|
المرأة والسياسي في رواية -الوشم- عبد الرحمن مجيد الربيعي
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 5002 - 2015 / 12 / 1 - 08:22
المحور:
الادب والفن
المرأة والسياسي في رواية "الوشم" عبد الرحمن عبد المجيد الربيعي تكمن أهمية الرواية بتاريخ صدورها في عام 1972، وهي تعتبر من الأعمال الرواية الأولى التي تحدثت عن الإعتقال السياسي في العراق، وتمثل التجربية الروائية الاولى للكاتب، فقد سبقها بإصدار ست مجموعات قصصية، ومن سماة الرواية تناولها لحدثين في زمانين مختلفين، لكنهما يكملان بعضهما البعض، فالرواية تنتقد النظام الرسمي العربي وفي ذات الوقت الاحزاب ورجالها، فبطل الرواية "كريم البصري" رجل حزبي يعتقل لاسباب سياسية، وفي المعتقل يقدم استنكاره للحزب ويعلن ولاءه للسلطة، ويمسي رجل مهزوم، فيعمل على تبرير هذه السقوط المدوي في أكثر من موضع، من خلال انتقاد الحزب وقيادته، أو من خلال حاجته لمشروب الذي اصبح جزءا من دمه. يحدثنا "كريم البصري" عن المرأة وكيف تعمل على إخراج الرجل من حالة البؤس التي يمر بها إلى حالة من الراحة والهدوء بعد أن تقدم له ما يحتاجه من شهوة, ويحدثنا عن دور الكاتب والشعر في إخراجه من الأزمة التي يمر بها في المعتقل، الرواية لا تتجاوز تسعين صفحة، حجم متوسطـ لكنها توصل فكرتها وتطرح مجموعة من القضايا التي عانى ويعاني منها المواطن العراقي، ونعتقد بأن أهمية مثل هذه الروايات تكمن في طرقها لجدارن الخزان قبل حدوث الخراب في بلداننا، إن كانت في المشرق أم في المغرب العربي، وكان يمكن لها أن تكون ناقوس الخطر، الذي يمكننا أن نسترشد به، وبخطورة الواقع الذي نعيشه كمواطنين، لكن النظام الرسمي العربي وضعف حركة التحرر العربية كان يحولان دون إتمام الإستفادة من هذا التحذير الذي تناوله العديد من الكتاب. النظام العربي ما يدفع المواطن للانخراط في الأحزاب السياسية هو طبيعة النظام الرسمي، الذي يتصف بالتخلف والقمع واضظهاد الآخر، والارتماء في أحضان الغرب الإستعماري، وتفشي الفقر والجهل بين المواطنين، من هنا نجد النخب المثقفة تنخرط في الاحزاب السياسية لتغير هذا الواقع، مسلحة بفكر وتجارب الآخرين، يطعلنا الرواي على هذا الواقع بقوله "فندق رخيص...، ويقطنه الجنود والمرضى الذي جاءوا للتطيب في بغداد، وبعض الموظفين المفصولين الذين جاءوا بحثا عن عمل بعد أن قذفتهم المعتقلات عراة من وظائفهم وشعاراتهم التي هرجوا لها طويلا، وأنا بينهم يا حسون رجل خسر وظيفته والتزامه ومدينته" ص40، بهذا الوصف يقدم لنا "كريم البصري" حال العراق في العقد الخامس والسادس من القرن الماضي، الفقر حاضرا، المعتقلات تعمل على زيادة العاطلين عن العمل، وعلى النزوح إلى أماكن جديدة، التحامل على الواقع والنظام يتصاعد وينموا. لكن في فترة الانقلبات السياسية التي شهدها العراق لم تكن لترحم كل من تعاطا مع الاحزاب، فهو متهم ومطلوب لكل نظام جديد يأتي، وكأن الإنتماء للحزب لعنة تلاحق المواطن في كل زمان ومكان، ولا مجال لتخص من هذه اللعنة بالمطلق، هذا