|
بطولة المدينة وتنوّع الساردين في رواية -صنعائي- لنادية الكوكباني
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5005 - 2015 / 12 / 5 - 13:48
المحور:
الادب والفن
تُشكِّل رواية "صنعائي" للقاصة والروائية اليمنية نادية الكوكباني منعطفًا مهمًا في الرواية العربية المعاصرة لجهة تعاطيها مع مدينة صنعاء كبطل حقيقي من أبطال الرواية، وعنصر فاعل من عناصرها الرئيسة التي هيمنت على مدار النص منذ جملته الاستهلالية حتى الجملة الأخيرة التي ختمت بها الرواية وكانت حاضرة بقوة حضور الكائن الحي تمامًا فهي تتنفس، وتشعُر، وتُحب، وتُحاصَر لكنها لا تموت لأنها خالدة في عقول اليمنيين وقلوبهم، ونابضة في وحدات الدم التي تجري في عروقهم وشرايينهم. مِن هنا فإنّ أي دراسة نقدية لهذه الرواية سوف تكون قاصرة ما لم تأخذ صنعاء في الاعتبار وتضعها في مقدمة الشخصيات، ذلك لأنها الشخصية الرئيسة التي تُهيمن على المسار السردي ولا تترك لبقية الشخصيات على الرغم من أهميتها إلاّ أن تكون شخصيات ثانوية أو مؤازرة في أفضل الأحوال. لا شك في أن صنعاء هي القطب المغناطيسي الجاذب لكل الأحداث والشخصيات بدءًا من الرواة الأربعة للنص وهم صبحية، وحميد، وغمدان، وحورية المسك، وانتهاءً بـ "الفندم" الذي يحب هذه المدينة بطريقته "الأنانية" الخاصة التي أوصلت البلاد إلى شفير الهاوية. تقوم هذه الرواية على بنية معمارية رصينة يمكن أن نردّها إلى التخصص الدقيق للكاتبة فهي مهندسة معمارية متخصصة بنظريات التصميم المعماري، وقد وجد التصميم الهندسي الدقيق طريقه إلى الرواية فحبَكها مثل تُحفة فنية نادرة تماهى فيها جمال الشكل مع عظمة المضمون ليخلق في خاتمة المطاف نصًا من نسيج وحده، كما يحتفي بالعديد من عناصر الترقب والمفاجأة والإدهاش. ثمة أسرار كثيرة وشخصيات غامضة في هذه الرواية وأولها شخصية جبران علي، والد الراوية صبحيّة، والمرأة الغامضة حورية المِسك، ورجل المأدبة، والغامض الكبير حميد، وشخصية الفندم الأكثر غموضًا لأنها هي الأقدر على ملء المساحات المختفية في النص. لا تُعوِّل الكوكباني على عنصر محدد من عناصر الرواية كالحدث، أو الشخصية، أو الزمكان، أو اللغة، ذلك لأن رهانها ينصب على معالجة الحدث بطريقة فنية تكشف عن التناغم الدقيق بين العناصر آنفة الذكر بطريقة لا تسمح بتسيّد عنصر على آخر، وإنما تتيح لها أن تتناضح وتغذّي بعضها بعضًا مثل الأواني المستطرقة حيث تبدو كل الشخصيات على مستوىً واحد من البوح والمكاشفة وإن اختلفت الأدوار، وتقاطعت المصائر. يتصاعد عنصر التشويق منذ الفصل الأول الذي يلتقي فيه حميد بصبحيّة ويُحبها لكنها لم تكن المرأة الوحيدة التي تستقطب مشاعره فهو مُوزَّع بين زوجته، وحورية المسك في الأقل، هذا إذا وضعنا جانبًا النساء الثلاث اللواتي أحبهنّ في صباه وشبابه. ومع ذلك فإنه خاطب صبحية قائلاً: "أحبكِ يا زهرة ويا نجمة في الفضاء المعلق مثل فتىً قروي فتنتهُ المدينة وبهجتها. أنا في مقام الحُب، بل هو مقام الوجد الذي سيبعثني للحياة من جديد صُبحيتي"(ص125) وإذا كان حميد في معلّقًا في مقام الوجد فعليه أن يفي بشروط المحبة والتوحّد بالمحبوب عن طريق الزواج، لا أن يطرح عليها سؤالاً جارحًا مُدمرًا من قبيل: "كم عرفتِ قبلي من الرجال؟(ص168) ليخذلها ويكشف لها أنه مجرد حبيبٍ من ورق، وعاشقٍ من أوهام لم يقدِّر جرأتها وهي تمشي معه في شوارع صنعاء القديمة من دون أن تقيم وزنًا لرأي الناس لأنها تحبه بصدق ولا تجد غضاضة في التعبير عن مشاعرها الداخلية لرجل أحبته بكل جوارحها واطمأنت إليه من دون أن تعرف ماضيه الغامض الذي سوف يتكشف تباعًا. يمتلك حميد ثقافة واسعة، ومعرفة جيدة بالفن التشكيلي ساهمت بتوسيع المساحة المشتركة بينهما وأتاحت لهما تكرار اللقاءات سواء في مرسمها أم في بعض المقاهي المبثوثة في قاع المدينة القديمة. فهي أصلاً فنانة تشكيلية مبدعة تنجز أعمالاً لافتة للانتباه لكن حميدًا طعنها في الصميم حينما اعتبرها امرأة عابرة في حياته ولم يتخيلها أمًا لأطفاله القادمين وهي التي رفضت أن تقيم أي علاقة عاطفية قبل أن تتعرف عليه لأن نقطة النور الكامنة في قلبها هي التي قادتها إليه. تتكشف شخصية حورية المسك حينما تبوح لصبحية بكامل قصتها العاطفية مع حميد الذي لم يفكر بها كزوجة أيضًا لأن وهج