|
الحضارات لا تموت قتلا، وانما تموت انتحارا
السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 5011 - 2015 / 12 / 12 - 09:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عنوان المقال هو عبارة كاشفة للمؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي صاحب نظرية "التحدي والاستجابة" المتعلقة بتطور الحضارات. اما الدافع لكتابتها هو قلق أحد أصدقائي المقربين على مصير ما يطلق عليه اسم "الحضارة الغربية" في ظل تنامي التيارات الأصولية والعنف المتوحش الذي تتبناه. ويحمل صديقي هذا تقديرا لا حدود له للحضارة الغربية التي كان لأوروبا الفضل في وضع أسسها. وهو يرى فيها النموذج الذي على الساعون لتحديث مجتمعاتهم تبنيه. وإعجاب صديقنا بالحضارة "الغربية" أمر مفهوم ومبرر. فهي الحضارة التي جسدت "فكر التنوير والحداثة" الذي كانت أوروبا مسقط رأسه وحاضنته الراعية على مدى ثلاثة قرون بدأت مع مطلع القرن الخامس عشر ببزوغ عصر النهضة وﺇ-;---;--ستمرت حتى أوائل القرن التاسع عشر.
هذا الفكر الذي شكله تفاعل وتكامل ثلاث حركات كبرى، تواكبت وتداخلت مساراتها هي: "حركة الاصلاح الديني" و"الحركة الإنسانية" و"الحركة العقلانية". واولى هذه الحركات هي "حركة الاصلاح الديني" التي ثارت على ممارسات رجال الدين وتغول سلطاتهم. تلك السلطات التي لم يكتفوا بممارستها على البشر في حياتهم الدنيا فامتدت أيضا لتشمل ايضا حياتهم الاخرة ليصدروا "صكوك الغفران" التي تغفر لمن يشتريها ما ارتكبه من ذنوب. وهي الحركة التي سعت أيضا لتحرير تفسير النصوص الدينية من قبضة رجال الدين التقليديين، باحثة عن تفسير جديد على ضوء ما ﺇ-;---;--ستجد من معرفة وما تراكم من خبرة بشرية وما تطلبه إنسان الواقع الجديد الذي مدت الكشوف الجغرافية من آفاق رؤيته في عالم الانسان، ووسع العلم الوليد بنظمه المستحدثة من مداركه عن وقائع وظواهر الكون الذي يعيش فيه. وتمضي هذه الحركة قدما فتنزع صفة "القداسة" عن هذه النصوص وتخضع ما جاء فيها للبحث والتدقيق.
أما ثاني هذه الحركات، "الحركة الانسانية"، فقد أعادت الإنسان الى بؤرة الاهتمام فهو في نظرها كائن مستقل لا يخضع لأي وصاية من أي نوع، وهو قادر على تحديد مصيره بنفسه، وعلى التمييز بين الخطأ والصواب، وهو مسئول عن اتخاذ القرار فيما يخصه من أمور. والحفاظ على كرامة الانسان وحقه في حرية التفكير والتعبير والاستمتاع بالحياة هي القيم التي ينبغي تبنيها والدفاع عنها. وهكذا تخلت آلهة الاساطير عن دورها في تسيير شئون الكون وقاطنيه من البشر إلى الإنسان العادي البسيط.
وكانت ثالثة هذه الحركات، "الحركة العقلانية"، التي سعت لتحرير عقل الإنسان من الخرافة والغيبيات فزودته بالأدوات الذهنية التي تمكنه التحقق من مصداقية وصلاحية ومواءمة الأفكار والأقوال والأفعال للواقع المعاش. وكان العلم بوصفه "أي نشاط ممنهج ومنضبط يسعى وراء الحقائق المتعلقة بعالمنا وتتضمن قدر كبير من الشواهد الإمبريقية" (موسوعة ستانفورد للفلسفة) اهم نتيجة لهذه الحركة.