الواقع عاشه ويعيشه الواطن العربي، فنجد الشاب أبن العشرين عاما، يبقى مطلوبا للنظام حتى بعد أن يتجاوز السبعين من عمره، فهو موشوم بوشم (مواطن غير صالح) هذا واقع النظام الرسمي العربي، "ـ لا أعرف علتي، كلهم يسجنونني، وكل إنقلاب يستهدفني ويضعني في مصاف أعدائه! ـ لا تهتم، فلست البريء الوحيد هنا." ص66، بهذا الحال يعيش المواطن العربي، فهو مطلوب لكل من يأتي للحكم، وعليه أن يثبت إخلاصه للنظام، فلا مكان في هذا الوطن سوى للذين يعلنون ولاءهم للنظام بصرف النظر عن طبيعته. عمل الحزبي ضمن هذا الواقع يكون الحزبي أسير لظرف محدد، وعليه أن يتجه نحو التخلص من بؤس الحال الذي يعيشه، فيمارس هذه الأعمال لكي يخرج/يهرب مما هو فيه، "عينت بمرتب أعتقده مرضيا وبه استطيع مواصلة الأكل والشرب وقراءة الكتب ومعاشرة البغايا" ص40، إذن هناك رتابة في الحياة، تدفع بالحزبي لكي يهرب/يفرغ/ينتقم مما هو في من خلال عمل لا يلبي طموحه، الشرب والقراءة ومعاشرة البغايا. من خلال هذه الأعمال يكون المثقف الحزبي يقتل ذاته بهذا السلوك، فلا إبداع عنده، ويقضي وقته في الشرب الذي يبعده عن الواقع، وعند البغايا اللواتي يسلبنه الصفاء والإخلاص ويلوثنه بالإنخراط في شهوات الجسد، أما الكتاب فهو ليس أكثر من طعام يبقي الجسد محافظا على ذاته. تتشابك الدوافع والأهداف معا عند "كريم البصري" بحيث لا يميز بين التفريغ/الدافع والهدف الذي يسعى إليه فيقول موضحا هذا التشابك: "لقد كنت أعاني وأبحث دائما، اقرأ الكتب، وأساهم في المظاهرات والتنظيمات، وأشرب الخمور وأحب وأرتاد دور الزنا بلا إنقطاع، أردت أن أكون على صلة ساخنة بالحياة وأتجدد معها، ولكني كنت اكتشف أنني كنت أخسر هذه الحياة باستمرار" ص55، بهذا يكشف لنا الراوي التناقض في سلوكه، فهو يبدو من جهة مناضل يقوم بواجبه إتجاه الوطن والمبادئ التي يحملها، كما أنه شخص مثقف يعمل على رفع مستواه المعرفي والثقافي من خلال مطالعة الكتب، ومن جهة ثانية نراه سكير يرتاد المواخير، فهو في العمل الأول يقدم لنا السلوك المناسب نحو الهدف الوطني والإنساني، وفي السلوك الثاني نجد فيه الإنحراف بإتجاه الهاوية، فهو ليس أكثر من شخص يسعى إلى تفريغ الضغط الذي يحمله بطريقة غير سوية. الصراع من خلال هذا السوك يتضح لنا وجود حالة من الصراع الداخلي عند "كريم البصري" صراع بين والواجب الوطني وبين الهم الشخصي، صراع بين المبدأ والواقع، بين الفكرة والسلوك، فيحدثنا عن طبيعة هذا الأمر من خلال قوله: "لقد أردت أن أنتشل روحي النادبة المسحوقة التي لا تعرف السلام، لست نبيا ولكنني إنسان اعتيادي لطخته الصفوف بشعاراتها وتهريجها وقادته إلى عهرها، فهدرت صحتي وشبابي، واليوم أحاول أن أجد الأمان، هذا كل شيء، ولكن كيف؟" ص53، إذن بطلنا ليس بطلا خارقا بل إنساني، يكتشف الكذبة الحزبية والعهر السياسي الذي تمارسه القيادة فيرتد متقهقرا إلى الخلف، لكنه بعد أن إنخرط في التنظيم وعلم وعرف الحقيقة التي يجب أن يكون عليها الحزب والمناضل والوطن، ليس من السهل عليه التخلي