|
التعالق النصي في قصص الرجوع الأخير لمجدولين أبو الرُّب
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5008 - 2015 / 12 / 9 - 09:31
المحور:
الادب والفن
تنتمي الكاتبة الأردنية مجدولين أبو الرُّب إلى جيل التسعينات من القرن الماضي الذي احتشد بعدد لافت من القاصّات المبدعات اللواتي حفرنَ أسماءهن بقوة في المشهد القصصي الأردني أمثال بسمة النسور، جميلة عمايرة، حزامة حبايب، انتصار عباس وغيرهنَّ من القاصّات الدؤوبات اللواتي يُتْحفنَ القرّاء العرب بنتاجاتهنّ القصصية المتفردة. يمكن القول باطمئنان نقدي كبير إلى أن قصص مجدولين ناجحة في الأعمّ الأغلب لأنها تتوفر على سويّة فنية قوامها الثيمة، والشخصية، والبناء القصصي القائم على صراع درامي يتنامى شيئًا فشيئًا منذ مرحلة التمهيد للحدث، مرورًا بالذُروة، وانتهاءً بحل العقدة. وبما أن المساحة الزمكانية ضيّقة فلابد من التعجيل في صناعة الحدث، وتصعيده دراميًا، والإسراع في حسمه عبر حلّ مقنع فنيًا يستقر في ذاكرة القارئ ولا يغادرها بسهولة. تتوفر قصة "كذب أبيض" على أكثر من ثيمة كالحمْل والإنجاب والموت والضجر والاستفزاز ولكن " الكذبة البيضاء" هي التي تعْلق في ذهن المتلقي لأن الراوية التي تختبئ وراءها كاتبة القصة نفسها لا تُريد أن تترك أثرًا سلبيًا في نفس المرأة الحامل "ذات الثوب الأزرق الفضفاض"، خصوصًا وهي على وشك الولادة، لذلك تفادت ذكر موت ابنها الذي لم يعش سوى أربعة أيام لا غير، وحرَّفت الإجابة باتجاه آخر حينما قالت إنها تركته عند جدته، بينما يشي واقع الحال الذي لا تعرفة سوى الراوية العليمة التي جاءت إلى عيادة الطبيب كي يصف لها دواءً يجفف الحليب في صدرها! تُعدّ الراوية في هذه القصة أنموذجًا للشخصية الرئيسة Main Character بينما تُمثِّل المرأة الحامل ذات الثوب الأزرق الشخصية الأساسية Major Character، أما الشخصيات الأربع الأخرى بما فيهن السكرتيرة فهنّ شخصيات مؤازرة قد لا تساهم في صناعة الحدث لكنها تؤثث فضاءه القصصي. يتوزع السرد في قصة "الرجوع الأخير" على ثلاث شخصيات وهي الأم والابن والخادمة. وعلى الرغم من اشتراك الثلاثة في صناعة الحدث القصصي إلاّ أن الأم تحتل الحيّز الأكبر منه ذلك لأنها فقدت الذاكرة وأصبحت لا تفرِّق بين ابنها وبين شقيقها عارف الذي توفي منذ خمس سنوات. وهي تقيم الآن في بيتين، الأول في عمّان، والثاني في القدس حيث عاشت فيه قبل خمسين سنة وتريد أن تأخذ أمها التي كوَت ركبتها إلى الطبيب بدلاً من أبيها المُتعَب. إنها، باختصار شديد، تعيش الماضي والحاضر وتخلط بينهما فلاغرابة أن يمنعها الابن من مغادرة المنزل ويعطي المفتاح للخادمة الأمينة. لقد صنعت مجدولين حدث الأم التي تشوشت ذاكرتها ولم تعد تميّز بين الابن والشقيق، كما أوصلت هذا الحدث إلى أكثر من ذروة حينما ثارت ثائرتها وأخذت تصيح من نافذة المنزل: "أنقذوني، يا ناس ،أنقذوني. .". ولو وضعنا الاستذكارات التي قد يكون بعضها صحيحًا أو مُتخيلاً لكن لحظة الحسم قد كثّفتها القاصة في النهاية المرسومة بعناية فائقة وبصيغة استفهامية مفادها: هل تقبل الخادمة بالزيادة التي اقترحها الابن وقدرها خمسة وعشرين دولار شهريًا، أم ترفض القلادة الذهبية التي قدّمتها الأم وقيمتها نحو ألف دولار مقابل أن تخرج من المنزل؟ حسنًا فعلت مجدولين حينما تركت نهاية هذه القصة مفتوحة كي يساهم القارئ في الإجابة على هذا السؤال الموجّه له بوصفه عنصرًا مُشاركًا في صناعة الحدث ومُتلقيًا له في آنٍ واحد. تتميّز قصة "مسارح الظنون" بحبكتها القوية، وبنائها الهندسي المحكم. ولعل الخبر الذي قرأه في صحيفة قبل أسبوع هو الإطار الذي احتوى الثيمة الرئيسة وحدثها الأوحد القائم على المفارقة. فأم طارق التي أيقظت أبا طارق مُخبرة إياه بأن لصًا قد دهم بيتهما وأنها سمعت وقع أقدامه على السلالم المفضية إلى غرفة المؤونة. وحينما وضع أبو طارق فوهة البندقية على رأس اللص الذي كان متدثرًا فوجئ بأنه امرأة وليس رجلاً لكن الأغرب من ذلك أنها في العشرينات من عمرها، وهي حامل أيضًا. فما الذي أتى بها في آخر الليل، وما الذي تخبئه في جعبتها؟ تروي هذا المرأة الشابة حكايتها لأم طارق وتغادر المنزل في الصباح لكن ما يعيد القصة إلى بدايتها هو أن أبا طارق قد قرأ الخبر مرة ثانية وتأكد بأن عامل نظافة قد عثر على طفل حديث الولادة قرب حاوية للنفايات. والأدهى من ذلك أنه وُجِد عند أطراف الحي الذي يسكنهُ! لعل اللفتة الإنسانية في هذه القصة أن أبا طارق كان يتمنى أن يكون هذا الجنين المتكوِّر في بطن زوجته التي لم تنجب منذ ثلاثين عامًا، وليس في بطن هذه المرأة التي تسللت إلى منزلة خلسة. يعوِّل بعض القصاصين على التعالق النصي مع أفكار وقناعات قد لا تكون صحيحة بالضرورة. وقد فعلت قاصتنا ذلك غير مرة كما في قصة "تغيّير" حيث تكون الأم هي البطلة فيما يكون بقية أفراد الأسرة شخصيات ثانوية. لقد اقتنت الأم مكتبة قبل عشرين عامًا، وجلبت معها صدَفة حلزونية وهي الأهم في سياق الثيمة القصصية. فالمكتبة التي أصبحت مثارًا لسخرية البنات لم يشترِها حتى بائع أثاث متجوَّل ولذلك تخلصت منها وأوصت نجارًا أن يصنع لها مكتبة جديدة. أما الصدَفة الحلزونية فلن تفرّط بها الأم لأنها تعتقد بأنها كلّما قرّبتها إلى أذنها سمعت هدير البحر. ثمة أفكار أساسية تعلق في ذهن القارئ في هذه القصة مثل: "جرأة كبيرة تعني تغييرًا أكبر، جرأة قليلة تعني تغييرًا أقل". وعلى الرغم من أن كثيرين يستعملون الصدَفة كمطفأة للسجائر إلا أن الأم موقنة تمامًا بأن "صوت البحر يسكنها" فكيف تفرِّط بصوت البحر؟ تتوسّع أبو الرُّب في توظيف المنحى الأسطوري في قصة "المضبوع" التي لا يمكن إحالتها إلا إلى الحس الخرافي الذي تصنعه الذاكرة الشعبية ثم تصدّقه في خاتمة المطاف. فالابن المضبوع في هذه القصة لا حول له ولا قوّة، فهو مستسلم، وخاضع كليًا لإرادة أبيه، ويمكن أن يتْبعه حتى ولو كان هذا الأب ذاهبًا إلى حتفه! تؤكد الخرافة الشعبية بأن الضبع إذا شاهد إنسانًا في الليل فإنه يتبول على ذيله ثم يرشق ضحيته بهذا البول ويخدِّرهُ، فيقع الإنسان تحت سطوته، ولا يبدي أي شكل من أشكال المقاومة. في هذه القصة يظل الابن خانعًا وتابعًا لأبيه. وحينما يتمادى هذا الأخير نرى مُلثّمًا يسرق كل ما ادّخره هذا الأب الذي يخشى الأهل والأقارب والجيران. ولعل السؤال المحيّر في هذا الصدد هو: كيف دخل الملثّم إلى هذا البيت المغلق بالألواح والمسامير؟ ثم نكتشف في خاتمة المطاف أن الابن المفلس تقريبًا بات يجلب كل يوم مشويات ومقبلات لذيدة من دون أن يثير حفيظة الأب. كما بدأ يرتدي ملابس جديدة من دون أن يتلقى توبيخاته وشتائمه المُقذعة. لا تشذّ بقية القصص رغم تنوع موضوعاتها عن المعالجات الفنية في بقية القصص التي تُدلل أننا نقف أمام قاصة محترفة تستطيع أن تلفت عناية قارئها، وتأخذ بتلابيه على أكثر من صعيد. فبالإضافة إلى الثيمة، والشخصية، والبناء المعماري وما يتخلله من تصعيد درامي مدروس يفضي إلى نهاية تنويرية مدهشة فإن القاصة مجدولين أبو الرُّب تتوفر على لغة قصصية رشيقة لافتة للانتباه.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بطولة المدينة وتنوّع الساردين في رواية -صنعائي- لنادية الكوك
...
-
الرسالة الأخيرة بين المنحيين التاريخي والدرامي
-
لماذا غاب أتاتورك في فيلم الرسالة الأخيرة لأوسان إيرين؟
-
السينما أجمل شيئ في حياتي وأتمنى أن أكون راويًا للقصص
-
ضفاف أخرى . . . رواية تمجّد الثقافة وتنبذ الكراهية والعنف
-
قراءة نقدية لأربعة أفلام روائية قصيرة في مهرجان لندن للفيلم
...
-
أفلام روائية كردية تستلهم قصصها من السجون التركية
-
سائق الحرب الأعمى الذي قاد العراقيين إلى عين العاصفة!
-
الدورة التاسعة لمهرجان لندن للفيلم الكردي
-
المفاجأة والتشويق في ذِئبة الحُب والكُتُب
-
رواية متشظيّة بتسع وحدات قصصية رشيقة
-
الباندا. . . الحيوان الأكثر فتنة وجمالاً على الأرض
-
ضعف السيناريو في فيلم قلوب متحدة لحسن كيراج
-
السخرية السوداء في مياه حازم كمال الدين المتصحِّرة
-
حكايتنا. . . فيلم عن السجون التركية في عهد الجنرالات
-
أدب السجون في تجربة الكاتب ياسين الحاج صالح
-
الدورة التاسعة والخمسون لمهرجان لندن السينمائي 2
-
الدورة 59 لمهرجان لندن السينمائي 1
-
نازك الملائكة وهاجس التجديد
-
كيف روّضت باريس الوحش النازي؟
المزيد.....
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|