ولم تكن عملية تشكيل "فكر التنوير" واشاعة منظومة القيم المصاحبة له، مثل الحرية المساواة وغيرها في مجتمعات بلدان النشأة الأوربية بالأمر الهين، فلقد دفعت أوروبا ثمنا باهظا حتى تم لها النجاح. فقد تم حرق العديد من الداعين للإصلاح (سافونارولا سنة 1498 وبرونو سنة 1600 على سبيل المثال) وتمت محاكمة البعض الآخر (مثل جاليليو سنة 1632) وقامت حروب مات فيها الملايين (مثل حرب الثلاثين عاماً، 1618 ـ 1648، بين الكاثوليك والبروتستانت والحرب العالمية الثانية، 1939- 1945، بين القوى الفاشية والقوى الديموقراطية).
كان هذا عرضا مختصر لبعض من ملامح الحضارة التي تجاوز تأثيرها بلدان المنشأ الأوروبية وامتد ليشمل بقية البلدان وهكذا لم تعد ملكا لصانعيها بل ملكا للإنسان واستحقت ان تكون بحق "حضارة الإنسانية" " أو "حضارة الإنسان المعاصر". فمبادئها وقيمها الأساسية أصبحت هي العامل المشترك الذي تتبناه كافة الأمم التي سعت ونجحت في الارتقاء بمستوى رفاه مواطنيها مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها من الأمم الصاعدة.
هذه هي الحضارة التي انحاز لها صديقنا والذي أدي تخوفه من انهيارها على ايدي "التعصب المسلح" الذي تتبناه العديد من الفئات الى اصابته بحالة من الاكتئاب. وكان صديقي محقا في تخوفاته فلقد تعرضت هذه الحضارة، بما تتضمنه من قيم وبما حققته من إنجازات، لهجوم شرس وتشويه متعمد من تيارات عديدة، مثل الفاشيون وتيار الإسلام السياسي، التي رأت فيما تدعو له هذه الحضارة تهديدا لوجودها. والأخطر من ذلك هو ان منظومة القيم التي تحكم هذه الحضارة تفرض على من يتبناها من بلدان توفير الملاذ الآمن للمضطهدين في اوطانهم وفتح أبوابهم للباحثين حرية الرأي والمعتقد. إلا اننا رأينا البعض ممن استقر في بلدان هذه الحضارة وتمتع بمزايا المواطنة رأيناه وهو يتبني أفكار المتعصبين من اعداءها ليتحولوا الى ما يشبه الخلايا السرطانية التي تدمر الجسم من داخله.
وبالرغم من هذا كله فإني طمأنت صديقي على مصير هذه الحضارة مذكرا إياه ان الحضارات تموت فقط عندما يكف عقلها عن الابداع، وعندما تنغلق على نفسها فترفض التجديد، وعندما تعجز من مواكبة ما يحدث في بيئتها من مستجدات. وفيما يتعلق بقدرة هذه الحضارة على الابداع وإنتاج المعرفة تخبرنا أحدث اصدارات اليونسكو ان الدول المنتمية لهذه الحضارة، في صورتها النقية (دول الأميركتين، دول أوروبا)، تسهم بنسبة 72.2 % من الأوراق العلمية المنشورة سنويا وبنسبة 70% في براءات الاختراع (UNESCO, 2015). المسجلة سنويا على مستوى العالم. أما انفتاح هذه الحضارة فيعني استعدادها لقبول بعض ما أنتجته الحضارات الأخرى من قيم وأفكار. ويشكل هذا الانفتاح أحد ملامح قوتها فهو يجعلها قادرة على التأقلم مع بيئة من يتبناها وعلى التوطن فيها. كما يؤدي هذا الانفتاح أيضا الى تعدد الطرق التي يمكن اتباعها لتحديث المجتمعات. وهو الامر الذي يعرف في أدبيات التحديث بتعدد الحداثات (Eisenstadt, 1999). وهكذا يمكننا القول، على سبيل المثال، "حضارة إنسانية بنكهة يابانية" حيث يتعايش الكومينو مع فساتين كوكو شانيل، وتضم قائمة المشروبات الساكي بجانب الكوكاكولا.