عن كل هذه الأفكار والمبادئ، حتى لو تبين له عدم واقعيتها، من هنا نجده يعاني، يصارع ذاته، يحاول أن يبرر ما يقوم به من رذيلة، من سلوك لا يليق بالمناضل. الواقع السياسي يحدثنا الرواي عن الواقع السياسي الذي يعيشه العراق، وعن طبيعة التنظيمات السياسة التي لا تلبي طموح المناضل الشريف، وتسعى لتمرير شعاراتها بين الجماهير مكتفية بالتحليل والتبرير لما آلت إلية الأمور، "... أن الواقع غير الأقوال التي تثرثرون بها دائما، وهي التي قادتنا إلى هذا الفشل الذي نرضعه الآن، أن سبب بلائنا أنتم أيها المثقفون، لماذا لا تتركونا وشأننا وترفعون عنا وصايتكم التي لا نريدها؟!. ...مصيبتنا أننا نعرف الكلام، ونطيق التبرير وعقلنة الأمور! في أيام النصر نحن في المقدمة وفي أيام الإنكسار نحن أول الفارين" ص54، بهذا النقذ يوجه "كريم البصري" أصبح الإتهام للتنظيمات السياسية التي لا تتقن سوى التبرير والتحليل، ولا تعمل أكثر من اصدار البيانات الحزبية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ورغم أن الرواية كتبت عن واقع العراق في العقد الخمامس والسادس من القرن الماضي، إلا أنها تحاكي واقع العراق وكافة الاحزاب في المنطقة العربية اليوم، فالكاتب استشف حالة الخلل التي تعاني منها الاحزاب المعارضة، وحذرها من خطورة الاستمرار بهذا النهج الرجعي، لكنها أستمرت فيه، غير آبهة بخطورة الواقع، وهنا يحمل الكاتب مسؤولية الخراب الذي تفشى في العراق إلى هذه الأحزاب التي لا تجيد سوى القول والتنظير والتبرير. حقيقة الأحزاب يكشف لنا "كريم البصري" حقيقة الأحزاب وكيف حولت العطاء إلى أخذ، والتألق إلى خمول، والجهاد إلى نوم، والعمل إلى إنتهازية، "ـ أتذكر أيامنا الأولى في العمل السياسي؟ ـ أوه يا حسون، أنني أذكر كل شيء! كنا مدفوعين باخلاص حقيقي! أيام صافية لطخوها فيما بعد. ... ـ لقد شوهنا الشك والفشل يا كريم، وهنا نحن الآن كالموتى الذين ينتظرون دفنهم" ص72و73، من خلال هذا الأحوال نكتشف بأن الأحزاب عملت على قتل العطاء، وتدمير الذات والآخرين، وتشويه المبادئ من خلال السلوك غير المبدئي الذي تمارسه تلك الأحزاب، فهي تعمل بشكل سلبي مما يجعل العناصر الحزبية والجماهير تكفر بالعمل السياسي وبأي عمل وطني، فمثل هذا الأحزاب تقوم بعمل تخريب أكثر منه بناء، وتكمن خطورتها أنها تستقطب النخب المعطاءة وتحولها إلى جماعات كافرة أو انتهازية تجاري الواقع وتحابي القيادات الحزبية وتميل إلى عقلنة عمل النظام، بحيث يمسي مقبولا. المعتقل دائما كان المعتقل يمثل مكان غير مناسب للحياة الإنسانية، من هنا يتم وصفة بالسلبية المطلقة، فلا شيء اصعب على الإنسان من هذا المكان الموحش، يصف لنا الراوي المعتقل بهذا الشكل: "جو خانق تفوح منه رائحة الانفاس وعرق الأجساد التي لم تعرف الاستحمام منذ شهور، ... وأبسط شيء أتوقعه هو أن أجد قرادة ملتصقة بعنقي عندما أفتح عيني بعد إغفاءة سريعة" ص47 و48، من هنا لا يمكن أن يكون هذا المعتقل مكان محبب لأي إنسان، فهو يمثل مكان للعذاب والتألم والضيق