|
فيروز محارة الشعر ووطن النّجوم..
سمير حاجّ
الحوار المتمدن-العدد: 5000 - 2015 / 11 / 29 - 08:12
المحور:
الادب والفن
كرّست بالمحبة والسلم في زمن الحرب والاقتتال المجانيّ، هادلة بروائع "الأخوين رحباني"، اللذين غنّت من كلماتهما حصّة الأسد: "القمر بيضوي عالناس والناس بيتقاتلو عمزارع الأرض الناس عحجار بيتقاتلو نحنا ما عنا حجر لا مزارع ولا شجر أنت وأنا يا حبيبي بيكفينا ضو القمر".
كم فيروز نحتاج لنعيد للشعر رونقه وللأغنية ألَقها وللموسيقى انسيابها؟ في زمن يعيش فيه الغناء تراجعا، والشعر خفوتا والموسيقى فوضى، قطفت فيروز من حدائق الشعر أشهاها، وقدمتها للمتلقي إكسيرا مميّزا، عابقا بالأصالة والحداثة، والصوت الجميل. رفعت "جارة القمر" الإنسان إلى مستوى الشّعر، وسحر الكلمة ومذاقها، وجعلت للشعر حضورا وانجذابا، وجعلت من حنجرتها لمبدعي لبنان والوطن العربيّ نخاريب نحل تسيل شهدا. برهن صوت فيروز الخلّاب، أنّ الأذن أكثر من العين، تذوّقا وتفاعلا مع الشّعر.ألم يقل بشّار بن برد من قبل، "والأذن تعشق قبل العين أحيانا". نجح صوت فيروز في اكتشاف "جينات" الشعر عند الإنسان، فحفظ كلمات أغنياتها وردّدها. في أيامنا، في زمن الفيسبوك والقطيعة شبه الأبدية بين القارئ العربيّ والكتاب، كم ساعة نحتاج إلى تحبيب قارئ أو متلقٍّ قصيدةَ شعر؟ وكم معرض كتاب نحتاج لنقنع شخصا واحدا بـ "شراء" كتاب؟ وكم شهرا نحتاج لإقناعه بالقراءة المستحيلة ولو لقصيدة. لقد هزمت نظريات النقد والتوصيل والتلقّي، أمام صوت فيروز "كنارة لبنان" في ترويض المستمع، وتسريب الشعر والموسيقى إلى شرايينه وحناياه ونخاعه. إنّ الشعر العربيّ مدين بكل حقّ وحقيق، للست فيروز، التي جعلت القصيدة صوتا جميلا، والشعر قوس قزح وطفلة تركض وراء "طيّارة يا طيّارة يا ورق وخيطان". لقد اختزلت فيروز، بصوتها الرنّان المسافات الضوئية، بين عنترة بن شداد والصمة القشيريّ وجرير وأبي نواس وجيل الفيس بوك، كما قرّب صوتها الغربة بين المفردات القديمة والمتلقي في أيامنا. صنعت فيروز بصوتها وأدائها الرفيع، جسرا بين الشعر والمتلقّي، بعيدا عن نظريات التوصيل في الفن والأدب، وحفرت في القلوب منازل لأغانيها. إنّ الست فيروز، هي الأجدر بـ "جائزة الشعر" العربيّ، وصوتها العذب يحمل الشعر في أرجاء المعمورة، ويسكبه في الآذان والقلوب، مثل حبات مطر من ديمة سمحاء. على كلّ شاعر، في هذا الزمن الكئيب، يرغب في إيصال صوته وكلماته أن يبحث عن "فيروز" أصيلة ومبدعة، تجعل من ورقة التوت حريرا، وإلّا سيبقى الشعر مثل أصحابه، يعيش غربة و هزائم تلو هزائم. غنّت فيروز روائع الشّعر، وعرار الكلمات المسكونة بالحب والجمال والحنين والأرض والوطن، والذكريات والشجاعة والكبرياء و الشموخ، والنزعة الإنسانية الصادقة. كرّست بالمحبة والسلم في زمن الحرب والاقتتال المجانيّ، هادلة بروائع "الأخوين رحباني"، اللذين غنّت من كلماتهما حصّة الأسد: "القمر بيضوي عالناس والناس بيتقاتلو عمزارع الأرض الناس عحجار بيتقاتلو نحنا ما عنا حجر لا مزارع ولا شجر أنت وأنا يا حبيبي بيكفينا ضو القمر".