الحُب، من وجهة نظره، يذوي عندما يصل إلى مرحلة الزواج. يزيل غمدان الصِبري جانبًا من الغشاوة حينما يبوح بقصة والده الذي قُتل أمام البنك فلقبوه بالسبع لكن المتخاذلين والفارّين من أرض المعركة أو "حصار السبعين يوما" عادوا ليسطّروا بطولاتهم المُختلقة ويقولوا بالفم الملآن: "لن يحكمنا أبناء المناطق الشعبية ونحن وجهاء القوم"(ص223) في حين أن هؤلاء الشعبيين هم الذين صمدوا بوجه القوات الملكية ومنعوهم من الاستئثار بالسلطة ثانية. ربما تكون الرسالة التي خبأتها الأم عن صبحية لمدة تسع سنوات هي التي أماطت اللثام عن كل شيئ فعرفت أن والدها كان مناضلاً، وأن جوهر الصراع في المجتمع المدني كان بين القوى التقليدية التي تخشى من قوى الحداثة والمدنية التي جسّدها شباب الجيش وشرائح واسعة من المجتمع المدني في أثناء الدفاع عن مدينة صنعاء المحاصرة. لم تترك الكوكباني ثيمة إلاّ وطرقتها في هذه الرواية التي تجمع بين الأدب والفن، والتاريخ والسياسة، والحب والخيانة، والسجن ودهاليزه السرية في صنعاء، وبالذات "سجن القلعة" الذي كانت تزج فيه السلطات المجانين الذين يصرخون طوال الليل ليمنعوا السجناء حتى من نعمة الإغفاءات الخاطفة! يمكن القول إن حميدًا ووالدها فضّلا الهرب بدلاً من المواجهة والتصحيح، فلقد هرب الأب أمام حفنة من الانتهازيين بينما هرب "العقيد المتقاعد" حميد أمام ثلة من الفاسدين سوف ينهبون ثروات البلد ويضعون مقدّراته بيد عائلة واحدة أو شخص واحد سوف يظل جاثمًا على صدور اليمنيين نحو أربعة عقود تقريبًا. يسلّط الفصل السابع الضوء على شخصية "الفندم" الذي سأل الراوية عن أبيها وكأنه يعرف جميع المناضلين اليمنيين لكنها اكتشفت بحس الأنثى أن الرئيس الذي يصافحها ويربت بيده الأخرى على يدها إنما يوحي بإعجابه بها، ورغبته الفاضحة فيها. إن هذا المشهد الذي استمر لبضع دقائق معدودات يكشف للقارئ دناءة النفوس الصغيرة التي لا تتناسب مع منصب الرجل الأول في الدولة. لم تهمل الكوكباني الجانب السياسي منذ ستينات القرن المنصرم حيث يصادف القارئ أسماء الرؤساء الستة الذين تناوبوا على حكم اليمن وهم عبدالله السلال، عبد الرحمن الإرياني، إبراهيم الحمدي، أحمد الغشمي، عبد الكريم العرشي وعلي عبدالله صالح الذي حوّل البلاد إلى ضيعة تابعة له ومسرحًا لحروبه العبثية التي سحقت البلاد والعباد. كانت دعوة القصر الجمهوري نقطة مفصلية جمعت العديد النقائض والأشخاص الذين ساهموا لاحقًا في حل العقدة الروائية حيث يأتي حميد وغمدان في زيارة لمرسمها وكل واحد منهما يحمل الصورة الجماعية التي التقطوها مع الفندم في القصر الرئاسي كي تعرّف الناس بتاريخ والدها وبتضحياته الجمة من أجل الوطن. وافقت صبحية على الفكرة شرط أن يتركوا لها حرية اختيار المكان الذي ستضع فيه الصور الجماعية الثلاث. وفي الختام لابد من التنويه ثانية بأن لغة الكوكباني السلسة هي عنصر مُضاف من عناصر النجاح الذي تشتمل عليه هذه الرواية المتفردة شكلاً ومضمونا.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرسالة الأخيرة بين المنحيين التاريخي والدرامي
-
لماذا غاب أتاتورك في فيلم الرسالة الأخيرة لأوسان إيرين؟
-
السينما أجمل شيئ في حياتي وأتمنى أن أكون راويًا للقصص
-
ضفاف أخرى . . . رواية تمجّد الثقافة وتنبذ الكراهية والعنف
-
قراءة نقدية لأربعة أفلام روائية قصيرة في مهرجان لندن للفيلم
...
-
أفلام روائية كردية تستلهم قصصها من السجون التركية
-
سائق الحرب الأعمى الذي قاد العراقيين إلى عين العاصفة!
-
الدورة التاسعة لمهرجان لندن للفيلم الكردي
-
المفاجأة والتشويق في ذِئبة الحُب والكُتُب
-
رواية متشظيّة بتسع وحدات قصصية رشيقة
-
الباندا. . . الحيوان الأكثر فتنة وجمالاً على الأرض
-
ضعف السيناريو في فيلم قلوب متحدة لحسن كيراج
-
السخرية السوداء في مياه حازم كمال الدين المتصحِّرة
-
حكايتنا. . . فيلم عن السجون التركية في عهد الجنرالات
-
أدب السجون في تجربة الكاتب ياسين الحاج صالح
-
الدورة التاسعة والخمسون لمهرجان لندن السينمائي 2
-
الدورة 59 لمهرجان لندن السينمائي 1
-
نازك الملائكة وهاجس التجديد
-
كيف روّضت باريس الوحش النازي؟
-
استرجاع ذاكرة الطفولة والمكان في فيلم ما تبقى منكِ لي
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|