والقذارة. لم يقتصر كره "كريم البصري" للمعتقل ناجم عن إنعدام النظافة وحسب، بل هناك ضغوط نفسية يتركها هذا المكان على الإنسان مما يجعله يعاني نفسيا، "ـ الجو خانق يا حسون لا يسمح لك حتى بموقف بطولي أخير تودع فيه حياتك، السأم المريع ينسف الأعماق ويبددها هباء" ص93، إذن التأثيرات النفسية تكون أشد وقعا على المعتقل من الآلام الجسدية، خاصة إذا علمنا بأن بطلنا مثقف ويعرف حقوقه الإنسانية، وهذا يجعل معاناته تزداد وتتفاقم أكثر. ومن التأثيرات السلبية على المعتقل السياسي عدم وجود قانون يحاميه، فهو معرض للإعدام أو البقاء في المعتقل إلى الأبد، أو النفي إلى المجهول، فلا قانون يحميه، هذا الوضع يقدمه لنا "كريم البصري" بهذا الشكل، ".. بدأت التحقيقات في معتقلنا، وأخذ عدد الموجودين يقل تدريجيا، وكان المعتقلون الذين يأتي دورهم ينقلون إلى مكان مجهول مكللين بالصمت والغموض، وكثرت التقولات والتصورات. ـ أنهم يقتلونهم ـ يدفنونهم أحياء. ـ ينقلونهم إلى الصحراء. لقد مات الشيخ" ص96، بهذا الشكل ينقل لنا الرواي العذاب النفسي الذي يتعرض له المعتقل السياسي في العراق، فهل تغير هذا الوضع بعد مرور أكثر من خمسين عاما على كتابة الرواية!، المعتقل السياسي هو شخص مفقود، محكوم عليه بالموت سلفا، على النقيض من المعتقل على جرم الأخلاقي، فهو محفوظ الحقوق، وأهله يعرفون أي هو، ويزورونه باستمرار، لكن السياسي عليه غضب النظام ورب النظام، فلا مكان أو عنوان له، فهو في ألا مكان وخارج الزمان، فأي يمكن أن نجده!. المكان بما أن الرواية تتحدث عن العراق كان لا بد من تناول المكان والحديث عنه، الراوي لا يكتفي بوصف المكان بشكل مجرد، بل يعطيه لمس فنية تجعله أكثر بهاء، "الناصرية تحتمي بالفرات وترمي إليه بشموسها ونذورها من أجل أن يكون الغد أكثر أمانا" ص44، فهنا تزاوج الفرات والناصرية بشكل مبهر للناظر، حيث يمكن للإنسان أن يتمتع بهذا اللقاء الطبيعي. وجمال المكان والطبيعية العراقية ينعش القلب ويبهج النفس، هذا ما قاله لنا "كريم البصري": "اشتهت أن أملأ صدري بنسمة من شاطئ الفرات أطهر بها صدري من العفونة الدبقة هذه" ص97، فهنا المكان أخذ صفة البلسم الشافي، فهو يصفي الجسد مما علق به من أوساخ وقاذورات، ويسمو بالنفس نحو الأفق فتأخذ حريتها بعيدا عن الجدران والأبواب المغلقة. الآخر ما يحسب لهذه الرواية أنها قدمت لنا شرائح متباينة من المعتقلين، ولم تقتصر على جهة حزبية أو فكرية محددة، كما يفعل البعض، وهذه التعددية الحزبية في المعتقل تؤكد طبيعة النظام الرسمي العربي الذي لا يوفر أحدا، فالكل مطلوب لديه، فنجد في المعتقل صاحب الاتجاه اليساري كما هو الحال عند "كريم البصري" ونجد الاتجاه الديني كما هو الحال عند "حامد الشعلان" الراوي يحدثنا عن "حامد الشعلان" بهذا الشكل: "... معلما مسنا تقاعد عن الوظيفة والسياسة معا، ولكن ماضيه السياسي بقى يتعقبه فجيء به معنا على الرغم من أنه معتل يعاني من الربو وروماتيزيوم مزمنين" ص49، من هنا كل من كان له علاقة حزبية في الماضي هو