وأخيرا لا نجد دليلا على قدرة هذه الحضارة على تجديد نفسها باستمرار أفضل من منظومة الغلم التي تعتبر درة إنجازاتها. فنظرة سريعة الى عدد ما حدث من "نقلات نوعية" # Paradigm Shifts في مختلف النظم العلمية تظهر بجلاء ان "المراجعة الشاملة والمستمرة" للأفكار والمسلمات لتحديد صلاحيتها هي العقيدة المقدسة لتلك الحضارة.
وأخيرا كلمة لصديقنا المقرب "ان ما نشهده الآن في منطقتنا هو صراع بين حضارتين واحدة تزدهر وأخرى تنتحر. وأن ما تسمعه من طلقات نارية وما تراه من ذبائح بشرية ليس الا حشرجات موت لحضارة في حالة انتحار".
# الـ "بارادايم" Paradigm (أو "النموذج اﻹ-;---;--سترشادى") هو إطار ذهني عام يتشكل من مجموع التوجهات الفكرية العامة، أو المعتقدات الأساسية، التي تحكم رؤى الانسان للواقع وتوجه مقارباته البحثية وأنشطته العلمية ومنهجيات القيام بهذه الأنشطة
المراجع Eisenstadt, S. 1999. Multiple Modernities in an Age of Globalization. The Canadian Journal of Sociology 24(2): 283-295. UNESCO. 2015. UNESCO Science Report: Towards 2030, Executive Summary. Paris.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثقافتنا المعاصرة ووظائفها المُعطَلة
-
نحن وزمن -الما بعد-
-
الاصالة والمعاصرة: الرنيسانس (*) (2/2)
-
الاصالة والمعاصرة: عنقاء الزمان (1/2)
-
انتخبني من فضلك
-
كليات القمة: طبقية التخصصات واهدار الممكن
-
حكاية -ماضي كان- واخوه -بكره حيكون-: النبوءة (3/3)
-
فساد الافكار
-
حكاية (ماضي كان) واخوه (بكره حيكون): أصل الصراع (2/3)
-
حكاية (ماضي كان) واخوه (بكره حيكون): بطاقة تعارف (1/3)
-
انطباعات ما بعد الحوار
-
السيد نصر الدين السيد - أكاديمي مصري مهتم بالشأن العام- حوار
...
-
اهدموا أهراماتكم
-
الشيطان يعظ
-
هوجة الانتخابات
-
فيها حاجة مش ولابد !
-
على هامش حوارات المجموعة 42: الديموقراطية
-
الديموقراطية من تحت لفوق
-
هي فوضى ...؟ تبدل الأحوال (2/2)
-
هي فوضى ...؟ الابجدية (1/2)
المزيد.....
-
زيلينسكي: الحرب مع روسيا قد تنتهي في هذا الموعد وأنتظر مقترح
...
-
الإمارات.. بيان من وزارة الداخلية بعد إعلان مكتب نتنياهو فقد
...
-
طهران: نخصب اليورانيوم بنسبة 60% وزدنا السرعة والقدرة
-
موسكو.. اللبنانيون يحيون ذكرى الاستقلال
-
بيان رباعي يرحب بقرار الوكالة الذرية بشأن إيران
-
تصريحات ماكرون تشعل الغضب في هايتي وتضع باريس في موقف محرج
-
هونغ كونغ تحتفل بـ100 يوم على ولادة أول توأم باندا في تاريخه
...
-
حزب -البديل- فرع بافاريا يتبنى قرارًا بترحيل الأجانب من ألما
...
-
هل تسعى إسرائيل لتدمير لبنان؟
-
زيلينسكي يلوم حلفاءه على النقص في عديد جيشه
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|