في أسفار فيروز، قصائد ومذاهب أدبيّة متنوّعة، وموضوعات شتى، وموسيقى قزحية، تعجز المناهج المدرسية، والسيلبوسات الجامعية الإحاطة بها.... فيروز مدرسة، وحنجرتها حاضنة بامتياز، للشعر الجميل الراقي. في صوت فيروز رسالة الشعر العربيّ الجميل المموسق. في صوت فيروز عنادل وأزاهير وأرز شامخ وعبهر وسنان وكنارات وحجلان. في موسيقى فيروز الإرث الرحبانيّ الكبير..والسبّاق في اللحن والتوزيع، وصياغة الكلمة المحكية العميقة، العابقة بنورج لبنان، وبيدره وتراثه الأصيل. في صوت فيروز، الطفل والمغارة والقدس العتيقة، لبنان وجبران ورائعته النبيّ،ومصر وشمسها الذهب، والإسكندرية والشام، ووطن النجوم وجارة الوادي، وضفاف بردى وجبل الريان، وأجراس العودة ويارا وشقيق الروح، وناي جبران والمحبة، وجلّنار وحامل الهوى، وألف ليلة وليلة، وأهلا وسهلا و...لبننة العالم. عطّرت فيروز مزهريتها، بباقة قصائد فوّاحة، قطفتها من بساتين عنترة بن شدّد، ولسان الدين بن الخطيب، والصمة القشيريّ، وأبي بكر بن زهر،وابن سناء الملك، وجرير، وابن جبير، وأبي نوّاس، وإيليا أبي ماضي، وبشارة الخوري، وجبران خليل جبران، وأحمد شوقي، ورشدي المعلوف، ورشيد نخلة، وسعيد عقل، ورفيق خوري، وميخائيل نعيمة وميشال طراد،ونزار قباني، وهارون هاشم رشيد،والأخوين رحباني وغيرهم.... ما أحوجنا إلى فيروز، وإلى صوتها الهادل بالمحبّة والصّلاة، في زمن التغريبات، والكوابيس والأشباح، والأقمار والأوطان الهاربة. ما أحوجنا إلى صوتها، في زمن استبدل فيه الإنسان العربيّ "صباح الخير " بـ "ردّني إلى بلادي " أو "شلح زنبق أنا إكسرني على ثرى بلادي". وما أحوجنا إليها في زمن غاب فيه النهار، وأصبحت التحيّة والهويّة هذه " الفيروزة " الحزينة: "ودّعني طيرٌ وقال إلى بلادي أمضي ذكّرني بطردي وكبر السؤالْ غاب نهار آخر... نهار آخر" بنت فيروز من حروف أغانيها ونحتت من "نوتات" موسيقاها، بيوتا وأوطانا للمشرّدين والمغتربين، فقد سكنوا أغانيها، قبل أن تسكن الأغاني فيهم. رسمت فيروز الخارطة الأجمل للوطن، وغنّت الأوطان قبل أن تغترب وتهاجر الأوطان عن أهاليها، وقبل أن يعيش الإنسان العربيّ محنة " خلت من أهلها الدار ". صوت فيروز هو عصر ذهبيّ للأغنية، وزمن مضيء من الشعر، وتنويع قزحيّ من اللحن و الموسيقى.سيسطّر الفنّ والتاريخ "العصر الفيروزيّ" و "الفيروزيات "، على غرار " الموشّحات "، للونها وطابعها وحصادها المميّز، ففي بيادرها غلال وفيرة، و قمح أصيل نظيف خال من الزؤان والغبار. صوت فيروز حبة أسبرين ومتنفّس للإنسان العربيّ، في هذا الزمن الغرائبيّ الكافكاوي بامتياز. أغاني فيروز رحيق منثور، يتضوّع في القلب والعقل. قال فيها الشاعر الراحل أنسي الحاجّ، الذي كان مهوَّسا بصوتها: "غناء فيروز لا يتشنّج، لا يعلو صراخها. قد يضطرّها دورٌ مسرحيّ إلى الصراخ لكنّ غناءها لا يعرض عضلات. أغلبه هَمْس. بوحٌ من حنجرةٍ إلى وجدان. دفءٌ غامر بلا لَهَب التظاهر. هو لَهَبُ السكوت. صوتُ ماسٍ مائيّ. مَن يَحمل مَن على جناحه، الصوت أم اللحن؟ أحيانًا يتبادلان الخدمة، ولكن الصوت مُفْرد وهو محاطٌ بأجمل الألحان. الحقّ أن هذا كان يبحث عن ذاك. إيقاعُ عاصي الرحباني هو الشقيق التوأم لإيقاع فيروز. فيروز الهادئة هادئة على غَلَيان إيقاعيّ لا يتوقّف. تحت جليد الهدوء عروسٌ ترقص في الغابة." أغاني فيروز أيقونة و شهادة شرف، للفنّ الرفيع وللإبداع، وصوتها بلسم ومرهم وشهد، في زمن مرّ وعلقم..سيبقى صوتها هادرا مثل شلال، وستبقى منزلتها في قلوب وعيون عشّاقها، بمنزلة الوطن الذي يسرق حب أبنائه، وهي مرايا وتجسيد لصوت إيليا أبي ماضي في إحدى روائعها: زَعَموا سَلَوتُكَ... لَيْتَهُمْ نَسَبوا إليّ المُمكنا فالمرءُ قد ينسى المُسيءَ المفتري، والمُحسنا والخمرَ، والحسناءَ، والوترَ المرنِّحَ، والغِنَا ومرارةَ الفَقْرِ المُذِل بلى، ولذّاتِ الغِنى لكنَّهُ مهما سلا هيهاتِ يسلو الموطنا
ثمانون وردة لعينيها ولمزهريتها، فيروزتنا..عربون محبة وتقدير.
#سمير_حاجّ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|