مواطن غير صالح، ويجب أن يخضع للنظام وأن يدين/يستنكر التنظيم ويعلن ولاءه للحاكم، هكذا هو الحال مع أي مواطن عربي تعاطى مع الأحزاب السياسية. "حامد الشعلان" شخصية متدينة، مثقف ثقافة دينية، ويستطيع أن يناقش الآخرين مستخدما ثقافته الدينية لأقناعهم بصواب أراءه، "وبينما كان رياض قاسم يوالي قراءة قصائده أرتفع صوت حامد الشعلان مرددا: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا" ص100، فهنا كان القرآن الكريم أحد الوسائل التي يستخدمها "الشعلان" كرافد ثقافي يحاول من خلاله أن يؤثر بأفكار المعتقلين ويدعم وجهة نظره. ويقول أيضا مؤكدا على ضرورة الحوار المنطقي: "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا نشكر به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" ص103، فهناك كانت الدعوة محددة وملتزمة بالحوار والنقاش والاقناع، ولكلا أن يختار ما يريد، فهناك من يقتنع وهناك من يبقى متمسكا بفكره، وله ذلك، فلا مكان للغصب هنا. ونجد الآية التي تقول : "وجادلهم بلتي هي أحسن" ص108 كتأكيد عى ضرورة التمسك بنهج الحوار والإبتعاد عن الأكراه والتخويف والترهيب الذي يمارس من قبل الآخرين. إذا كان هذا حال "حامد الشعلان" فهناك شخصية أخرى في المعتقل تحدثنا عما تعاني فيقول لنا "حسون": "ماذا أفعل؟ أطفالي في مكان، وأنا هنا لا أعرف عنهم شيئا! من لهم بعدي وهم الذين لم يعتادوا على فراقي يوما واحدا؟!" 68، فهذه شخصية أخرى سحبت إلى المعتقل لأسباب سياسية، وليس عليها أي تهمة جنائية، فقط هي تنتمي لأحد الاحزاب.
المرأة المرأة أيضا لها إشكالية مع المجتمع، فتحدثنا "مريم عبد الله" عما تعاني المرأة العراقية في المجتمع الذكوري قائلة عن حالها: "لقد تزوجني وأنا صغيرة يا كريم وبيني وبينه تقف عشرون سنة، لم أعرفه إلا ليلة عرسي، كانت صفقة عقدها والدي ليداري بها خسارته، بكيت بادئ الأمر ولكنني تقبلت الأمر وارتضيته ثم وجدت سعادتي مع وصال وهند" ص42، فهنا كان المرأة ضحية المجتمع كما هو الرجل ضحية النظام، فكلاهما يعاني وعنده أزمة، المرأة مع مجتمعها المتخلف، والرجل مع النظام القمعي. كما أن الرجل يحاول أن يغير/ينتفض على واقعه تفعل المرأة، لكن بطريقتها الخاصة، " ـ أنت لا تملين من الرجال أيتها القحبة! ـ أجد لذة في إذلالهم انتقاما من مأساتي" ص47، أعتقد بأن هذا المشهد يمثل انصافا للمرأة فهي تعمل على الرد على ما لحق بها من ظلم، فهي ليست ساكنة بل تحاول بطريقتها أن تعبر عن سخطها على المجتمع الذكوري من خلال إذلال الرجال، الذين يعتبرون أنفسهم اسيادا ومتحكمين في المرأة. نجد فيما تقوم به "مريم" تفريغا لا يخدم تغير الواقع بل يبقيه على حاله، وتقتصر تأثير فعلها عليها فقط، فتأخذ قسطا من الراحة النفسية وتشبع جسدها مما يريده من حاجة جنسية، فكما يفرغ "كريم البصري" بطريقة لا تتناسب مع أفكاره وأهدافه نجد "مريم" أيضا تقوم بعين الفعل، فهما يقومان بفعل شخصي، يلبي الطموح الذاتي ليس اكثر، فيما الواقع يبقى على حاله، النظام مستمر في القمع والمجتمع