلى فهمه هو بالأحرى نمط خاص ومغالي من النشاط الإقتصادي، أي ليس التاجر ولا الصانع الحديث، بل الرأسمالي بمعنى الكلمة، وهو الغارق تماماً في النشاط الإقتصادي، والذي تعتمد طاقاته في الإستثمار على إدخاره الشخصي، والذي لا يجذبه المضاربة ولا الترف، والذي يستخدم خيرات العالم وكأنه ليس مسخرة له حسب تعبير القديس بولس. والسؤال الثاني الذي يطرحه تورين ويراه أكثر قرباً من سؤال فيبر الأساسي، هل يحبذ الإيمان ظهور سلوك إقتصادي؟ ولكن كيف يمكن قبول هذه المفارقة في حين تكون الروح الدينية المعدلة والمنتعشة بسبب الإصلاح زهداً في داخل العالم وبالتي تؤدي إلى انفصال عن خيرات العالم والتي يصعب التوفيق بينها وبين حياة مكرسة للعمل وللتجارة والربح؟ إن الجواب يكمن في تأويل أكثر محدودية للوقائع التي حللها فيبر. فليس الجوهري هو الإيمان، أي الثقافة الدينية ولكن إنقطاع الروابط الإجتماعية التي فرضها الخوف من حساب إله خفي. إنقطاع للعائلة، لعلاقات الصداقة ورفض المؤسسات الدينية التي تخلط المقدس بالدينوي والإيمان بالثروة والدين بالسياسة. وهو ما يقودنا إلى المقارنة الفيبرية حول نزع السحر من العالم، وعن القطيعة مع كل شكل لتأويل المقدس والدنيوي أو الوجود والظواهر بلغة كانطية. يدرك فيبر أن الحداثة تعقلن، وأنه قطيعة مع معنى العالم، وعلى أنها فعل مع العالم، وعلى أنها استبعاد للغائية، وللوحي وفكرة الذات، إن أهمية البروتستانتية لا تكمن في مضمون إيمانها ولكن في رفضها سحر العالم المسيحي الذي تحدده الأسرار وسلطة الآباء الزمنية في وقت واحد ( الآن تورين: " نقد الحداثة "، ص 48 – 49 ). ويرى تورين أيضاً أن فكر فيبر لا يرتبط بتحديد عام للحداثة ولكن بالرأسمالية كصيغة إقتصادية للإيديولوجية الغربية للحداثة منظوراً إليها كقطيعة وصفحة جديدة، وقد خرج من الإصلاح نفسه كما خرج من التحول النابع من التقوى الكاثوليكية، أخلاق مستنيرة بالإيمان مختلفة جد الإختلاف عن خوف وإرتعاش أولئك الذي الذي ينتظرون قراراً دينياً لا حيلة لهم أمامه. مما جعل البروتستانتية تبتكر أخلاقاً تحبذ الرأسمالية، لكنها ساهمت أيضاً في تنمية أخلاق الضمير، والتقوى والحميمية التي قادت إلى اتجاه آخر هو الفردية البرجوازية التي يليق بها أن تعارض روح الرأسمالية. إذن نمط الرأسمالية الذي حلله فيبر ليس خاصاً بالصيغة الإقتصادية للحداثة بشكل عام، ولكن لمفهوم خاص يقوم على قطيعة بين العقل والإعتقاد، وبين الإنتماءات الإجتماعية والثقافية للظواهر القابلة للتحليل والحساب من جانب والوجود من والتاريخ من جانب آخر. جدوى تحليل فيبر للرأسمالية هو تمييزه للحالة التاريخية إذ يساهم الإعتقاد الديني بشكل مباشر في عزل منطق للإقتصاد عن باقي الحياة السياسية والإجتماعية. إن ما يصفه فيبر نمط خاص من التحديث يتميز بتركيز شديد للوسائل في خدمة الترشيد الإقتصادي وفي الوقت نفسه بالقهر الشديد الذي يمارس على الإنتماءات الإجتماعية والثقافية التقليدية، وعلى الحاجات الشخصية للإستهلاك وعلى كل القوى الإجتماعية، التي تتماهى في نظر الرأسماليين مع دائرة الحاجات المباشرة ومع الكسل واللاعقلانية ( تورين: " نقد الحداثة "، ص 49 – 51 ).
#رواء_محمود_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل هناك منهج واحد للحداثة؟
-
أطياف جان جاك روسو ( 3 ) في التفاوت بين الناس
-
أطياف جان جاك روسو ( 2 ) في العقد الإجتماعي
-
أطياف جان جاك روسو ( 1 ) مكانة روسو في الأنوار الأوربية
-
في الجدوى الإجتماعية: جدال حول المعيارية
-
تاريخية مفهوم اللذة والطبيعة الإنسانية الكونية
-
نقد فلسفة التحطيم الحداثية
-
السياق الإيديولوجي للعقل الحديث واختلاف البنية الثقافية
-
ما المفهوم الدقيق للحداثة؟
-
لآن تورين ونقد الحداثة: بداية نقدية
-
التواضع بوصفه حلاً من احترام الذات إلى الاستقرار العاطفي ومع
...
-
في الإلحاح الناتج عن القلق
-
في المشاعر والقلق الشعوري
-
مقاربة في السلوكيات
-
تاريخ المشقة ومعالجة الفشل
-
روبرت ليهي من (أسلوب تعطيل الفكر) إلى ( طريقة التمكين الشخصي
...
-
مقدمة في العلاج المعرفي للقلق عند روبرت ليهي
-
كارل بوبر قراءة أولى على طريق الإستكشاف الفلسفي
-
إعادة اكتشاف تراث ابن رشد د. حسن مجيد العبيدي والإستمداد الم
...
-
جوزيف سايفرت ومنهاجية الحوار الديني في الفينومينولوجيا الواق
...
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|