مستمر في اضطهاد المرأة. ويحدثنا عن "أسيل" المرأة التي أحبها بشغف، قائلا عنها: "وكانت أسيل تزور أخاها بين فترة وأخرى" ص48، المرأة هنا عنصر فاعل وداعم لعمل المناضلين، وأن كانت مشاركتها تقتصر على الزيارة وحسب. المرأة الأخرى ضمن واقع الاعتقال وانعدام الحريات كان لا بد من وجود مهدئ للرجال، شيء يضفي عليهم لمسة من الحنان، يخفف عنهم ما يمرورن به من شدة، فكانت المرأة هي هذا الشيء الذي سيجعلهم أكثر ثباتا وتمسكا بالحياة، من هنا نجدها تأخذ دورها لجعل الرجال أكثر تمسكا وقدرة على مواجهة النظام وبطشه، "كان جسدها يا حسون مهتزا نابضا بدون ايقاع، وقد منحنني كل مدخراته بلا انانية أو تحفظ، وما زلت أحس حرارة بطنها وارتجاف فخذيها ومواءها وسعيرها الذي لم ينظفئ رغم دمي الغزير الذي سكبته فيها! إنها امرأة فظيعة لم تخلق لرجل واحد بل خلقت لكل الرجال، لقد تركتنا نحن الثلاثة متعبين لاهثين تتدلى ألسنتنا" ص80، الحدث هنا عن المومس التي تضع وشما على جسدها، فهي ليست امرأة وحسب، بل شيء آخر، من هنا نجد تأثيرها الكبير والمستمر والحاضر، حتى في اللحظات الحالكة، ورغم أنها مومس، إلا أن تركت تأثيرا ايجابيا عند "كريم البصري" وهذا الأمر يشير إلى الحقيقة المومس، فلا يوجد قبح كامل ولا جمال كامل، ويمكن أن نأخذ مما نعتقده قبحا شيئا يعمل على إفراحنا. ويحدثنا عن "يسرى توفيق" بطريقة أخرى تجعلنا نتأكد بأن المرأة لا يقتصر تأثيرها من خلال جسدها وحسب، بل من خلال ما تمتلكه من جمال وما تحمله من عاطفة، "ترى هل استطيع بها أن انقذ موقعي من الخطأ الجديد؟ ها هي أمامي فتاة رائعة، أصابعها عارية، وحدودها بكر، لماذا لا أبدأ معها بداية جادة؟ وأغتسل بها منكم، من أسيل عمران، من مريم عبد الله، من العالم/ من سخفي اليومي المهتريء؟" ص62، المرأة هنا ليست جسدا وحسب، بل روح، عاطفة، حنان وجمال، تستطيع أن تخرج الرجل مما هو فيه، تنقله إلى عالم جديد، وكأنها بساط الريح.
الانهزام غالبا ما تكون نتيجة الصراع/المواجهة مع النظام، إنهزام المواطن العربي أمام بطش النظام، لكن يتبع/يلازم هذا الانهزام تبرير والقدرة على وضع الحجج والافكار التي تجعل من عملية الانهزام/الخيانة مقبولة للراوي، ولكنها مكشوفة للمتلقي/القارئ، "اخطط تارة وأكتب تارة أخرى وكسرت رقابا جديدة وأمعنت في كسر رقاب أخرى، ثم ألقيت بالورقة والقلم وزفرت بقوة ـ هل انتهيت؟ ـ هناك مسألة صغيرة ثانية ـ وما هي؟ ـ أن تنشر برأة في احدى الصحف ـ حاضر ـ والآن اعتبر نفسك مطلق السرح" ص120، ما يمارسه العديد من الانظمة في المنطقة العربية، استنكار الحزب وإعلان الولاء للنظام، البعض يكتفي بهذا الأمر في دائرة المخابرت، والبعض يشترط نشره في الصحف المحلية، كتأكيد على الأنتصار الذي يحققه النظام على المعارضة، وأيضا تأكيدا على هشاشة هذا التنظيمات وبؤس العناصر وضعفها أمام الواقع. الأب والأم لا يختلف "عبد الرحمن مجيد الربيعي" عن سواه من كتاب الروارية العربية، فيقدم لنا الأب بصورته السلبية من خلال حديث "مريم" التي قالت عن أبيها " كانت صفقة عقدها والدي ليداري بها خسارته" فهنا كان الأب ليس سوى تاجر يتاجر بابنته لكي يعدل ما لحق به من خسارة مادية، فالتقديم السلبي كان حاضرا وواضحا في النص، أما عند بيقة الشخصيات فكان الأب غائبا تماما، مما يشير إلى تجاهله عند الكاتب، فهو يحمل ـ في العقل الباطن ـ شيئا عليه مما جعله يغيبه تماما، فهو يتماثل بالنظام، قرين السلطة، فلا يمكن أن الحديث عنه بصورة إيجابية. أما الأم فقدمها لنا بهذا الشكل، "ـ إن جسمي قد تكلس، وأنا بحاجة إلى الرياضة مثل حاجتي لمرأى أمي" ص53، كافة البشر وقت الضيق يتذكرون أمهاتهم، فهي المعين وقت الشدة، هي من تخفف عنهم ما يمرون به، وهذا التذكير بالأم يشير إلى ما قدمته سابقا لهم وعم أطفال، من هنا ترك هذا العطاء تأثيرا فيهم، بحيث لم يعدوا ينسوا هذا العطاء والحنان والحب والعناية. وها هو "رياض قاسم" يؤكد هذه الحاجة للأم فيقول: "أنني مشوق لوجه أمي" ص98، فالأم يتم ذكرها بشكل يؤكد دورها المعطاء الذي يخفيف عما يمر به الإنسان من ضغط. يحدثنا "كريم البصري" عن أمه وما تحمله من أفكار تتماثل مع معتقدات المجتمع، فهي جزءا منه، وهي المرأة التي تعاني من إضطهاد مزدوج، المجنمع والنظام معا، "ولكن أمي رحمها الله كانت تعلمني الخوف وتزرعه في نفسي، إذ كانت تحدثني دائما عن حيوانات خرافية غربية تارة بهيئة قطط وأخرى بهيئة كلاب" ص88، رغم ما في هذا المقطع من سلبية، إلا أنه يحمل حنين لها، فهو يمثل حرصها عليه، فنيتها كانت المحافظة على ابنها وليس تخويفه، من هنا بدأ كلامه بقوله "رحمها الله".
للتذكير نقول بأن رواية "الوشم" تم تناولها في رسالة دكتوراة من قبل "ماتيلدا جالياري" الايطالية في عام 1975 -1976. الرواية من منشورات دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية أدار 1980
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأم في رواية -سجن السجان- عصمت منصور
-
انطون سعادة في كتاب -الصراع الفكري في الأدب السوري-
-
المرأة في رواية -ثمنا للشمس- عائشة عودة
-
الفلسطيني والاحتلال في رواية -أحلام بالحرية- عائشة عودة
-
دوافع المقاومة في رواية -أحلام بالحرية- عائشة عودة
-
النخب العربية
-
الطاعون
-
التعريف والتنوع في ديوان -طقوس المرة الأولى- باسم الخندقجي
-
مجموعة -امرأة بطعم الموت- أماني الجنيدي
-
إلى من يتجنى على مفتي فلسطين
-
دفاعا عن مفتي فلسطين
-
الصراع في مسرحية -بيجماليون- توفيق الحكيم
-
بجامليون في رواية -العطر- باتريك زوسكيند
-
حل المشلكة اليهودية
-
الشاعر منصور الريكان وألم المخاض في قصيدة -الأماني الضائعة-
-
الواقع الفلسطيني بعد أوسلو في رواية -آخر القرن- أحمد رفيق عو
...
-
التجربة الأولى في ديوان -سجينيوس- جمعة الرفاعي
-
إلغاء الأخر في رواية -أمهات في مدافن الأحياء- وليد الهودلي
-
هيمنة الثقافة الشخصية في رواية -الشعاع القادم من الجموب- ولي
...
-
عبور الزمن والجغرافيا في رواية -بلاد البحر- احمد رفيق عوض
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|